ما بعد زيارة بايدن.. بقاء الحال من المحال

انتهت زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى المنطقة، وكما ذكر عدد من ذوي الرأي والخبرة، عاد منها إلى واشنطن دون أن يحقق تماماً ما يريد. أما هنا في فلسطين، وهذا الأهم بالنسبة إلينا، فهي لم تخرج إطلاقاً عما كان متوقعاً من الأغلبية الساحقة، ولم يتعد الاهتمام بنتائج هذه الزيارة سوى من قبل “الخلية الضيقة المهيمنة” على مقاليد الحكم في السلطة، والذين تعلقوا بقشة بايدن، مستمرين في اللهاث وراء الوهم خلف ما يسمى بالعملية السياسية، وحل الدولتين الذي تحدث عنه بايدن دون تحديد مسؤوليات أو مرجعيات أو خطة زمنية لتطبيقه، وما يتطلبه من عمل جاد يفضي إلى إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره.
أكثر من ذلك، اعتبر بايدن أن إمكانية تطبيق حل الدولتين باتت بعيدة المنال، وأمامها عقبات كبيرة، دون أيّ إشارة إلى مسؤولية إسرائيل عن تلك العقبات، لاسيما ما يتصل بسياسات التوسع الاستيطاني غير المسبوقة ومخططاته، والتي لم يأت بايدن على مجرد ذكرها إطلاقاً. كما أن إشارته إلى مثل هذا الحل على أساس خطوط 1967 لا يلغي أطماع إسرائيل بضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، لاسيما في ظل تغاضيه عن قضية الاستيطان. فقد كان بإمكانه على الأقل، ومن خلال وزير خارجيته أنتوني بلينكن، إلغاء قراريْ مايك بومبيو وزير خارجية إدارة دونالد ترامب، سواء المتعلق بأن الاستيطان لا يتعارض مع القانون الدولي، أو ذلك المتصل بوسم بضائع المستوطنات كمنتجات إسرائيلية، وهذا أضعف الإيمان، فكلا القرارين يعني تشريعاً للاستيطان واعترافاً واقعياً بضم تلك المستوطنات إلى إسرائيل، كما أشار رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض في أكثر من مناسبة بما في ذلك مقاله في صحيفة “القدس” عشية الزيارة، ذلك رغم أن هذين القرارين يتناقضان مع السياسة التقليدية المعلنة للإدارات الأميركية المتعاقبة، والتي كسرها ترامب، ولم يسع بايدن وإدارته للقيام بأيّ خطوة باتجاه تصويبها، وهذا ما تعتبره إسرائيل إنجازاً مهماً لها، وللمزيد من إطلاق يدها للاستمرار في التوسع الاستيطاني على حساب شعبنا وأرضه وحقوقه في هذه البلاد.
العالم يتغير، والمنطقة معه يبدو أنها تتغير وتعيد تموضعها، وبالتأكيد لا الاحتلال ولا الانحياز الأميركي والنفاق الدولي قدراً عليها وعلى شعبنا ومصيره الوطني، فبقاء الحال من المحال
هذا بالإضافة إلى أن بايدن لم يشر إطلاقا حتى إلى وعوده المتصلة بإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، أو إعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وبينما تستمر الإدارات الأميركية في إبقاء المنظمة على قائمة الإرهاب، في وقت أنها أزالت منظمة كاخ العنصرية المتطرفة عن تلك القائمة. هذا بينما لم يشر الرئيس الفلسطيني في كلمته أمام بايدن إلى أن نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس المحتلة يتناقض مع قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي التي تعتبرها أرضا محتلة، الأمر الذي يشي بقبول الأمر الواقع أو بالحد الأدنى التغاضي عنه.
لشديد الأسف، ورغم ذلك كله، ورغم السياسة والممارسات العدوانية والاغتيالات والاعتقالات اليومية ضد أبناء شعبنا وبناته، وهدم البيوت والتطهير العرقي في الشيخ جراح وسلوان ومسافر يطا وغيرها من المناطق المحتلة في القدس والأغوار، وما يسمى بمناطق “ج” وأحياناً في “أ” وغيرها، والتي لم تحظ بأيّ اهتمام من بايدن، سوى المرور العابر حول مقتل شيرين أبوعاقلة، بعد أن أخرجت واشنطن جيش الاحتلال من المسؤولية الحصرية عن استهدافها وقتلها. فتخرج علينا الرسمية الفلسطينية لتتحدث عن ضرورة البناء على ما حققته هذه الزيارة، دون أن تحدد ما الذي تحقق، غير الهبوط المريع بسقف القضية الفلسطينية، لتتحول إلى مجرد تسهيلات في الحركة، وبعض العطايا الإنسانية لمستشفيات القدس وللأونروا، وما سبقها من إعلان “إدارة جيش الاحتلال المدنية” عن نقل عناوين أو منح بطاقات إقامة “هوية” لعدد محدود من المواطنين، وذلك بديلاً عن الحقوق الوطنية، على الأقل كما عرفتها الشرعية الدولية، وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال، ليصبح السقف الفلسطيني، هو ما تقوم به “الشؤون المدنية” من حلول انتقائية تقدم وكأنها مكرمات عليا أو تسهيلات احتلالية لما هو حق أصيل للمواطنين الفلسطينيين وفق القانون الدولي الذي ينظم علاقة السلطة القائمة بقوة الاحتلال بحقوق السكان، حتى في سنوات الاحتلال المباشر، كما أنها التزامات إسرائيلية محددة في البروتوكول المدني للاتفاقية الانتقالية، والتي للأسف تحولت إلى وضعية دائمة، أعاد خلالها الاحتلال إحياء ما يسمى “بالإدارة المدنية في يهودا والسامرة”، وتحولت معها السلطة الفلسطينية لمجرد “لجنة ارتباط مدنية” التي باتت وكأنها أعلى سلطة لتنظيم “صلة هذه الإدارة مع السكان”، وليس حتى سلطة لإدارة المسؤولية على السكان، وهو ما ينفي حتى دور السلطة “كسلطة حكم ذاتي على السكان”.
هذه الصورة المتآكلة لبقايا واقع الحال الفلسطيني جراء “صراعات المستنقع” السائدة بين القوى الانقسامية المهيمنة على المشهد، وفي داخل كل منها، خاصة بين أجنحة السلطة، وتدافعها على الخلافة، هي التي دفعت بالقضية الفلسطينية إلى هذه المآلات المخيفة من التهميش، الأمر الذي يشجع الطامحين للوصول إلى سدة الحكم، معتمدين على فتات “الإدارة المدنية في يهودا والسامرة”، أو من خلال نظرية “استرضاء المحتل”، بأن يستمر هذا المشهد الذي تتآكل فيه الحقوق، بما في ذلك حق الشعب الفلسطيني في انتخاب قيادته وممثليه، حيث دون ذلك، لم يكن ليجرؤ هؤلاء على مجرد الإفصاح عن “جدارتهم تبوؤ القيادة دون انتخابات”. فشعب الشهداء والتضحيات الكبرى على مدار ما يزيد عن مئة عام من الصراع منذ وعد بلفور وحتى يومنا هذا، وحده، ومن خلال انتخابات ديمقراطية شاملة وشفافة ونزيهة، هو من يحق له أن يختار قيادته، وأن يكون قادراً على مساءلتها وعزلها إن حادت عن حقوقه المشروعة أو فرّطت بتضحياته الهائلة.
لم نكن في حاجة إلى ما تحدث عنه بايدن في نهاية كلمته حول مدى الحاجة إلى الحوكمة والحكم الرشيد واحترام الحريات وتعزيز الديمقراطية والشفافية ومحاربة الفساد وبناء المؤسسات وتعزيز دور المجتمع المدني، وغيرها من القضايا، فذلك يُشكل سابقة دبلوماسية في العلاقات الدولية. وكل هذه القضايا معلومة ويكتوي الناس من تغييبها، وهي تشكل مطالب شعبية أصيلة، بل إنها في الواقع تشكل معايير وأسسا جدية لإحداث التغيير والنهوض الوطني الديمقراطي المطلوب، بغض النظر عن أهداف بايدن وأجندته من التطرق إليها علناً، والتي ربما تحمل في طياتها إشارة إلى المسؤولية الفلسطينية عن جعل حل الدولتين بعيد المنال .

معالجة هذا الواقع المرير، لا تمر عبر استمرار الرهان والتعلق بقشة الوهم، ولا حتى الاختباء وراء المواقف العربية الإيجابية التي أُعلنت في قمة جدة لجهة مركزية القضية الفلسطينية باعتبارها مفتاح الأمن والاستقرار في المنطقة، بغض النظر عن مدى جديتها وحقيقة دوافعها، على أهمية ذلك، الأمر الذي يؤكد ضرورة معالجة علاقاتنا العربية بصورة جدية، بل إن المدخل الوحيد لهذه المعالجة يتمثل في استعادة نقاط القوة التي تعيد إلى القضية الفلسطينية مكانتها، وفي مقدمتها إعادة الاعتبار لحق الشعب الفلسطيني المشروع في مقاومة الاحتلال ورفضه، وعلينا أن نتذكر ما أحدثته الانتفاضة الكبرى من استعادة مكانة قضية شعبنا وقيادته، بعد أن قال مستشار الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجينسكي ذات يوم بعد إجلاء قوات الثورة الفلسطينية من لبنان عام 1982، “وداعاً لمنظمة التحرير”.
إن استنهاض طاقات الشعب الفلسطيني واستعادة الأمل في نفوس الأجيال الشابة يمرّ عبر إنهاء الانقسام وإعادة بناء الوحدة الوطنية بإعادة الاعتبار للطابع الائتلافي لمنظمة التحرير الفلسطينية، كجبهة وطنية عريضة تضم جميع الفصائل والقوى السياسية، بما فيها التي ما زالت غير منضوية في إطارها، وكذلك القوى الاجتماعية الحية والشخصيات المستقلة المؤثرة والفاعلة في المجتمع، وكقائدة لنضال شعبنا وممثله الشرعي والوحيد، وكذلك إعادة بناء مؤسسات السلطة الوطنية في إطار حكومة ائتلاف ووحدة وطنية مهمتها الجوهرية تعزيز صمود الناس، واحترام حقوقهم المدنية والدستورية، وفي مقدمتها حقهم في المشاركة السياسية وانتخاب قيادتهم، وتحمّل مسؤولية الدفاع عن مصيرهم الوطني وحقوقهم المشروعة، وتعزيز قدرتهم على مجابهة كل أشكال تهميش حقوقهم الوطنية ومحاولات تصفيتها، وهو فقط ما سيجبر إسرائيل ومعها الولايات المتحدة على النظر والتعامل بطريقة مختلفة مع حقوق شعبنا ومكانة قضيته وندية التعامل مع قيادته.
ولكن للأسف، الخلية الحاكمة تستمرئ الحال الراهن وتتمسك به، وتحيد بنظرها عن الممكن والمتاح حتى لتحسين صورتها ومكانتها، كما أن حكام الأمر الواقع في غزة لم يعودوا، كما يبدو، مكترثين بهذه الضرورة الوطنية، الأمر الذي يستدعي مسارعة جميع مكوّنات المجتمع، وممثلي الفئات الشعبية المتضررة من الانقسام وخطر الانجرار إلى الاحتراب على بقايا سلطة لاحتكار “الوكالة الأمنية” وربما ما هو أسوأ لا سمح الله، لتنظيم قدراتها وبلورة رزمة مهمات وأولويات تمكنها تدريجياً من بلورة إطار وطني ديمقراطي عريض يتصدى بصورة جذرية للمهام الوطنية والديمقراطية لوقف الانحدار وإنقاذ قضية شعبنا وحقوقه الوطنية وتطلعاته المشروعة وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير، وفي الحرية والاستقلال والكرامة الوطنية والعيش الكريم على أرض وطنه.
في كل الأحوال، العالم يتغير، والمنطقة معه يبدو أنها تتغير وتعيد تموضعها، وبالتأكيد لا الاحتلال ولا الانحياز الأميركي والنفاق الدولي قدراً عليها وعلى شعبنا ومصيره الوطني، فبقاء الحال من المحال.