الزراعة مستقبل مصر

الزراعة لا تحتمل الدخول في عمليات تجريب أو فشل بعد أن تحولت إلى عنوان رئيسي في الخطاب الرسمي للدولة لبث الطمأنينة وتخفيف حدة القلق من بلوغ الأزمة حدا تصعب السيطرة عليه.
الاثنين 2022/05/23
أمن غذائي على المحك

عندما كتبت مقال “الوعي الاستراتيجي بالزراعة المصرية” المنشور بجريدة “العرب” عدد الجمعة لم أعلم أن الرئيس عبدالفتاح السيسي سيقوم في اليوم التالي بافتتاح مشروع مستقبل مصر للإنتاج الزراعي وتبلغ مساحته أكثر من مليون فدان، والذي أكد ما جرى تناوله في المقال الأول، وما ذهب إليه من إشكاليات واستنتاجات تتعلق بمصير الزراعة بناء على خبرات وتجارب مشاريع سابقة تعثرت.

نبهني أحد الأصدقاء القريبين من الحكومة إلى أن ملف الزراعة يحظى منذ فترة باهتمام القيادة السياسية، التي قامت بإعادة هندسة الدولة وفق خطتها المعروفة بـ2030، ووجدت أن الزراعة بحاجة إلى جهود مضنية كمفتاح يساعدها على الخروج من عباءة بعض القوى الخارجية، ومدخل يعيد للدولة اعتبارها لأنها لن تستطيع المنافسة في الصناعة بموارد محدودة، ويمكن أن تصبح رقما في الزراعة بمساحتها الشاسعة.

لم أكن أخطط للعودة إلى موضوع الزراعة وتعقيداته في هذه الفترة القصيرة، غير أن الفكرة التي ينطوي عليها المشروع الجديد والعنوان الذي يحمله ويتعلق بالنظرة إلى المستقبل، والتصريحات التي أدلى بها الرئيس السيسي على هامش الزيارة، جديرة بالعودة إلى ملف الأمن الغذائي الذي بات الشغل الشاغل لدول كثيرة.

تعزز المعطيات التي رشحت في الأيام الماضية ارتفاع مستوى الوعي بملف الزراعة في مصر، وتنزله من المكانة الضيقة التي حشر فيها لعقود إلى مكانة أرحب لها علاقة بجوانب محورية في الدولة، فلا مستقبل لها بدون اهتمام جاد بالزراعة.

تحتاج الزراعة إلى نوع من الصبر الاستراتيجي حتى تؤتي أكلها، ومن هنا تحاول الحكومة سد الفجوة بأسرع الطرق الممكنة

يشير المشروع، الذي بدأت بشائر إنتاجه تظهر الآن مع تصاعد حدة الأزمة الغذائية، إلى أن هناك هواجس سكنت قلب وعقل الرئيس المصري مبكرا، خوفا من الوصول إلى نقطة لا عودة قد لا تجد فيها البلاد ما تحتاج إليه من سلع أساسية، وأن الزراعة أضحت خيارا لسد احتياجات المواطنين وتقليل درجة الاعتماد على ما يتم استيراده من الخارج، بعد أن أكدت الأزمة الأوكرانية خطورتها على شعوب كثيرة.

يتجاوز التخطيط المصري في مجال الزراعة تركها للمزاج العام المتقلب، وكل مزارع يزرع ما يحلو له من محاصيل ويختار بلا ضوابط ما يحقق أعلى فائدة له، وتبدو زيادة عمليات استصلاح الأراضي الصحراوية بتقنيات حديثة مهمة تقوم بها الدولة أوكلت الإشراف عليها للمؤسسة العسكرية لضمان توفير أعلى درجة من الانضباط.

أضف إلى ذلك أن الأفراد لا يستطيعون القيام بهذه المهمة وسط ما أصاب الرقعة الزراعية من تفتيت في ملكيتها وتشويه في إنتاجيتها، ويحتاج الأمر إلى توسع في مشاركة القطاع الخاص القادر على المساهمة بدور فعال في الزراعة، خاصة إذا توافرت له تسهيلات ومزايا وحوافز وإغراءات تشجعه.

يضرب الاتجاه نحو الزراعة كعنوان للمستقبل مجموعة من العصافير بحجر واحد، حيث يستغل المساحة الشاسعة من الصحراء شرق وغرب نهر النيل، من شمال إلى جنوب البلاد وما حولهما، ويشجع على التوسع العمراني والخروج من الوادي الضيق الذي يتكدس فيه نحو 90 في المئة من السكان البالغ عددهم حوالي 105 ملايين نسمة.

تمنح الزراعة الرئيس المصري ميزة نوعية افتقد إليها من سبقوه من رؤساء أهملوها وحاولوا قطع خطوات كبيرة في مجال التصنيع، فخسروا رصيدهم في الأولى، ولم يحققوا تقدما لافتا في الثانية، وجاءت النتيجة أن أصبحت مصر بلا هوية زراعية أو صناعية، وفقدت كل بريق إنتاجي وبقيت تترنح بينهما فترة طويلة.

حسم الرئيس السيسي الأمر وقرر أن يضع مستقبل مصر في مجال الزراعة، ما يوفر صيغة إنتاجية واعدة، وكي يتمكن من استثمار الطفرة الظاهرة عليه أن يوجد حلا عاجلا لأزمة سد النهضة الإثيوبي لطمأنة المواطنين، فمهما بلغ التوسع في حلول المياه البديلة سوف يبقى نهر النيل شريان الحياة في مصر.

يوفر التركيز على الزراعة للنظام الحاكم هوية تتسق مع طبيعة الدولة الجغرافية والتاريخية، ويحرر القرار السياسي مما يكبله داخليا وخارجيا، فمع توالي الاستثمار في الأوراق التي تمتلكها كل دولة، قد تواجه القاهرة محطات تعرضها إلى ضغوط قاسية إذا تجاهلت قدرتها على امتلاك أسلحتها الذاتية.

توفر الزراعة فرصة للتغلب على التحديات التي تمثلها الأزمة الغذائية التي تعصف بالبلاد، ويمكن أن تؤدي إلى خسائر فادحة ما لم يتم التغلب عليها في أقصر فترة ممكنة، فقد أصبحت المشكلات الأخرى هامشية مقارنة بالزراعة وروافدها التي تشكل خطرا في غياب الحلول العاجلة، فلا أحد يضمن تدفق المحاصيل المستوردة بالوتيرة نفسها، ما يجعل المشروعات الزراعية هذه المرة لا تخضع لمقاييس قصيرة.

تمنح الزراعة الرئيس المصري ميزة نوعية افتقد إليها من سبقوه من رؤساء أهملوها وحاولوا قطع خطوات كبيرة في مجال التصنيع، فخسروا رصيدهم في الأولى، ولم يحققوا تقدما لافتا في الثانية

تتمثل المفاجأة في مشروع مستقبل مصر للإنتاج الزراعي في تحوله سريعا من حلم إلى حقيقة، فلم تكن زيارة الرئيس السيسي ومعه كبار المسؤولين إلى شمال غرب البلاد عند منطقة معروفة باسم “محور الضبعة”، وهي قريبة من منطقة يقام عليها مفاعل الضبعة النووي السلمي، لوضع نواة له أو الإعلان عن تدشينه وانتظار نتائجه، فقد أصبح واقعا وتابع المواطنون ما يخرجه من محاصيل في مقدمتها القمح.

يؤكد المشروع وجود بيئة متكاملة للزراعة والعمل والحياة لشريحة كبيرة من الناس وكل من يرتبطون بالمشروعات الحيوية الملحقة بها، وأن محاور الأمن الزراعي على رأس الأولويات، والتي تفتقر الحكومة إلى القدرة للتعريف بها لتحصل على رصيد كبير من الثقة بها، حيث تعالت الانتقادات لتصوراتها العقارية والمخاوف من تأثيرات شح الغذاء على حالة المصريين الذين لا تنقصهم أزمات اقتصادية جديدة.

لا تحتمل الزراعة الدخول في عمليات تجريب أو فشل بعد أن تحولت إلى عنوان رئيسي في الخطاب الرسمي للدولة لبث الطمأنينة وتخفيف حدة القلق من بلوغ الأزمة الاقتصادية حدا قد تصعب السيطرة عليه مع التفاقم الحاصل في الأسعار.

ولا يحتمل المواطنون أيضا حدوث انتكاسة أو تراجع بسبب شح الموارد المالية، أو استدارة تتضمن تحولا في جدول الأولويات، كما كان يحدث سابقا، فالأزمة الغذائية لن تفلح معها حلول خارجية ولو توافرت أماكن الاستيراد سيكون من الصعوبة تدبير العملات الأجنبية له، فالدولة تمر بلحظات لا تملك فيها رفاهية حدوث خطأ في التقديرات، فالأفواه التي تحتاج إلى الطعام تتزايد، والبطون الجائعة تئن، ومظاهر الفقر لم تعد خافية، ولن ينتظر المحتاجون طويلا على الحكومة.

تحتاج الزراعة إلى نوع من الصبر الاستراتيجي حتى تؤتي أكلها، ومن هنا تحاول الحكومة سد الفجوة بأسرع الطرق الممكنة، فالعائد الكامل من وراء الزراعة يتطلب بضع سنوات، وهي فترة حرجة تفرض مواءمات عديدة لتجنب انفجار فقاعة غذائية.

8