العودة إلى "لوكربي": متهمون جدد أو تنازلات وتعويضات أكبر

أثارت حادثة اختطاف ضابط الأمن السابق أبوعجيلة مسعود لغطا في الأوساط الليبية، حيث يرى كثيرون أن هذه الحادثة تهدف إلى إعادة قضية لوكربي إلى السطح من أطراف تسعى إلى نيل رضا واشنطن لكنها لا تأبه بأن الأمر سيرهن ليبيا لحسابات واشنطن ويفاقم الأزمة الاجتماعية والسياسية في البلاد.
في السادس عشر من نوفمبر الجاري اقتحم مسلحون يرتدون ملابس مدنية منزل الضابط السابق بجهاز الأمن الخارجي أبوعجيلة مسعود المريمي بحي أبوسليم الشعبي بوسط طرابلس، وقاموا بتعنيفه واختطافه واقتياده إلى مكان غير معلوم.
وقالت أسرة أبوعجيلة إن اختطافه جاء تحقيقا لأغراض سياسية ترمي إلى الإضرار بالمصالح العليا للبلاد، مشيرة إلى أن “بعض الأطراف السياسية تحاول استغلال حالة الفوضى والانقسام السياسي من أجل إثارة ملف قضية لوكربي مجددا الذي تم إقفاله قانونيا وسياسيا بموجب الاتفاقية التي وُقعت مع الولايات المتحدة وليبيا عام 2008”.
وفيما أكدت مصادر مطلعة أن أبوعجيلة تم اقتياده من قبل إحدى الميليشيات الموالية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة، إلى مدينة مصراتة، تبيّن أن الأجهزة الأمنية الرسمية لم تكن تعلم بالحادثة فيما أجمع أغلب المراقبين على أن الأمر يتعلق بمحاولة إعادة فتح ملف قضية لوكربي رغم إغلاقه بنص الاتفاقية التي أبرمت بين الدولة الليبية والولايات المتحدة والتي جرى تعزيزها بموجب الأمر الرئاسي الموقع من الرئيس الأميركي جورج بوش رقم 13477 الصادر في الحادي والثلاثين من أكتوبر 2008.
ويشير المراقبون إلى أن الموضوع مرتبط بهيمنة واشنطن على القرار السياسي في العاصمة الليبية التي يسعى مسؤولوها منذ سنوات إلى نيل رضى الإدارة الأميركية، حيث كانت وزارة الداخلية في الحكومة الموازية بطرابلس سلمت واشنطن ما قالت إنها معطيات جديدة حول قضية لوكربي حصلت عليها بتحقيقاتها الخاصة وهي تؤكد تورط رئيس جهاز المخابرات في عهد القذافي عبدالله السنوسي والضابط بالأمن الخارجي آنذاك أبوعجيلة مسعود.
وحاولت وزارة العدل بحكومة الوحدة الوطنية التبرؤ من اختطاف الضابط السابق حيث أكدت أن «ملف قضية لوكربي قد أُقفل بالكامل من الناحية السياسية والقانونية»، وأوضحت أنها تابعت ما يجري تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن إعادة فتح ملف القضية لكنها شددت على أن «هذا الموضوع لا يمكن إثارته من جديد ولا يمكن العودة إليه”.
غير أن هذا البيان لا ينفي التهمة عن حكومة الدبيبة، وإنما يثبت أن القرار كان فرديا أو في إطار ضيّق وخارج المداولات الحكومية لقطع الطريق أمام الخلافات التي قد تحدث، لاسيما أن اختطاف أبوعجيلة أو تسليمه إلى واشنطن سيؤدي إلى تفاقم الأزمة السياسية والاجتماعية في البلاد التي تواجه نذر العودة إلى مربع العنف.
وبحسب أوساط ليبية مطلعة، فإن المريمي كان خلال الفترة الماضية خاضعا لرقابة متواصلة قبل أن يتم اختطافه من قبل السرية 22 التابعة لأمير الحرب عبدالغني الككلي الذي عرف بسيطرته المطلقة على حي أبوسليم منذ العام 2012 ويشغل حاليا منصب رئيس جهاز دعم الاستقرار، ويعرف بقربه من الدبيبة.
وبحسب ذات الأوساط، فإن من غير المرجح أن تكون عناصر أجنبية قد شاركت فيها.
وكانت ليبيا اعترفت عام 2003 بمسؤوليتها عن التفجير ودفعت في ما بعد 2.7 مليار دولار كتعويضات لأسر الضحايا كجزء من مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى التقارب مع الغرب، بعد جهود دولية وإقليمية كان الهدف من ورائها إخراج البلاد من عزلتها السياسية وإعادة إدماجها في المجتمع الدولي من خلال ربط جسور تواصل تدعم علاقاتها مع الغرب.
تسليم أبوعجيلة إلى واشنطن سيؤدي إلى تفاقم الأزمة في البلاد التي تواجه نذر العودة إلى مربع العنف
وخلال العقدين الماضيين، ظهرت جملة من المؤشرات التي تبرئ نظام القذافي من الحادثة، وتؤكد تورط إيران في ارتكابها، لكن دوافع سياسية ومصالح اقتصادية وإستراتيجية جعلت واشنطن تصب كل جهودها في اتجاه واحد وهو ملاحقة عدوها الأبرز في منطقة شمال أفريقيا العقيد الراحل معمر القذافي.
والأربعاء الحادي والعشرين من ديسمبر 1988 انفجرت طائرة تابعة لشركة پان آم للخطوط الجوية الأميركية، أثناء تحليقها فوق قرية لوكربي الواقعة في مقاطعة دمفريز وگالواي بغرب اسكتلندا. وقد نجم عن الحادث موت 259 شخصا هم جميع من كان على متن الطائرة و11 شخصا من سكان القرية حيث وقعت.
وفي نوفمبر عام 1991 تم توجيه الاتهام إلى الليبيين عبدالباسط المقرحي والأمين فحيمة وتسليمهما للمحاكمة.
وفي محاولة لخلط الأوراق من جديد، سلمت الحكومة الموازية بطرابلس في ظل حرب «فجر ليبيا» معطيات جديدة للإدارة الأميركية تتهم أبوعجيلة المريمي بالوقوف وراء تصنيع القنبلة التي تسببت في تفجير الطائرة، وفي أكتوبر 2015 قال المتحدث باسم الحكومة جمال زوبية إن رئيس المخابرات الليبية السابق عبدالله السنوسي والمواطن الثاني أبوعجيلة يشتبه أيضا في تواطؤهما في تفجير طائرة عام 1988 فوق أسكتلندا، وتزامن ذلك مع ظهور فيلم وثائقي تلفزيوني أميركي تم إعداده في السجون الليبية بالتعاون مع السلطات المحلية بعد 2011، تحدث عن الرجلين بوصفهما مشتبه بهما محتملين في تفجير لوكربي.
وفي رد فعل عاجل، أصدر ممثلو الادعاء الأسكتلندي رسالة رسمية تطلب تعاون السلطات في ليبيا للتحقيق مع السنوسي والمريمي.
وفي ديسمبر 2020 عاد اسم مسعود للتداول حين ذكره النائب العام الأميركي ويليام بار، لكن ذلك اصطدم برفض شعبي داخل ليبيا التي يرى جزء مهم من مواطنيها أن الأمر بات أقرب إلى أن يكون عملية ابتزاز بالتواطؤ مع السلطات الحاكمة في طرابلس والتي تعمل على البقاء في الحكم عبر إرضاء واشنطن وإظهار التبعية الكاملة لها كما كان الحال في ظل الحكومات التي تداولت على الحكم في طرابلس منذ أواخر العام 2011.
وفي نوفمبر 2021 عرفت ليبيا سجالا حادا بعد أن تحدثت وزيرة الخارجية بحكومة الوحدة نجلاء المنقوش عن قرار لتسليم مواطنين ليبيين متورطين في القضية جاء على إثر لقاء الدبيبة بمسؤولين في المخابرات الأميركية، وأفادت تقارير محلية أن الدبيبة وعد بتسليم المطلوبين مقابل قبول الحكومة الأميركية بتأجيل الانتخابات والتمديد لحكومته.
وأعلن المجلس الرئاسي وقف المنقوش عن العمل مع منعها من السفر وإحالتها على لجنة تحقيق بتهمة ارتكاب “مخالفات إدارية”، وذلك بسبب تصريحها لهيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” بأنّ طرابلس “مستعدّة للتعاون مع الولايات المتحدة” لتسليمها مشتبها به في قضية تفجير لوكربي.
وقد رفض الدبيبة قرار المجلس الرئاسي، وقال إن المنقوش ستواصل عملها كالمعتاد لكن سعى إلى تأجيل التسليم حتى لا يضر بصورته التي كان يعمل على تلميعها استعدادا لخوض الانتخابات الرئاسية، فيما يرجح محللون محليون أن تصريحات المنقوش كانت بالتنسيق مع الدبيبة الذي يرغب في توطيد علاقاته مع واشنطن بواسطة مساومات على عدد من الصفقات المهمة من بينها صفقة تسليم المريمي.
ويرى متابعون للشأن الليبي أن لا شيء يؤكد تورط ليبيا في حادثة لوكربي، وأن أكبر دليل على ذلك هو أن التحقيقات لم تكتمل منذ أكثر من 30 عاما، رغم أن القضاء الأسكتلندي حكم على المقرحي وقد قضى فترة سجن طويلة معتقلا في سجن قرب غلاسكو ويفرج عنه لأسباب صحية ثم وفاته.
وخلال كل تلك السنوات، كان الليبيون يدافعون عن براءتهم، فيما كانت بعض أصابع الاتهام تتجه نحو إيران التي سبق أن تعهدت في ظل قيادة آية الله الخميني بأن السماء ستمطر دما بعد أن أسقطت السفينة الأميركية فينسينز طائرة إيرانية، ورجحت أجهزة غربية أن طهران، التي كانت تفكر في احتجاز الرهائن الغربيين في لبنان، أمرت بتدمير طائرة بانام بمساعدة “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، المدعومة من سوريا.
ووفق كتاب «لوكربي: الحقيقة» للأميركي دوغلاس بويد، فإن وكالة الاستخبارات بوزارة الدفاع الأميركية أصدرت بيانا في سبتمبر 1989، ذكرت فيه أن «التفجير تم التخطيط له والأمر بتنفيذه وتمويله من جانب وزير الداخلية الإيراني السابق علي أكبر موهتشاميبور، بينما تم الاتفاق مع أحمد جبريل قائد في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتنفيذ العملية»، كما أن التخطيط لإسقاط الطائرة لم يكن في ليبيا وإنما في إيران قبل الحادث بخمسة أشهر.
ونقل صاحب الكتاب عن ضابط سابق بالاستخبارات الإيرانية قوله إن المرشد السابق الخميني قد أمر بالقصاص ردا على إسقاط الطائرة الإيرانية؛ ما يعني إسقاط طائرة ركاب أميركية، وهو ما يعني أن الاستخبارات الإيرانية كلفت جبريل بتنفيذ العملية، والذي بدوره استأجر خبير متفجرات أردنيا يدعى مروان خريسات لصناعة قنبلة يمكنها المرور من أجهزة تفتيش حقائب المسافرين، ويمكنها الانفجار فوق الماء، لتدمر الطائرة وتقتل كل من على متنها ولا تترك أي أثر خلفها.
حكومة الدبيبة تهدف إلى تقديم رأس أبوعجيلة مسعود على طبق من ذهب للقضاء الأميركي لمحاكمته في الولايات المتحدة
ويرى الكاتب الأميركي أن السبب وراء توجيه أصابع الاتهام إلى ليبيا وليس إيران، كان غزو صدام حسين للكويت في أغسطس 1990، وحاجة الولايات المتحدة إلى إذعان طهران، لافتا إلى أن أغلب المشاركين في العملية ماتوا.
وفي أوائل 1997 ذكر مسؤول رفيع في وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي.آي.أي) لمجلة فوكس الألمانية أن الوكالة كانت على علم بأن الجبهة الشعبية تقف خلف انفجار لوكربي، وأكد أن الرئيس جورج بوش الأب لم يشأ توبيخ سوريا لأن هذا كان سيؤثر على رؤيته لإدارة عملية التسوية في الشرق الأوسط.
كما كشف فيلم وثائقي أنتجته شبكة «الجزيرة» القطرية وبثته في مارس 2014 شهادات ووثائق تشير إلى أن إيران كلفت الجبهة الشعبية بإسقاط طائرة لوكربي، ردا على إسقاط الأميركيين لطائرة حجاجها.
واليوم، وبعودة ملف القضية إلى التداول، بات واضحا أن حكومة الدبيبة تهدف إلى تقديم رأس أبوعجيلة على طبق من ذهب للقضاء الأميركي لمحاكمته في الولايات المتحدة بتهمة التورط في قضية مر عليها 34 عاما، وتم غلق ملفها قبل 19 عاما، فيما قد تدفع حيثيات التحقيق من جديد إلى توريط المزيد من الشخصيات الليبية والحصول على المزيد من التعويضات التي لن تكون مالية فقط، وإنما ستكون في شكل المزيد من التنازل عن سيادة الدولة الليبية ومقدراتها في سياق الصراع القائم على النفوذ بالمنطقة.
وقد حذّر مستشار الأمن القومي الليبي بمجلس النواب المستشار إبراهيم بوشناف من إثارة القضية مجددا، داعيا كل الوطنيين والكيانات السياسية إلى «الاصطفاف لمنع ذلك بعيدا عن الصراع السياسي”، معتبرا أن «القضية إن أصبحت موضوعا لتحقيق جنائي فإنها ستُدخل ليبيا في عقود من الاستباحة».
ورفض مجلس الدولة الاستشاري إعادة فتح ملف القضية، وأكد أنه أقفل بالكامل من الناحية السياسية والقانونية، وطالب بتوضيح حالة اختفاء المواطن الليبي أبوعجيلة.
وترجح أطراف ليبية أن يتم الإعلان قريبا عن تطورات جديدة في قضية لوكربي بالاستناد إلى ما سيفرزه التحقيق مع المريمي والذي يجرى بإشراف أميركي مباشر، لكن يبقى السؤال عما إذا كان الهدف من ذلك الاكتفاء بالبحث عن متهمين جدد أو عن تنازلات أكبر وتعويضات أضخم أكبر تقدمها سلطات طرابلس الراغبة في التمسك بالحكم في إطار سياسة الأمر الواقع المدعومة من قبل واشنطن.