نصرالدين سليمان: التصوف هو الثقافة الشعبية للمجتمع السوداني

لكل مجتمع خصائصه العامة التي تميزه عن بقية الشعوب، وما يميز المجتمع السوداني عن غيره هو أن التصوف صار ثقافة شعبية تبدو جلية في كل تفاصيل الحياة اليومية حتى صارت له دلالات رمزية اجتماعيا وحتى سياسيا، وترسم ملامح شخصية الفرد ومكونات المجموعة بأكملها.
يعتبر التعريف بالفلكلور السوداني من أهم مرتكزات إتمام عملية التمازج والتصاهر المزاجي والثقافي والفكري والوجداني لمجتمعات السودان في ما اصطلح عليه من لفظ التعددية الثقافية والعرقية داخل إطار الرابطة القومية الواحدة، مع اختلاف اللهجات المحلية، كما أن هناك دافعا مهما آخر يحفز الاهتمام بالموروث الثقافي والتراثي للأمم وهو الصراع الدائم والمفروض من قبل بعض الكيانات الثقافية العالمية المسيطرة، وهي قضية الهوية والشخصية الحضارية للأمة والتي تتمثل في ذلك الكم الهائل من العادات والتقاليد والأعراف والسلوك والمهن والحرف والمعتقدات والفنون وكل ما يصنعه الإنسان من تقنيات.
انطلاقا من هذه الرؤية جاء كتاب “دراسات في الفلكلور السوداني” للباحث الأكاديمي نصرالدين سليمان أستاذ علم الاجتماع وأحد أبرز المتخصصين في التراث الثقافي والشعبي.
وتناقش الدراسات موضوعات العادات والمعتقدات الأكثر حضورا بين الأنماط الاجتماعية الشعبية في الإرث السوداني بما تمثله من طقوس ومراسم ومعتقدات مازالت مهيمنة على الحياة الشعبية السودانية بل تعتبر مرآة حية لعناصر التداخل والتمازج الثقافي عبر الحقب التاريخية. من هنا تعتبر الدراسات بمثابة الإضاءة والتوثيق الفلكلوري لهذه العادات خوفا عليها من الاندثار أو الزوال.
أيضا تتناول الدراسات موضوع الممارسات والطقوس الشعبية باعتباره الأهم في أكبر مجموعة إثنية في جنوب السودان، إذ تمثل الثقافة الأفريقية المعبرة عن التداخل الأفريقي والعربي في الثقافة السودانية ككيان قومي يحمل في طياته العديد من الموروثات الثقافية المختلفة والمتداخلة وهو موضوع حيوي جدا لأنه يتم في ظروف خاصة.
الدراسات تناقش موضوعات العادات والمعتقدات الأكثر حضورا بين الأنماط الاجتماعية الشعبية في الإرث السوداني
ويناقش سليمان موضوع الحرف والمهن التقليدية الخاصة بالمرأة، حيث يرى أن هذا الموضوع لم يحظ في السودان بدراسة علمية مفيدة وبالأخص في سبيل دفع عجلة التنمية والتطور في الريف السوداني مما جعله يسلط الضوء على هذه الأنماط الفلكلورية المادية والتي تمثل طفرة تراثية حية في المجتمع لا بد من إعطائها حيزا من الاهتمام والتفعيل لذلك الإرث الثقافي الحي، والذي يمثل أيضا الجانب المادي من الثقافة الشعبية السودانية وتتداخل فيه بعض الأجناس والأنماط الفلكلورية الأخرى مما يجعله شيقا وثريا بالتناول.
ويتتبع سليمان أيضا موضوع التصوف وأبعاده الثقافية والاجتماعية ودوره كمعتقد شعبي في كثير من أوجه حياة الإنسان السوداني ومؤثرات ذلك ثقافيا واجتماعيا بل حتى سياسيا وجغرافيا وما أفرزته هذه المؤثرات من قيم وأعراف وتقاليد وعادات صبغت بها الشخصية السودانية هويتها الدينية والعقائدية بشكل ينم عن أثر ذلك على الثقافة العامة للمجتمع السوداني.
كما يتوقف الباحث مع الأمثال والحكم التي تعد أكثر الأنماط الفلكلورية ثراء في أداء وظيفتها داخل المجتمع السوداني، وأيضا الدين ودوره الواضح في عوامل التغيّر الاجتماعي، وينتهي بدور الفلكلور والتنمية في منطقة جنوب النيل الأزرق وهي منطقة هامة في الثقافة السودانية.
الجرتق الأصل والممارسة
يقول سليمان “الجرتق عادة من العادات الاجتماعية التي مازال الإرث السوداني يتمسك بها كعادة لها طقوسها وأداؤها في كثير من أنحاء السودان، والجرتق هو نوع من الحروز يستخدم لدفع الضرر أو لجلب المنفعة، للاحتراز من الجن والحسد أو لجلب الحظ والثروة. وهذه العادات مازالت تحتفظ بكلياتها وطقوسها خاصة في مناسبات الزواج. والحروز كعامل وقاية ضد العين وغيرها هي ممارسة قديمة في سلوك الإنسان حيث ترجع إلى عهد مملكة كوش، ولكن حدث شيء من التداخل وتأثر بالحضارات التي نشأت ما بين النهرين والتي كان لها دورها الثقافي على السودان، ولا يستبعد تأثير حضارات أخرى كالفرعونية والبابلية والرومانية والسومرية”.
ويشير إلى أنه قبل ممارسة الجرتق لا بد من مراعاة استقبال القبلة كتأثير إسلامي بمعنى أن يتجه العريس ناحية القبلة وتطمس رجلاه ويداه في الزيت، وبعد ذلك تبدأ مراسم الجرتق وتسمى عند النوبيين “فوكرية” وتعني كذلك المراسم نفسها، والجرتق لا بد أن تتم ممارسته قبل مغيب الشمس ويكون عنقريب الجرتق في اتجاه القبلة وهذا اعتقاد له أهميته في المجتمع السوداني، كما كانت ممارسة الجرتق في السابق لمراسم الزواج ويعتبر كختام لطقوس الزواج وكانت تمارس في هذا اليوم للعريس وكان يحضر لأهل العروس وهو مجرتق، أما الآن فصارت هذه الممارسة في أول أو ثاني يوم للزواج وللاثنين معا، كما تتم أيضا مع الجرتق عادة بخ اللبن أو رش اللبن والتي يقوم بها كل من العروسين وتكرر ثلاث أو سبع مرات، وهي نوع من الحماية الجماعية ولها مدلول عقائدي مرتبط بأحد أنهار الجنة.
الدراسات تتناول موضوع الممارسات والطقوس الشعبية باعتباره الأهم في أكبر مجموعة إثنية في جنوب السودان
ويتابع الأكاديمي السوداني أن أدوات الجرتق عبارة عن بعض المواد النحاسية أو الحديدية أو بعض المواد الأخرى التي لها دلالتها الخاصة لدى الكثير من القبائل وأهمها: الحريرة الحمراء وهي عبارة عن خيط أحمر تنظم فيه القطع الخرزية وله دلالة عقائدية تهدف إلى الحماية، وخرزة خضراء أو زرقاء “الجعرانة” ولها دلالة تتعلق بخصوبة الرجل، وفص الدم “خاتم فضة به حجر يسمى فص الدم” واللون الأحمر له دلالة رمزية كأساس للحياة، كما له القدرة على إيقاف النزيف في الزواج والختان والولادة، و”بحة الير” وهي سبحة من المرجان الأسود بها 99 حبة ويعتقد بأن لها خواص سحرية، وعقد السوميت وهو من شبه الأحجار الكريمة أو الخرز ويلبس حول العنق. أما الأسلحة التي تستعمل في الجرتق مثل السيف والسوط فلها رمزية رجولية كما تعتبر حرزا من العين.
ويوضح سليمان أن الشلك من القبائل التي تحتل الجزء الغربي من شاطئ النيل الأبيض من بحيرة “نو” وهم من نفس مجموعة قبيلتي النوير والدينكا اللتين تجاورانهم. ويمتاز الشلك بطول الأجسام مثل الدينكا والنوير ويتحدون أيضا في سواد اللون ويميلون إلى حياة الحركة ويتفردون بالحرص والتقتير إلا أنهم رجال حرب وشجاعة، كما يمتازون بنظام ملكي متوارث يتولاه “الرث” وهو بمثابة رئيس القبيلة وشيخ العائلة بيده السلطة الروحية والزمنية.
وحول عادات الزواج عند الشلك يقول “إذا أراد الشاب الزواج فإنه يصقل حرابه ويصلح من شأن خرزه وأساوره المصنوعة من الحديد والنحاس والعاج ويصفف شعر رأسه وينظف ‘اللاووي’ الذي يلبسه ويدهن بالزيت سبيب ذيل الزرافة الذي يضعه في عنقه، وبعد اكتمال هذه الزينة يذهب إلى الرقص فيقف متفرجا وعندما يرى فتاة أحلامه يدنو منها ويبدأ في ملاطفتها والافتخار أمامها بحربته وبقره، فإن قبلته الفتاة أقبلت تراقصه وبعد ذلك يفاتحها في الزواج فإن قبلت ذهب إلى والدته يخبرها أنه وجد فتاة أحلامه ويريد الزواج منها، وبعد أن تتأكد والدته من عدم قرابتها لها أو لوالده تذهب دون أن تخبر أهل الفتاة بقدومها إليهم، وتجلس معها وتأخذ في مراقبتها في أشياء خاصة مثل إجادة هذه الفتاة لصنع البنجاكيلو والمبنجاقوتو، وهو طعام الشلك، وهل تخدم أهلها بكل نشاط، فإذا وثقت من ذلك عادت مسرورة تقول لولدها وفقت في اختيارك، ويتم الزواج بمقابلة والد الشاب وبعض أقاربه لوالد الفتاة لدفع المهر، ولا يقل عن عشر بقرات وست معزات ولا يمكن تجاوز هذا العدد من المواشي في كثير من الحالات مما سبب قلة في الإقبال على الزواج بين الشلك وقلة في عددهم وأغلبهم فقراء”.
الشعر الشعبي
يرى سليمان أن المجتمعات الشعبية التقليدية السودانية وخلال ممارستها الطويلة للحياة ومثابرتها الدؤوبة لتطويع البيئة من أجل الحياة صقلت شخصيات الأفراد حسب متطلبات حياتهم، لذا عمدت لغتها الشعرية لتعبر عن كل مواقفها في سبيل الوجود، ويظهر ذلك في الشعر الشعبي كقول الشاعر ود نائل:
الموت يا أم هبج صقارروا تابع خيلك
إلا كريمة ما بجوعية نخيلك
رب العزة بي وابل المطر ساخيلك
السحا والمفيريط والصفاري نخيلك
كما نجد أيضا قول شاعر البطانة مادحا:
عرضو وفرضو لا من أفني ما فكالن
مواعين الكرام تمتم عبا رن وكالن
خلواتو المثل صوت الجراد وعكالن
يكفيهن صوانيا بداع أشكالن
حيث يظهر الشاعر صفة الكرم الذي يعتبر صفة طبيعية متوارثة، كما نجد بعض النماذج مثل قول شاعر البطانة إبراهيم سليمان في وصفه لأيام الجدب وذكره للإشارات والعلامات والظواهر الطبيعية وذكره لمنازل المطر، يقول:
طالت أمضت فنقيلة بي ما بقيف
والنجامة حالونا الضراع والصيف
أنجلت البسا فروب العبايدة الريف
غنوم الدراهم يعملولن كيف
كما نجد صورة التواصل الثقافي من خلال بعض الألفاظ والكلمات والمعاني وذلك في شعر الهداي من دارفور في محبوبته:
كن خبروني وأنطوني
المراد بجاور الناس البخات
بعيد الضحية ألفات أمدردر في القطنة
سوت مهانة فوق البنات
كن بقيتي أيد ببقى ليك غويشات
كن بقيتي رقبة ببقى ليك خناق
كن بقيتي خد ببقى ليك شليخات
ومن بقيتي عبلة ببقى أنا عنتر بن شداد
ويؤكد سليمان أن ألوان الشعر الشعبي السوداني تمثل الثقافة الشعبية بكل معانيها وأشكال تواصلها الثقافي بين الحضارات، كما أنها اللغة الإعلامية السهلة لنقل كثير من الأنماط الثقافية بين المجموعات الحضارية في سلاسة لغوية تتبادل فيها أنواع المعرفة الإنسانية التي يمكن انتشارها وتداولها ثقافيا واجتماعيا وتمثل إحدى السمات الحضارية للتطور والرقي للمجتمعات الحديثة بنقل هذه المعارف والخبرات عبر الأجيال المتعاقبة.
يرى الباحث السوداني أن التصوف هو الثقافة الشعبية للمجتمع السوداني بكل دلالاته ورموزه الإيجابية والتعبيرية، أي أنه باختصار هو المعارف والمعلومات المتراكمة لمجموعة متجانسة من الناس غير معقدة التركيب تجمعها علاقات عقائدية، كما توجد بينها روابط عاطفية تشبع أو تضفي على تعبيرها نوعا خاصا من الوحدة التي تتأتى من خلال انتقال الممارسات والأنماط التي ابتدعها الفرد وأصبحت نتاجا جماعيا للجماعة الشعبية فصارت بالتالي جزءا من التيار الثقافي العام. لقد أعطى التصوف للثقافة السودانية طوابعها وطقوسها الأفريقية مما ساعدها على تأدية كثير من وظائفها الدينية والروحية والعلاجية الطبية في شكل انسيابي متوافق مع أشكال الممارسة عند بعض المجموعات الأفريقية الوثنية في السودان “جبال النوبة، الدينكا والشلك”، كما أثر في عملية التوزيع الجغرافي لبعض المناطق السكانية التي كان لها دور اجتماعي وثقافي مؤثر في الثقافة السودانية.
التصوف في السودان
ويتابع سليمان أن التصوف طوّر من وظائف وأدوار بعض المؤسسات الاجتماعية مثل الخلوة، حيث تم نقلها من الدور التعبوي لوحده “حيث كان دخول الخلاوي والانقطاع فيها أمرا شائعا بين الأولياء والفقراء” إلى النشاط التعليمي والتعبدي معا، حيث صارت هذه الخلاوي أماكن ودورا لتعليم النشء والمريدين علوم الظاهر، فنشط تحفيظ القرآن الكريم وعلومه وازدهر التعليم الديني وحلقات تدريس الفقه والتفسير واللغة وبعض الرياضيات لمعرفة حساب الميراث وتوزيعه.
كما أعاد التصوف للمسجد بعض الأدوار التي تعتبر من وظائفه الأساسية، مثل الفتوى والقضاء وتفسير القرآن ورواية الحديث كما كان في مساجد بغداد والكوفة والأقصى والمسجد الأموي، حيث صارت هذه الدور مراكز للإشعاع الروحي والثقافي والاجتماعي، فكانت تجمع بين وظيفة تعليم القرآن والضيافة والحماية وحل النزاعات والإفتاء في الموضوعات الفقهية، وفي بعض الأحيان تقوم بأدوار سياسية حيث كانت تعتبر بمثابة البرلمان أو المجالس القروية، حتى عادت لها مكانتها التربوية والتعليمية السابقة.
ويؤكد أن المثل السوداني له ارتباط تاريخي ثقافي بالبيئة العربية، إذ نجد كثيرا من الأمثال السودانية إما مقتبسة من العربية أو ذات قرابة في المعنى أو التركيب البنائي أو الموضوعي، فمثلا نجد المثل العربي الذي يقول “اختلفت فرتعت” وهو مشابه في المعنى السوداني “إن كثرت عليك الهموم ارقد ونوم”، وللمثل في النفوس قبول واستحسان لما له من صفات لا تجتمع في غيره من الكلام، فالمثل تجتمع فيه أربع: إيجاز اللفظ، إصابة المعنى، حسن التشبيه، جودة الكناية، وهو نهاية البلاغة، فالمثل عند العرب مفضل على الشعر والخطابة من ذلك قول شاعرهم: ما أنت إلا مثل سائر.. يعرفه الجاهل والخابر.