العراقيون لا يحلمون

تسعى الشعوب الإنسانية خاصة ذات الإرث الطويل والعميق إلى الحفاظ على خصائص وميزات اكتسبتها بعد تحويل أحلامها إلى حقائق ثورية في الواقع الإنساني في ترابط جدلي بينها وبين الإنسان الفرد الثوري الحالم بالتغيير. هذا الترابط ليس نمطاً ميتافيزيقا، بل تعاملا واقعيا يصنع التغيير في المجتمعات.
لعل أخطر ما تواجهه الشعوب الكبرى هو تعّطل حلمها بفعل قوى هدم كبرى تمثل نمطاً معاكساً للحياة وتطورها كقوى التخلف الديني والمذهبي التي هبطت على إيران وانتشرت كالسرطان في المنطقة. مثل هذه المعادلة “الحلم” لا تحصل لدى الشعوب الناشئة الصغيرة التي قد تطيح بوجودها وتزيلها القوى الطامعة الكبيرة.
اختلال هذه المعادلة الإنسانية وتعطّل خاصية الحلم الجمعي وتراجع أو توقف حركة الشعب عن الفعالية الإنسانية لدرجة اقترابه من الموت يعني أن عائقاً كبيراً قد وقع. وهذا ما أصاب شعب العراق في التاسع من أبريل 2003 بعد أن قُتلت دولتهم الناضجة وهي بعمر 82 عاماً في أقبح مؤامرة لم تحصل لأيّ شعب من شعوب العالم في تزوير بشع للتاريخ العربي الإسلامي حمله مشروع تصدير ثورة الخميني الإيراني ليضرب به العراق قبل غيره بتأييد من الإرادة السياسية للاحتلال الأميركي.
◘ بايدن في الملف العراقي الذي يدعي أنه أشرف عليه لسنوات حين كان رئيساً للجنة الخارجية بالكونغرس لم يكن صادقاً ونزيهاً. حمل بحماسة مشروع تقسيم العراق طائفيا
قبل تعطيل حلم العراقيين كان المطلوب وضع “بلوك” أي إقامة عزل “إرهابي” قاس بينهم وبين ماضيهم القريب الذي هدم معماره الاحتلال. شعب لديه قوة بشرية متميزة في عقلها الإنساني، تمكّن من التعاطي بفعالية عالية في أصعب ظروف حصار ظالم لأربعة عشر عاماً. دولتهم بغض النظر إن كان النظام السياسي دكتاتوريا أم لا، ذات مؤسسات عريقة وراسخة في التعاطي بنزاهة مع الظروف المحلية الاقتصادية والاجتماعية، والخروج بحلول مقنعة حافظت على وحدة المجتمع العراقي وتماسكه وأمّنت غذاءه وصانت كرامة أبنائه.
جميع وسائل عزل شعب العراق عن ماضيه ومنع وسائل حياته وضعتها إدارات واشنطن بيد أدوات محلية سُمّيت “سياسية عراقية” لتواصل تنفيذ هذا المشروع الخبيث، بعد أن منحوها وظيفة حكم العراق. يبدو أن المهمة لم تكن صعبة عند الممتلئين حقداً وكراهية لو لم تكن الطائفية غطاء لهم لابتدعوا غطاء أكثر لؤماً وحقداً على شعب العراق.
مجموعة من المتسكعين في طهران ودمشق ولندن بعضهم كانوا هاربين من خدمة الجيش الوطني وانضم البعض منهم إلى الحرس الثوري الإيراني في أكثر صور الخيانة العظمى بشاعة، أصبحوا مسؤولين في بعض فصائله خلال حرب إيران ضد العراق والبعض الآخر محكومون بقضايا تتعلق بسرقة المال العام.
صدمات عنيفة متتالية نفذها أشرس وأقبح تحالف لم يُظهر وجهه الحقيقي الكامل إلا بعد وقت غير قليل بين قوى الاحتلال الأميركي والفصائل إيرانية المنشأ عراقية الوجه توحدت في هدفها الرئيسي لقتل الروح العراقية واختلفت في طرقها وأساليبها حتى كادت تبدو الواحدة خصماً للأخرى، كل ذلك من أجل دقة الوصول إلى أهداف تفتيت شعب العراق طائفياً.
كانوا وما زالوا الروّاد الأوائل لقتلة الحلم العراقي هم زعماء الأحزاب الشيعية، لم يغادروا مواقعهم وأدوارهم التدميرية خلال العشرين سنة الماضية، هناك إصرار على بقاء ذات الوجوه الأولى باعتقاد أنهم الأكفأ والخوف من مسكه بأيادي ثانوية ضعيفة قد تفلت منها الأمور. الآن يجددون مواصلة ذات الدور عبر صناعة أدوات تنفيذية تحت إشرافهم تسمّى حكومات لكنّها قنوات تعبير الثروة والمال إلى دهاقنة المافيا الكبار، لضمان عدم وصول الحدود الدنيا لاستمرار حياة هذا الشعب، وبقائه خارج المعادلة بعد غياب الدولة.
بسبب استمرار الدعم الخارجي للمشروع الخبيث ضد العراقيين وقع رواد التنفيذ في وهم أنهم ناجحون في مهمتهم وأن أسماء أبطالهم زعماء الأحزاب الشيعية معروفة لا تحتاج لذكر. لكن الحقيقة أنهم غارقون في مستنقع قذر، لو أصبحت الظروف السياسية في العراق طبيعية، وهذا قد يحصل مستقبلاً، لانكشفت حقائق مذهلة لتوّرطهم الخبيث في محو المرتكزات الأصيلة لهذا الشعب.
مثال واقعي سريع لا يحتاج إلى تفصيلات هو تشكيلة الحكومة الأخيرة قبل أيام. طاقمها مجموعة من ذات العالم المصنوع من قادة تعطيل حلم العراقيين. أكثر الوزراء نزاهة عسكري سابق عليه سجل هروب من الجيش السابق لثلاث مرات حسب أنباء التواصل الاجتماعي ويصبح وزيرا للدفاع.
أبطال المهمة المستمرة ذواتهم يعتقدون أنهم ما زالوا يربحون فصولها، مقياسهم وجرس إنذارهم هو استمرار تدفق النهب المالي لخزائن أموال الشعب العراقي المحكوم بالموت، هم غير مكترثين بما تسمّى “ظواهر التعويق العابرة ” لشغلهم، تمثلت في حالة الرفض الشكلي لأحد قادتهم المتمرد الشيعي الوديع، أو ثورة الشباب التي قدمت 800 شهيد و25 ألف جريح ذهبت تراتيل جنائزية لمسرحية “قتل حلم شعب”.
هذه المجموعة الخبيثة سارقة الحلم تعلم أن شعب العراق خارج اللعبة بعد تعطيل قدراته الجمعية من الحلم وتجريده من أبسط إمكانيات الحياة، كانت أبشع شكل من أشكال جريمة العصر استفرادهم بمجموعة فدائية من شباب العراق وقتل أبرز ناشطيهم تحت رعاية رئيس الوزراء وإشرافه.
◘ أخطر ما تواجهه الشعوب الكبرى هو تعّطل حلمها بفعل قوى هدم كبرى تمثل نمطاً معاكساً للحياة وتطورها كقوى التخلف الديني والمذهبي التي هبطت على إيران وانتشرت كالسرطان في المنطقة
العالم الكاذب المخادع بعناوين حقوق الإنسان كان يتفرج على مسرحية الموت في العراق عامي 2019 و2020، لم يقدم حتى إدانة صحافية لما جرى كأنه حصل في عالم آخر أو رواية عن قصة من قصص المستبدين والحكام الدكتاتوريين في العصور الوسطى.
لم يفاجأ العراقيون من مواقف دول العرب الذين تفرجوا على مشهد القتل صامتين، رغم أن العراقيين وصلوا في تفانيهم ودفاعهم عن قضية فلسطين درجة القتال والاستشهاد. قصة دفاع العراقيين بدمائهم لمنع تدفق جيش إيران وحرسها الثوري إلى الكويت ودول الخليج خلال حرب الثمانينات معروفة كانت نتائجها استشهاد أكثر من عشرين ألف شاب عراقي من دون منّة في معركة شرق البصرة عام 1982. لكن عرب الخليج للأسف لم يردوا لهم جزءاً من الواجب بعد أن أعطاهم رئيس النظام السابق مبرر التغطية في احتلاله للكويت عام 1990، لكن ذلك ليس مبرراً للتخلي عن العراقيين بعد مرور ثلاثين عاماً.
جو بايدن الرئيس الأميركي الذي يتبجح مع حزبه بشعارات حقوق الإنسان يكذب على الأميركيين وعلى العرب والعراقيين، بنظرة منغلقة ممجوجة جعل من ملف الصحافي السعودي جمال خاشقجي قصته الأولى في سحب علاقة أميركا بالسعودية سنوات طويلة إلى الخلف، رغم أنها قضية قتل مدانة تم الاعتراف الداخلي بها وتسويتها.
بايدن في الملف العراقي الذي يدعي أنه أشرف عليه لسنوات حين كان رئيساً للجنة الخارجية بالكونغرس لم يكن صادقاً ونزيهاً. حمل بحماسة مشروع تقسيم العراق طائفياً، واصطف أخيرا إلى جانب قتلة 800 شاب وشابة عراقية بدعمه السياسي والأمني لحكومات السرقة والنهب وقتل الأبرياء. بل وجه سفيرته في بغداد آلينا رومانوسكي بدعم الحكومة الجديدة.
العراقيون رغم الحالة الاستثنائية التي يعيشونها بكونهم خارج معادلة التفاعل السياسي والاجتماعي بعد سرقة حلمهم لديهم مخزون بتفصيلات ملف الجريمة وأبطالها الرئيسيين والثانويين. لن يطول الوقت كثيراً. ستجد الأدوات المحلية نفسها عارية بلا أغطية. أما سرقة الأموال والثروات، فليسوا هم أوائل السراق الذين ينتهون إلى مصير أسود ويستيقظ هذا الشعب من سباته المؤقت ويسترد حلمه.