حقيقة السقوط الذي تتكلم عنه واشنطن

طالب مساعد وزير الخارجية الأميركي، المسؤول عن علاقة إسرائيل والسلطة الفلسطينية، هادي عمر المسؤولين في تل أبيب بأن يقدموا الدعم الكافي للسلطة الفلسطينية تجنبا لسقوطها. وهو في حال ما حدث سيترتب عليه المزيد من المتاعب والمخاطر الأمنية على الدولة اليهودية.
والحقيقة أن واشنطن اختارت أن تتلاعب بالكلمات، ولكن الغاية الحقيقية من هذا الكلام هي “محاولة إحياء قنوات التواصل بين السلطة والاحتلال من جهة والسلطة وواشنطن من جهة أخرى بعد أن سدت بشكل واضح خلال هذه السنة”.
تكلم هادي عمر عن الخطر المحدق بالسلطة الفلسطينية دون أن يقدم تفصيلا يدعم فرضيته، بينما الخطر الكبير الذي يهدد السلطة لا يأتي في المقدمة من حماس والفصائل الفلسطينية بقدر ما يأتي من إسرائيل نفسها، حماس غير قادرة على ملء الفراغ الذي سيترتب عما تسميه واشنطن بـ”سقوط السلطة وفتح”، فشعبيتها تراجعت بشكل واضح بعد أن استعملت البراغماتية في المواجهة الأخيرة بين الجهاد والاحتلال الإسرائيلي.
أما إسرائيل فهي تزيد من التضييق على الوضع الاقتصادي لسلطة رام الله بالشكل الذي يؤدي إلى إضعافها وفقدانها السيطرة، فهي تقتطع أموال المقاصة، وترفض تسليم مطار القدس الدولي (قلنديا)، وتستمر في فرض القيود الإضافية في المنطقة (جيم)، التي تكلف الاقتصاد الفلسطيني نحو 2.5 مليار دولار سنويا حسب تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، فضلا عن القيود الاقتصادية الأخرى في حركة التجارة والأشخاص من المناطق الخاضعة للسلطة وإليها.
كل هذه العوامل تؤدي وبشكل واضح إلى إضعاف السلطة، وقد تؤدي إلى السقوط الذي يتكلم عنه مساعد وزير الخارجية الأميركي. وهنا يفترض بواشنطن أن توبخ إسرائيل وتحثها على تقديم الدعم الكافي، إذا كانت فعلا تبحث عن تجنب سقوط السلطة كما تدعي.
خطر السقوط الذي تتكلم عنه واشنطن يوجد داخل البيت الإسرائيلي أكثر منه في بيت السلطة، ويمكن أن تسقط حكومة نتنياهو بنفس السيناريو الذي سقطت به ليز تراس في بريطانيا
تأتي هذه المناشدة الأميركية متزامنة مع عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم وقد كانت متوقعة، إذ لا يمكن التمهيد لفترة حكم جديدة لنتنياهو في ظل وجود قنوات اتصال معطلة وعلاقات في أسوأ حال مع رام الله. والواضح أن تصريحا مثل هذا النوع قد يأتي لإذابة الجليد بين محمود عباس ونتنياهو، على اعتبار أن الولايات المتحدة ستحث نتنياهو على أن يكون أكثر اعتدالا مع الفلسطينيين وألا يضطر السلطة الفلسطينية إلى تعليق التنسيق بممارساته التي تزيد من إشعال الأوضاع.
ولكن ماذا عن الجانب الفلسطيني؟ هل هناك استعداد لفتح صفحة جديدة مع نتنياهو؟
الواضح أن السلطة فقدت كامل صبرها ولم تعد تؤمن لا في الخفاء ولا حتى في العلن بوجود فرصة سلام مع إسرائيل، وأصبح محمود عباس لا يكترث لانزعاج الولايات المتحدة أو غيرها من تصريحاته. تكفي فقط الإشارة إلى خطابه أمام المستشار الألماني وحديثه عن الهولوكوست، وحواره الأخير مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وتأكيده على أن السلطة الفلسطينية لا تثق في الولايات المتحدة الأميركية ولا في نواياها ووعودها بالعمل على إحلال السلام في ظل وجود تناقض كبير بين ما تقوله وبين ما تفعله.
الحقيقة أن خطر السقوط الذي تتكلم عنه واشنطن يوجد داخل البيت الإسرائيلي أكثر منه في بيت السلطة، ويمكن أن تسقط حكومة نتنياهو بنفس السيناريو الذي سقطت به ليز تراس في بريطانيا، خاصة وأنه فتح الباب أمام صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة والتي ستشكل حكومة دينية شبيهة بحكم طالبان، تمنع إقامة المباريات الكروية يوم السبت وتفصل بين الإناث والذكور، وتسمح للمظاهر الدينية بالتمدد والانتشار، في نسيج مجتمعي علماني لن يستسيغ فكرة الدولة اليهودية المتشددة.
سيكون هذا بمثابة الشرخ الذي سيحرك الصراع بين مكونات المجتمع الإسرائيلي، المتطرفون سيكونون حتما في مواجهة العلمانيين والعرب المسلمين، ولا ندري كيف سيكون شكل هذا الصراع ولكنه من المؤكد أنه سيضعف إسرائيل من الداخل.
السقوط الحقيقي الذي تتغاضى عنه الولايات المتحدة يأتي من غياب حل الدولتين ودخول عملية السلام في نفق مظلم، سيزيد من الأعباء على المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي تواجه مؤخرا حملة انتقادات كبيرة مردها الفشل الأمني بسبب الثغرات المتكررة التي حصلت، وكان آخرها عملية أرئيل التي أثارت موجة من التساؤلات حول سهولة وصول المنفذ إلى مسرح العملية والوقت الطويل الذي استغرقته المنظومة للقضاء عليه. بالإضافة إلى عملية القدس الأربعاء التي عرفت نقلة نوعية في التنفيذ حيث استعمل فيها التفجير عن بعد، الأمر الذي استدعى وصف العملية من قبل العديد من المسؤولين الإسرائيليين بـ”التطور الخطير للغاية”.