المحكمة الدولية في ذكراها العشرين.. هل هناك ما يستحق الاحتفال حقا!

من الصعب إثبات الجرائم التي ترتكبها الأنظمة السياسية والتنظيمات المسلحة بدقة: من اتخذ القرار وأصدر الأمر ومتى؟ كلها تبقى تخمينات ما لم يتم إثباتها بأدلة وقرائن تصمد أمام المحاكم والقضاء.
الجمعة 2022/09/16
في غياب العدالة

المحكمة الجنائية الدولية تحتفل هذه الأيام بمرور عشرين سنة على إنشائها. لكن هل هناك ما يستحق الاحتفال به وسط ما نعيشه من أحداث؟

نظرة سريعة حول العالم تكفي لتكشف لنا وجود المئات من المسؤولين الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية، ونجوا بأفعالهم دون أن يحاسبهم أحد!

لماذا، مثلاً، لم يتم توجيه الاتهام للنظام السوري على جرائم ارتكبت بحق الملايين من السوريين؟ أو إلى قادة الحرس الثوري وأزلامهم حزب الله والحشد والحوثي على جرائم ارتكبت في لبنان والعراق واليمن؟ أو إلى نوري المالكي على تسليمه بلاده بساكنيها إلى التنظيمات والميليشيات الإرهابية؟ وأخيراً وليس آخراً إلى بوتين الذي استباح جارته أوكرانيا وشرد وقتل شعبها ولا يزال. وهو ما اقترفه أيضا من قبل في القرم وجورجيا والشيشان وحتى سوريا؟ ربما لأن العالم لا يزال غير عادل 100 في المئة.

ربما كان السبب أيضا أن القانون معقد، خاصة عندما يتقاطع مع السياسة، إذ يتم في هذه الحالة ليّ عنق الحقائق لتنتصر المصالح والبراغماتية على العدالة والأخلاق.

من الصعب إثبات الجرائم التي ترتكبها الأنظمة السياسية والتنظيمات المسلحة بدقة في الواقع؛ من اتخذ القرار؟ ومن أصدر الأمر؟ ومتى؟ كلها تبقى تخمينات وآراء، ما لم يتم إثباتها بأدلة وقرائن تصمد أمام المحاكم والقضاء.

الضغط على زعيم الكرملين آخذ في الازدياد، وربما تسود العدالة يوماً ما، وينتهي الأمر به إلى حيث ينتمي، أي خلف القضبان

لا يمكن طبعاً إنكار أن المحكمة الدولية قامت ببعض الجهد الذي يستحق الإشادة والتقدير فيما يتعلق بقلة من الحكام، مثل الزعيمين الصربيين سلوبودان ميلوسوفيتش ورادوفان كاراديتش؛ مات الأول في السجن خلال المحاكمة، فيما حُكِم على الثاني بالسجن المؤبد بتهمة ارتكاب جريمة إبادة جماعية في مذبحة سريبرينتشا التي استهدفت قتل كل ذكر سليم جسدياً في المدينة والقضاء بشكل ممنهج على الجالية المسلمة البوسنية، كما اتّهِم بالاضطهاد والترحيل القسري والتطهير العرقي فيما يتعلق بحملته لطرد البوسنيين والكروات من القرى ذات الغالبية الصربية.

أو الزعيم الكونغولي بوسكو نتاغاندا، الذي ذبح المدنيين وأدين بممارسة الاستعباد الجنسي وأجبر الأطفال على حمل السلاح، والذي حكمت عليه محكمة لاهاي بالسجن 30 عاماً لارتكابه جرائم ضد الإنسانية. أو مواطنه توماس لوبانغا، الذي نشر الرعب في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وحكمت عليه المحكمة الدولية بالسجن 14 عاماً بتهمة تجنيد الأطفال مع جرمان كاتانغا الذي أدانته المحكمة بالسجن 12 عاماً.

ومؤخرا أحمد المهدي من مالي الذي أدانته المحكمة بالسجن 9 سنوات مع دفع تعويضات مالية قدرها 2.7 مليون يورو لسكان مدينة تمبكتو لهجومه على مبان دينية وتاريخية. بالإضافة إلى خمسة زعماء ميليشيات من جمهورية أفريقيا الوسطى حُكم عليهم بالسجن لعدة أشهر. كما حاكمت المحكمة العديد من المجرمين المشتبه بهم الآخرين، لكنهم إمّا هربوا أو ماتوا، وبرّأت قلة.

أغلب هؤلاء كان لديهم شيء واحد مشترك، هو أن معظمهم من أفريقيا وارتكبوا جرائمهم هناك، ولهذا كان القبض عليهم ومحاكمتهم سهلاً نسبيا، مقارنة بنظرائهم في دول لا يزال التعامل مع حكامها المتهمين بجرائم ضد الإنسانية خاضعاً لمساومات السياسة.

لا يمكن أيضاً إغفال أن هناك ثغرات قانونية تعيق عمل المحكمة الدولية، منها مثلاً عدم امتلاكها لسلطة قضائية عالمية. فسلطتها تقتصر فقط على محاكمة مواطني دولها الأعضاء البالغ عددها 123 دولة وما يحدث على أراضي تلك الدول. إذ لم يصادق العديد من الدول على نظامها الأساسي، نعم توجد وحدثت استثناءات، لكن يجب أن يتم التقدم بطلب للحصول عليها صراحةً من قبل دولة غير عضو، والخضوع لإجراءات معقدة، تتطلب كثيراً من الإحالات القضائية التي ينبغي أن تثبت بـ”الجرم المشهود” ما يدين المُدّعى عليه، وهذا يتطلب بدوره جملة إجراءات قانونية ينبغي على المُدّعي أن يثبتها وفق ما يطلق عليه في الأعراف القانونية بـ”جناية موصوفة”.

هذا من جانب. من جانب آخر، الإجراءات ذاتها معقدة للغاية، ذلك أن أطراف القضية يجب أن يكونوا حاضرين أثناء تلاوة الحكم وتوجيه الاتهامات. لكن كإجراء بديل هنالك اختصاص قضائي عالمي ضمن ما يعرف بالولاية القضائية العالمية، يمكن بموجبه محاكمة مرتكبي الجرائم الدوليّة بغضّ النظر عن مكان ارتكابها ومكان وجنسية المُدّعي أو المُدّعى عليه. وهو ما حدث مع مجموعة لاجئين سوريين قاموا برفع قضية في مقاطعة كوبلنز الألمانية. لكون الوصول إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة كان ولا يزال متعذراً أمام أمثالهم. وقد نظرت محكمة المقاطعة بالفعل في القضية وحكم على ضباط سابقين في استخبارات النظام السوري بالسجن مدى الحياة بعد إدانتهم بارتكاب جرائم بحق معتقلين، بينها قتل وتعذيب.

لا يمكن إغفال أن هناك ثغرات قانونية تعيق عمل المحكمة الدولية، منها مثلاً عدم امتلاكها لسلطة قضائية عالمية. فسلطتها تقتصر فقط على محاكمة مواطني دولها الأعضاء

البعض انتقد محاكمة شخصين كانا مجرد أدوات، بينما النظام الذي استخدمهم ما زال في السلطة ويُعاد تسويقه دولياً، فيما رأى البعض الآخر أنه أضعف الإيمان.

لكن حتى هذه الإجراءات ما تزال معقدة وحساسة سياسياً، وإذا نجحت مرة فقد لا تنجح كل مرة. وغالباً ما تتم محاسبة الصغار وترك الكبار. هذا ما يحدث للأسف منذ قرون ولا يزال سارياً إلى اليوم، رغم التطورات التي طرأت على القانون الدولي وآليات تنفيذه.

لماذا لم يمثل بوتين أمام محكمة دولية، رغم أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أعلن في 2 مارس الماضي فتح تحقيق فوري بالوضع في أوكرانيا حول جرائم حرب التي حدثت فيها؟ والإجابة تكمن في سلسلة أخطاء سابقة ارتكبتها بعض حكومات الغرب التي أرخت الحبل لبوتين، بدلاً من أن تضع القيود في يديه وتسوقه من الكرملين إلى المحكمة الدولية ليحاكم على جرائم ارتكبها في الشيشان والقرم وجورجيا، والتي تم التغاضي عنها لمصالح اقتصادية بات يستخدمها اليوم حبلا يخنقها ويهدد به مصالحها ومصالح شعوبها.

وقد تكون الإجابة في مجموعة أخطاء ترتكب حالياً من الغرب، ربما دون قصد بسبب هول الصدمة، التي لحسن الحظ يتم تجاوزها سريعاً، كما في الإشكالات التي ظهرت في قمة مجموعة العشرين، التي بدا الوضع فيها مختلطاً لأول وهلة، لكن سرعان ما تم تجاوزه بحنكة وحكمة ودبلوماسية.

إذا حصل وتم تسليم بوتين إلى لاهاي ومحاكمته فيها يوماً، فسيحدث هذا في إحدى حالتين لا ثالث لهما؛ الأولى هي تفاقم الصراع ليصل إلى حرب شاملة ومواجهة عسكرية بين روسيا والغرب تنتهي بإسقاط نظامه وأسره وتسليمه إلى لاهاي. والثانية، والأكثر احتمالا وأقل كلفة وخطراً على العالم، هي الانقلاب عليه من قبل حكام جدد في الكرملين، عبر استمرار الضغط الدولي على نظامه.

ربما لا يزال هذا السيناريو غير واقعي، لكنه ليس مستحيلاً، إذا بقيَت جبهة الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وحلف الناتو متحدة، كما في القمة الأخيرة، وإذا استمر دعم الحكومة الأميركية والاتحاد الأوروبي لأوكرانيا عسكرياً واقتصاديا.

من جهة أخرى وحتى لو حدث خلاف ذلك بسبب أزمة الغاز الحالية، فإن العقوبات تضر بوتين وأتباعه بشدة وتصيب نظامهم الفاسد في مقتل، والدليل أن كثيرا من المقربين من بوتين باتوا يتململون ويصفون حربه علناً بأنها خطأ جسيم. وتفيد تقارير المخابرات البريطانية أن التذمر بدأ يتغلغل بين الجنود الروس، وأن جنرالاتهم باتوا يواجهون صعوبة لإعادة تجميعهم في أوكرانيا من الكتائب التي تم القضاء عليها.

الضغط على زعيم الكرملين آخذ في الازدياد، وربما تسود العدالة يوماً ما، وينتهي الأمر به إلى حيث ينتمي، أي خلف القضبان.

8