تغييرات مشهد السلطة في إيران ترسم مستقبل الشيعة العرب

الاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ أكثر من شهر والتي يرجح مراقبون أنها ستأتي بتغيير سياسي، تفتح باب التساؤلات بشأن مصير الحركات الشيعية في العالم العربي الموالية لطهران ومدى إمكانية تأسيس تيارات شيعية عربية ولاؤها لبلدانها.
سيؤدي أي تغيير سياسي جوهري قد يحدث في إيران التي تشهد احتجاجات مستمرة إلى وقف الأنشطة التوسعية لطهران والحد من نفوذ وكلائها في المنطقة العربية، لكن تختلف القراءات بشأن مستقبل الأوضاع، ورغم صعوبة التنبؤ بماهية مصير الحكومة الدينية وورثتها، فإن السيناريوهات لا تخدم وكلاء إيران والمتعاونين معها في المنطقة.
لن يكون مستوى دعم الحكومة المركزية البديلة لوكلاء إيران في الإقليم، وفي مقدمتهم حزب الله اللبناني، في نفس مستوى دعمهم في السابق، حتى لو فشلت المظاهرات في تغيير النظام أو إذا تولى السلطة نظام عسكري يقوده الحرس الثوري.
يرفع المحتجون في إيران شعارات ضد أطماع النظام الإيراني التوسعية، ما تسبب في الإنفاق المسرف لمليارات الدولارات بالخارج، وكان يمكن أن تسهم في تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية الخانقة على المواطنين.
ينحصر أمل الرافضين لاستمرار نظام ولاية الفقيه في التمكين لحكومة ديمقراطية تقود إلى إجراء تغييرات سياسية وثقافية واجتماعية شاملة وألا يتم استبدال الحكم الديني بآخر عسكري يُبقي الوضع القائم محليًا وإقليميًا على ما هو عليه لأسباب أيديولوجية وإستراتيجية.
استفهامات حول مدى قدرة التيار الشيعي العربي على بلورة مشروع يمثل الشيعة ليصيروا جزءًا من الدولة الوطنية
إذا انقلبت الأوضاع في إيران إلى فوضى شبيهة بالوضع في سوريا وتحولت من دولة احترفت التدخل في شؤون الدول إلى ملعب للقوى الأجنبية، فإن الوكلاء لن يظلوا بنفس قوتهم السابقة.
في ظل التحول الجيوسياسي الحالي، والذي لن يخرج منه النظام الإيراني كما كان قبل اندلاع الانتفاضة، يتجه النظر صوب نخب شيعية عربية خلاف تلك التي ارتضت أن تقتل العرب نيابة عن إيران وتُقتل نيابة عنها.
تفتح التطورات على الساحة الإيرانية الباب أمام تساؤلات بشأن انعكاساتها على فئة تمثل الخط الشيعي العربي غير الموالي لإيران ومشروعها الطائفي التوسعي في الداخل العربي.
وفي لبنان لم تتحول حركة أمل رغم تحالفها السياسي مع حزب الله إلى ميليشيا تابعة لإيران بخلاف من قدموا أنفسهم منذ منتصف الثمانينات كونهم جزءًا من نفوذ طهران، معلنين بلا مواربة أن كل سلاحهم ورواتبهم وتكاليف وجودهم تأتي من طهران.
بالنظر إلى المصير الغامض الذي يكتنف مستقبل الحكم الديني في إيران، تعود هذه الأيام معادلة الشيعة العرب وشيعة ولاية الفقيه إلى البروز.
من المنطقي أن تختلف الموازين إذا طرأت تغييرات كبيرة لصالح قوى وشخصيات شيعية آمنت بأنها جزء من أوطانها وليست جزءًا من أدوات إيران العسكرية والأمنية والسياسية.
تساؤلات الأنصار والأتباع
إذا انقلبت الأوضاع في إيران إلى فوضى شبيهة بالوضع في سوريا، فإن الوكلاء لن يظلوا بنفس قوتهم السابقة
ستدور حركة التاريخ لصالح من رفضوا أن يكونوا وسيلة لإيران وأداة لمشروعها الطائفي على حساب الهوية الوطنية ومصالح الدول والمجتمعات العربية بكافة أشكالها ومذاهبها.
مع اضمحلال وتراجع المشروع الطائفي التوسعي الذي وظف قطاعًا من الشيعة العرب بكامل إرادتهم على مدار سنوات، يُعاد النظر في كافة القضايا والملفات ويتم طرحها وفقًا للرؤية الواقعية والتشخيص المنضبط.
مثال ذلك قضايا الشيعة العرب ومشكلاتهم هي جزء من معادلات الدولة والمجتمع يجري التعامل معها في سياقها الداخلي، وليس باعتبارها ورقة تُوظف ضمن توازنات إقليمية ودولية معينة.
فضلًا عن قضية المقاومة ضد إسرائيل التي جرى استغلالها كستار لتمرير أطماع إيران في المنطقة العربية، فهي كما كانت قبل مزايدات حزب الله واختطافه هذا الملف لحساب طهران هي جزء من معادلات المقاومة العربية واللبنانية.
تضع التحولات الجارية التيار الشيعي العربي في بؤرة الاهتمام في ظل المصير الغامض الذي يلف تيارا شيعيا آخر ربط قادته مصيرهم بمصير النظام الحاكم في إيران، ومهما حاول حزب الله وغيره صد تأثيرات ما يجري حتى لا تطال مكتسباته داخل لبنان، فالأحداث على المدى البعيد لن تكون في صالح ميليشيات تتبع الحرس الثوري الإيراني تحولت بالداخل العربي إلى مصدر للمشكلات والتناقضات.
تهيئ المتغيرات التي تشهدها المنطقة داخل إيران أو داخل الدول العربية الأجواء لشيعة عرب هم جزء من تنوع المجتمع العربي، مثل المسيحيين والسنة، بخلاف من اعتنقوا تصورًا مفاده أن المرشد الإيراني والحرس الثوري هم من يحمونهم ويوفرون لهم الرعاية والدعم أكثر مما توفره الدول التي وُلدوا فيها ويحملون جنسيتها.
الأمل في حركة أمل

تدور أسئلة حول مدى قدرة التيار الشيعي العربي على بلورة مشروع يمثل الشيعة العرب ليصيروا جزءًا من الدولة الوطنية الحديثة بعد كسر غطرسة النظام الإيراني، وعلى حساب كيانات مثل حزب الله المُحبط حيال ما يجري من أحداث في إيران والمُنهك عسكريًا في سوريا وشعبيًا في لبنان.
تُعد حركة أمل التي خاضت معركة عسكرية شرسة مع حزب الله من قبل نموذجًا لهذا التوجه العروبي، تأسيسًا على تاريخها غير الملوث بأبعاد خارجية وغير الخادم لخيالات أيديولوجية.
ظلت الحركة منذ تأسيسها في يوليو 1974على يد الزعيم الشيعي موسى الصدر تعبر عن نفسها في إطارها اللبناني – العربي، وفي حين كان دور حزب الله خدمة المصالح الإيرانية وتقديم مصلحة المذهب على الوطنية وإيصال إيران إلى مستوى القوة العظمى وإزعاج الأنظمة والشعوب، دعت أمل إلى لبننة الشيعة وعدم انحراف انتمائهم عن خط الدولة اللبنانية.
يعارض المنهج الفكري لحركة أمل الذي أصّله موسى الصدر فكرة تحويل الشيعة العرب إلى رعايا إيرانيين، حيث دعا للتعايش الإنساني والتعددية والدولة المدنية العلمانية ضامنة لعدم انقطاع الشيعة عن محيطهم التعددي.
التحولات الجارية تضع التيار الشيعي العربي في بؤرة الاهتمام في ظل المصير الغامض الذي يلف تيارا شيعيا آخر ربط قادته مصيرهم بمصير النظام الحاكم في إيران
تتبنى حركة أمل منهجا فكريا للطروحات التشاركية والتفاعلية وترفض النزوع إلى الطائفية والإقصائية والانفصالية عن المجتمع والمحيط العربي، ما يضعها رقما مهما في واقع لبناني وعربي طبيعي لا كجزء من مشهد إيراني يتمدد على أساس طائفي من قبيل التحريرية الإيرانية.
لم تتقلص إلى اليوم رغم التحالف السياسي الفجوة التاريخية بين حزب الله وحركة أمل التي نظرت إيران إلى مؤسسها الأول بعدم إرتياح، حيث طُرح إسم الزعيم موسى الصدر بوصفه ندًا للخميني.
خرج إلى العلن مؤخرًا الاحتقان المكتوم بين الثنائي الشيعي في لبنان، حزب الله وحركة أمل، والتي تمثل خط الشيعة العرب غير الموالين لنظام طهران، وينُظر إليها تاريخيًا على أنها لا تؤمن بولاية الفقيه.
حاول حزب الله السطو على إنجازات حركة أمل وإغفال تضحيات رموزها وشهدائها، ولم يكن لإيران أي فضل في نشأتها أو دعمها.
وضح هذا الخلاف عشية إطلاق حركة أمل الحملة الإعلامية الخاصة بذكرى اختفاء موسى الصدر، ما دفع حزب الله إلى إطلاق رصاصتي رحمة على صدر حركة أمل في “خلدة وجنتا”، وهما المكانان الأكثر رمزية واللذان يربطان انطلاقة الحركة بحاضرها وأجيالها.
رأت حركة أمل أن حزب الله لم يحترم تاريخها الجهادي ضد إسرائيل ولم يقدر دماء شهدائها في “عين البينة”، وكأن حساب إقليم التفاح لم ينته ولم يترك للأجيال من أمل سوى تاريخ مزور.
وضع حزب الله حجر الأساس لتحويل أول معسكر تدريب أنشأه الحرس الثوري الإيراني في 1982 إلى معلم سياحي، هو الثاني بعد “متحف مليتا للسياحة الجهادية” في منطقة إقليم التفاح.
وبث حزب الله فيلمًا وثائقيًا ينسب معركة خلدة والمقاومين الذين تصدوا لإسرائيل إلى الحزب حسب الدعاية الترويجية للعمل.
وفي جنتا افتتح حزب الله معلمًا للسياحة الجهادية، متجاهلًا رمزية هذا المكان فيما يخص ارتباط كفاح حركة أمل به. وجنتا هي نقطة انطلاق حركة أمل والمكان الذي جعله موسى الصدر معسكرات تدريب وأطلق منه “أفواج المقاومة أمل”.
وعبر جمهور حركة أمل عن غضبه جراء هذا التصرف فشن هجومًا مضادًا نبش خلاله الماضي، واستحضر معركة خلدة بأفلام وصور، موثقًا تاريخ المكان بشهادات شهود عيان لا يزالون أحياء.
الرمزية والهوية العربية
رصد جمهور حركة أمل وثائقيات مرئية لحركة الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله قبل انشقاقه عن حركة أمل في تشييع أحد أبرز شهداء الحركة في معركة خلدة.
استحضر مناصرو حركة أمل تاريخ حزب الله الدموي واغتيال أبرز قادة الحركة، في إشارة إلى أن الحزب داس على وحدة الصف الشيعي واستهدف رموز وقادة أمل.
دفعت هذه التطورات قيادات الحزب والحركة إلى تعميم بيان على وسائل جاء فيه “بعد انتشار التعميم المتعلق بمعركة خلدة تم التواصل بين قيادتي حركة أمل وحزب الله الذي أكد على حصول خطأ وتمت معالجة الأمر”.
ورغم التوافق السياسي الظاهر والمصالح المشتركة يعتبر جمهور حركة أمل أن حزب الله جاء ليزحزح كيانهم عن مكانته التاريخية، بل يعتبره حركة علمانية متمردة على تعاليم الإمام المعصوم وعلى دولة الولي الفقيه.
رغم مقدرة حزب الله على الاستمرار سنوات بمعزل عن رعاته الإيرانيين، إلا أنه لا يمتلك ما يجعله قادرًا على المواصلة بوصفه الطرف الأقوى في لبنان
وأول ما رفع حزب الله سلاحه كان ضد عناصر حركة أمل المحسوبة على الشيعة العرب، وتُعتبر هي الحركة الأم للشيعة في لبنان وتتولى أمورهم وتتفقد أحوالهم، حتى جاء حزب الله بدعم إيران ينافسها ويحتل مكانتها.
وإذا حدث تغيير في نظام الحكم في إيران، فإنه يمكن أن يضعف مختلف الميليشيات الشيعية المسلحة في جميع أنحاء المنطقة بمن فيها حزب الله، وهو ما يصب على المدى المنظور في صالح حركات شيعية أخرى نشأت بأيدي العرب ولا تدور في مدار المرشد الأعلى.
لن يحدث التحول لصالح الحركات الشيعية العربية بين يوم وليلة لأن سقوط حكام النظام الديني الإيراني لن يؤدي سريعًا إلى انهيار وكلائه الإقليميين الذين يحوزون الآن أدوات قوة محلية وذاتية.
رغم مقدرة حزب الله على الاستمرار سنوات بمعزل عن رعاته الإيرانيين، إلا أنه لا يمتلك ما يجعله قادرًا على المواصلة بوصفه الطرف الأقوى في لبنان، وسوف يكون الشيعة في هذا البلد بحاجة إلى صيغة تعايش مختلفة تجعلهم قادرين على التأقلم مع المتغيرات بمعزل عن مشاريع الثورة الإسلامية والنزعات الطائفية التوسعية.
تمتلك الحركات الشيعية ذات الولاء اللبناني والهوية العربية المشروع والبرنامج والتاريخ الذي يؤهلها لاستعادة الشيعة اللبنانيين المختطفين ليشاركوا باقي أطياف المجتمع اللبناني من مسيحيين وسنة ودروز الحياة الاجتماعية والإنسانية ومجابهة التحديات المشتركة.