جماعة الإخوان فقدت عقلها المنحاز إلى المناورة السياسية مع القاهرة

رحيل إبراهيم منير يقوض المواءمة بين أهداف الجماعة وأدواتها.
الأحد 2022/11/06
رحيل إبراهيم منير يزيد إرباك الجماعة

بموت إبراهيم منير تفقد جماعة الإخوان المسلمين أحد أبرز البراغماتيين، لكونه سعى إلى إقناع السلطة بأن مجموعته تمثل تيارا إصلاحيا يمكن أن يعيد تصويب العلاقة مع النظام ويقدم تنازلات كبيرة لأجل ذلك. وعمل إبراهيم بهذه البراغماتية على تحرير الجماعة من التيارات التي تميل إلى التصعيد والرهان على العنف.

القاهرة- فقدت جماعة الإخوان بوفاة القائم بأعمال مرشدها إبراهيم منير أحد الرموز الداعية إلى إصلاح التنظيم وإعادة دمجه وتدويره في المشهد السياسي المصري، حيث حاول قبل وفاته في لندن الجمعة الاعتراف ببعض أخطاء جماعته عارضًا تقديم تنازلات مؤلمة للقاهرة وإن تطلب الأمر التخلي عن المنافسة على السلطة واعتزال النشاط السياسي.

وعُدت المبادرة التي طرحها منير قبيل وفاته الطريقة الأكثر واقعية لإنقاذ التنظيم المفكك والمنقسم بعد الفشل في العودة مرارًا بشتى السبل، رغم أنها بدت في الظاهر تجسيدا لضعف الجماعة واقترابها من الانهيار.

يضاف إلى ذلك عرضه المشاركة في الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسي، ما يعني الاعتراف بالنظام السياسي الحالي وعدم مناكفته وإعاقة مسيرته، لكن هذا لم يمنعه من أن يتبنى تكتيك الحشد والحضّ على التظاهر، وهو يعلم أن الجماعة فقدت تأثيرها في الشارع.

◘ يحرم الفراغ جماعة الإخوان من مواصلة الطريق الأوحد لإنقاذها وهو عودتها إلى الداخل متبعة سياسة التسلل التدريجي

وفي الوقت الذي راهن فيه جناح الكماليين (نسبة إلى القيادي الإخواني الراحل محمد كمال) والعديد من عناصر الإخوان من المقيمين في تركيا وغيرها على الضغط بالحض على التظاهر والعنف في ظل نفور شعبي من هذه الدعوات ووجود قبضة أمنية محكمة من الصعب تخطيها للقيام بإثارة الشغب والفوضى، ظل إبراهيم منير يعوّل على العودة من خلال استعداده لعقد ما يشبه الصفقة مع النظام، وكلها تكتيكات تبدو متناقضة، غير أنها كشفت إلى أي درجة كان الرجل حريصا على إيجاد منفذ للجماعة تعود منه إلى المشاركة السياسية في مصر.

أزمات مركبة

كانت الخطة التي تبناها (لو كُتب لها النجاح ولو جزئيًا) كفيلة بإحداث فارق هائل لتنظيم يعاني من أزمات مركبة، حيث تنقل الجماعة من حالة التشتت ووصمها بالإرهاب والإجرام والخيانة إلى وضعية تعامل فيها كطرف مشارك ولو مرحليًا تحت ستار العمل الدعوي والاجتماعي إلى حين إعادة البناء، وقد تحقق الحد الأدنى من الأهداف التي عجزت الجماعة عن تحقيقها بالعنف والمتعلقة بالعفو عن قادتها وحل أزمة عناصرها المسجونة والهاربة.

أما ما يتبناه جناح كل من محمد كمال ومحمود حسين بشأن التصعيد فمآلاته تكريس عزلة الجماعة وإبقاء أغلب قادتها وكوادرها موزعين بين السجون والمنافي، ومواصلة التعاطي معها بوصفها كيانا غير قابل للإصلاح وغير مؤهل للاندماج في النسيج المجتمعي.

وأصدرت جبهة لندن بزعامة إبراهيم منير قبل وفاته وثيقة عبرت فيها عن رؤيتها وإستراتيجيتها للمرحلة القادمة، معلنة انسحابها من الصراع على السلطة في مصر، وزاعمة أن مهمتها السياسية بعد عام 2011 لم تكن الوصول إلى الحكم بل التعاطي مع ما وصفته باللحظة الحرجة، وشددت على أن أولوياتها الآن هي إخراج المعتقلين والمصالحة والشراكة الوطنية.

◘ جماعة الإخوان فقدت بوفاة إبراهيم منير أحد الرموز الداعية إلى إصلاح التنظيم وإعادة دمجه وتدويره في المشهد السياسي المصري
جماعة الإخوان فقدت بوفاة إبراهيم منير أحد الرموز الداعية إلى إصلاح التنظيم وإعادة دمجه وتدويره في المشهد السياسي المصري

وحددت الجبهة الوسائل التي تتبعها لتحقيق أهدافها، بدءْا بتجاوز الصراع على السلطة مرورًا بمخاطبة الرأي العام المصري وتوعيته ووصولًا إلى توجيه النصح للحكومة أو معارضتها.

وطوت هذه الخطة إحدى أكثر مراحل جماعة الإخوان تعقيدًا وصعوبة بعد مشاركة كارثية فيما عُرف بـ”الربيع العربي” وفشل ذريع في السلطة إثر سيطرة على البرلمان بغرفتيه (مجلسيْ النواب والشورى) وتشكيل حكومة وتولي إخواني منصب رئاسة الجمهورية، ثم الانحدار إلى العزل وإعلان الحرب على الدولة والتحول إلى الانقسام بعد تلقي هزيمة مُنكَرة.

إعادة بناء التنظيم

أخفت التكتيكات التي طرحها إبراهيم منير قبل وفاته خططًا طويلة المدى لإعادة بناء تنظيم الإخوان من القاع إلى القمة، متبعا منهج مؤسس الجماعة الأول حسن البنا الذي سارع، عقب إعلان الحكومة المصرية حظر الجماعة إثر قيامها بأعمال عنف واغتيالات خلال العهد الملكي، إلى التبرؤ من مرتكبي العنف تحت زعم انشقاقهم وتعهده بعدم ممارسة السياسة أو الترشح في الانتخابات مكتفيًا بالعمل الدعوي.

وهي الخطة الإنقاذية التي نجح قادة الجماعة من خلالها في إعادة بناء التنظيم والبدء في التسلل التدريجي إلى المجتمع والمؤسسات والهيئات، سواء فيما يتعلق بالسلوك المراوغ الذي اتبعه مرشد الجماعة الثاني حسن الهضيبي، أو فيما اتبعته الجماعة خلال بداية السبعينات من القرن الماضي عندما أخرج الرئيس الراحل أنور السادات قادتها من السجون.

وتلعب هذه الخطة، حال النجاح في تنفيذها، الدور الأكبر في إخراج الجماعة من أزماتها عقب التعرض لنكسات كبيرة، مُسهمة في استعادة القوة والنفوذ تدريجيًا، بينما يعرّض السلوك العنيف الجماعة للانكشاف، وهو ما تعلمته الجماعة من تجربة تنظيم 1965 الذي حاول به سيد قطب الانقلاب المسلح على نظام الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر.

وتجنبت جماعة الإخوان تكرار هذه التجربة بشكل مباشر، واستبدلت ذلك بتفريخ جماعات جهادية بعناوين أخرى تتحمل فاتورة العنف فيما تجني الجماعة ثماره في هيئة مكاسب سياسية، وهي الإستراتيجية التي استمرت طيلة عقود السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.

ولم تتبن جماعة الإخوان بعد تجربة تنظيم سيد قطب العنف بشكل مباشر إلا إثر عزل الجماعة عن السلطة في مصر بتشكيل اللجان النوعية المسلحة وخلايا “حسم” و”لواء الثورة” التي أشرف عليها القيادي الراحل محمد كمال، وهو عضو مجلس شورى الجماعة ومُلهِم جبهة الكماليين.

وحرص قادة جماعة الإخوان داخل مصر، وفي مقدمتهم محمود عزت، أو في الخارج، وفي مقدمتهم إبراهيم منير، على تحييد الكماليين وعزلهم عن قيادة الجماعة بعد فشل تكتيكات الحشد وتشكيل خلايا مسلحة، تمهيدًا للعودة مجددًا من نقطة الصفر والبدء في تنفيذ خطة البناء التدريجي.

تحييد الكماليين

◘ أصدرت جبهة لندن بزعامة إبراهيم منير قبل وفاته وثيقة عبرت فيها عن رؤيتها وإستراتيجيتها للمرحلة القادمة، معلنة انسحابها من الصراع على السلطة في مصر

قد تعطي وفاة إبراهيم منير وعدم وجود خليفة له من تياره بقوته ورمزيته، زخمًا لجبهات منافسة داخل الجماعة تتبنى خيارات حادة. وكلفت الجماعة الجمعة محيي الدين الزايط بخلافته بشكل مؤقت.

ويحرم الفراغ جماعة الإخوان من مواصلة الطرق على باب الطريق الأوحد لإنقاذها وعودتها متبعة سياسة التسلل التدريجي والنفس الطويل.

وبعد أن أسهم محمود عزت في عزل جبهة الكماليين وسحب مقاليد إدارة الجماعة من قادتها بين عامي 2016 و2017 صرح في أحد التسريبات التي أذيعت بعد القبض عليه بأن مهمته العودة إلى ما قبل عام 2011، ويقصد العودة إلى ما كانت عليه الجماعة خلال فترة حكم الرئيس الراحل حسني مبارك.

ولم تصل الجماعة إلى ما وصلت إليه في ذلك الوقت إلا بعد ثلاثة عقود من العمل والتسلل والبناء الدؤوب وفقًا لمعادلة يتلقى النظام بمقتضاها الولاء المعلن من الجماعة، مقابل تمكينها من الشارع، وتمكنت من إعادة بناء هياكلها من القاع إلى القمة.

وبفضل هذه الإستراتيجية التهمت الجماعة الشارع في صمت وتسربت داخل الهيئات والنقابات وأقامت المشاريع والاستثمارات في مجالات عدة ودخلت البرلمان بكثافة وتحكمت في عدد من المساجد والجمعيات الخيرية.

ولم تكن هذه الجماعة، التي تأسست عام 1928 وقُتل مؤسسها وهو في ريعان شبابه وتعرضت لمحن وأزمات كبيرة بعد كل صدام مع السلطة، لتصل إلى ما وصلت إليه إلا عبر البناء من أسفل والتوغل في المجتمع.

حرج تركي وأوروبي

◘ برع الراحل على مدار عقود، ومعه العديد من قادة الجماعة النافذين من المقيمين في الولايات المتحدة وأوروبا، في التغطية على قناعات وهوية الإخوان الحقيقية والتسويق لها كونها براغماتية وديمقراطية ومتنوعة
برع الراحل على مدار عقود، ومعه العديد من قادة الجماعة النافذين من المقيمين في الولايات المتحدة وأوروبا، في التغطية على قناعات وهوية الإخوان الحقيقية والتسويق لها كونها براغماتية وديمقراطية ومتنوعة

انهار هذا كله بداية من عام 2013 وباتت الجماعة من خلال مبادرات إبراهيم منير المتكررة بصدد طي مرحلة الصراع والمواجهة والبدء من القاع مجددًا وفقًا لإستراتيجية الاندساس والتغلغل التدريجي.

ويعود عدم تجاوب الحكومة المصرية مع طرح إبراهيم منير إلى إدراكها مقدار خطورته على خلفية درس تجربة مرحلة حكم الرئيس مبارك.

وبعد التغافل عن تغلغل الجماعة لفترة طويلة بذلت الأجهزة الأمنية جهودًا مضنية لتفكيكها، وهو ما كلف تضحيات وأعباءً معنوية ومادية كثيرة.

ويحرم غياب إبراهيم منير عن مشهد الإخوان النظام التركي من ورقة مهمة طالما ناور بها في سياق محاولات انفتاحه على القاهرة، حيث جرى توظيف جبهته لإظهار الجماعة في صورة معتدلة وتبادر بدعوات الصلح.

وتزيد وفاة إبراهيم منير من حدة أزمة جماعة الإخوان داخل دول أوروبا، وفي حين تتخذ العديد من الدول الغربية إجراءات لتضييق الخناق على أنشطة الجماعة ومصادر تمويلها تترك أحد أهم رموز ووجوه الجماعة ممن لهم علاقات متشعبة ومتينة مع أجهزة وهيئات وشخصيات غربية نافذة.

وبرع الراحل على مدار عقود، ومعه العديد من قادة الجماعة النافذين من المقيمين في الولايات المتحدة وأوروبا، في التغطية على قناعات وهوية الإخوان الحقيقية والتسويق لها كونها براغماتية وديمقراطية ومتنوعة.

 

4