عبدالأمير الحمداني أمين الآثار وقصته التي لا تُنسى

رحيل مبكر لحارس من حراس كنوز أرض الرافدين.
السبت 2022/05/07
الحمداني شخصية لا يمكن تعويضها

بغداد - لم ينقطع ذكر عالم الآثار العراقي ووزير الثقافة السابق عبدالأمير الحمداني ورثاؤه طيلة الأيام القليلة الماضية، وكأنما كشف غيابه للعراقيين مأساة جديدة غفلوا عنها لكثرة المآسي المحيطة بهم وببلادهم من كل حدب وصوب، إنه فَقْدُ النخب المؤثرة والتي لا يجري تعويضها بمثلها من الأجيال الجديدة. ويا لها من خسارة عبّر عنها ورثاه ابن مدينة الحمداني الشاعر وصاحب مشروع “كتاب في جريدة” شوقي عبدالأمير شعراً هذه المرة حين كتب “رحل عبدالأمير الحمداني، رحل سليل آلهة سومر، رحل آخِر الكهنة في معابد أور، رحل سميُّ أبي عبدالأمير. النادبات في مراثي تموز يسكبن اليوم دموعاً حرّى. السلالم التي ترتقيها الآن، بُنيت، أولى درجاتها لأقدام الآلهة. الصوتُ الذي تتهجّاهُ، أسمعُ أصداءَهُ في حنجرة الوقت. الصلصال الذي تُشرّحُ جُثّته، لم تنطفئ النار الذي صهرته. الكائناتُ السحرية التي احتمتْ بزوايا الطين وأحداق المسامير. أحافيرُ عشقٍ لبحارِ غربة. الحاضر الذي يشمخ بكبريائه كان يلهو طفلاً في غابات القصب. في الهور الذي ولدتَ فيه وأنت تُمسكُ بالذاكرة، مثل سومري بالفالة”. وقد استحق الحمداني مثل تلك الكلمات، وهو الذي رحل عن هذا العالم في ذروة عطائه، بعمر 55 عاماً إثر صراع مع مرض عضال، بعد أن ترك بنفسه آثاره في العراق وخارجه من المحافل الدولية، في رحلة أراد منها إعادة الملف الحضاري العراقي إلى التداول من جديد، بعد سنين من الانشغال بالسياسة والحروب والتنازع الطائفي والعرقي.

التنقيب عن أم الحضارات

عراق الحمداني، ليس مثل عراق سياسييه، هو تجذّر يضرب في عمق التاريخ متجاوزاً عاطفية الدمار والنهب
عراق الحمداني، ليس مثل عراق سياسييه، هو تجذّر يضرب في عمق التاريخ متجاوزاً عاطفية الدمار والنهب

 عراق ”أبي أوروك“، وهو لقب الحمداني الذي يحمل وحده دلاله على فكر صاحبه، ليس مثل عراق سياسيي هذه الأيام، هو تجذّر يضرب في عمق التاريخ متجاوزاً عاطفية الدمار والنهب الذي عصف ببلاد الرافدين أم الحضارات ومبتدئها ومنتهاها.

اختط لنفسه مساراً خاصاً ليقوم بمهمة الحارس، حارس المبنى واللقى الأثرية، وحارس الأفكار والحضور، فتواصل مع البعثات وكتب الأبحاث ودرّس في كبريات الجامعات في العالم، متخففاً من كل ما يحمله جيله من أعباء تثقل الكاهل وتعرقل الخطوات.

الحمداني صاحب مشروع بسيط وصلب في الوقت نفسه، الحرب من أجل الآثار، وسط حروب الآخرين من أجل ما لا يبقى. وقد تمكن خلال سنيّ عمله المنهكة من مسح وتوثيق 1200 تل أثري في ذي قار وغيرها

بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 عرف الحمداني أنه لا يجب ترك آثار هذا البلد بين يدي الأحداث المنهمرة مثل المطر السام، ومن الناصرية بدأ بمطاردة لصوص الآثار، في الأسواق السوداء وحتى على الأرصفة، وفي ملفات الأجهزة الأمنية وقوات الاحتلال التي كان يستفزها للقيام بواجبها لمنع التسرّب الكبير الذي فجع به العراق بسرقة الآثار واللقى وتهريبها إلى الخارج.وربما كانت المراثي الرسمية الهائلة التي كتبت في الحمداني تعبيراً عن ندم السياسة على التفريط في الثقافة، ندم لم يتردد في افتتاحه الرئيس العراقي برهم صالح ومن ثم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي أصدر بياناً قال فيه إن الراحل كان ”علامةً مضيئةً في الجهد الآثاري والبحث العلمي المختص، وكل ما يتعلق بتقديم المعرفة والتحقيق في الإرث الرافديني، وتأريخ الحضارات العراقية؛ وهو ما كرّس له نفسه وحياته الغنية بالعطاء. وبرحيل الدكتور عبدالأمير الحمداني نكون قد فقدنا عَلَماً أكاديمياً، وباحثاً علمياً، ورجل دولة قدم الكثير للثقافة والمعرفة وخدمة العراق“. أما الشاعر والباحث المُتخصص في علم وتاريخ الأديان والحضارات القديمة خزعل الماجدي فقد أكد أن رحيل الحمداني خسارة كبيرة به، فهو ”شخصية حضارية رصينة وأحد أعلام علم الآثار في العراق”.

يصف من عرفوا ما كان يفعله الحمداني في تلك الأيام خطورة الخيار الذي اختاره، في ما تبدو كسيرة درامية مثيرة لرجل لم يخش من الاقتراب من المواقع التي قصفها الأميركيون باليورانيوم، رغم أن التعرض لمثل هذه المواد المشعة سيقود بالتأكيد وباحتمالات كبيرة إلى الإصابة بالسرطان الذي أصيب به الحمداني بالفعل. أخبره الجيش الأميركي أنه لا يستطيع تقديم أيّ عون له، لأن المناطق ليست آمنة.

لم يصغ الحمداني إلى كل تلك التحذيرات، وجمع فريقاً من المتطوعين ليحموا معاً آثار العراق من السرقة، وتوجه نحو المرجعيات الدينية لتصدر الفتاوى التي تحرّم سرقتها. هكذا كان هذا الآثاري غائباً عن التهديد بالموت لإدراكه أن موت الحضارة أكبر وأشد خطورة من موت الفرد.

المقاتل السومري

الحمداني لم يصغ إلى من حذره من خطورة المواد المشعة في المناطق الأثرية العديدة التي هرع لحمايتها
الحمداني لم يصغ إلى من حذره من خطورة المواد المشعة في المناطق الأثرية العديدة التي هرع لحمايتها

ولد في بلدة الفهود في ذي قار، في كوخ قصب، وسط أسرة لا يقرأ معيلها ولا يكتب، غير أن والده طلب من الدولة أن تعلّم أبناءه وتأخذ بأيديهم، ومع نهاية الثمانينات حصل على البكالوريوس في الآثار القديمة من جامعة بغداد. وعُيِّن سنة 2001 منقباً آثارياً في الهيئة العامة للآثار والتراث، ثم مديرا لآثار محافظة ذي قار في العام 2003 وبقي في هذا الموقع حتى العام 2010.

رحل إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراسته، لينجز أطروحته في علم الآثار والأنثروبولوجيا من جامعة ولاية نيويورك في ستوني بروك عام 2013، وكان عنوانها “العلاقات الاقتصادية والسياسية والمكانية بين القرى والمدن في بلاد سومر في بداية الألف الثانية قبل الميلاد”، وفي عام 2015 حصل على الدكتوراه من الجامعة نفسها بأطروحة بعنوان “دول الظل: آثار السلالات الحاكمة في أهوار جنوبي بلاد الرافدين” التي ناقش فيها الحضارات المقارنة، واللغة العربية، وعلوم المجتمعات القديمة، والثورة الزراعية، وحماية التراث العالمي.

قاعدة البيانات والأطلس الرقمي الخاص بالمواقع الأثرية في العراق بناهما الحمداني باستخدام خرائط ومسوحات هائلة وصور جوية عالية الدقة

أما قاعدة البيانات والأطلس الرقمي الخاص بالمواقع الأثرية في العراق فقد بناهما الحمداني باستخدام خرائط ومسوحات سابقة وصور جوية عالية الدقة بالإضافة إلى نظام تحديد المواقع جي بي إس. كان الحمداني صاحب مشروع بسيط، الحرب من أجل الآثار، وسط حروب الآخرين من أجل ما لا يبقى. وقد تمكن خلال سنيّ عمله المنهكة رئيساً لفريق مسح وتوثيق للمواقع الأثرية، من مسح وتوثيق 1200 تل أثري في ذي قار وغيرها، وشملت مناطق لم يتم مسحها سابقاً، كالأهوار الجنوبية، والبادية الغربية، وشرق نهر الغرّاف، بالتعاون مع البعثات العراقية والدولية، وبذلك استطاع إرجاع 30 ألف قطعة أثرية مسروقة إلى المتحف العراقي، كما أعدّ ملف ترشيح مدن أور وأريدو وأوروك والأهوار إلى لائحة اليونسكو للتراث العالمي.

كان يقول إنه ”مستعد للعمل مع الشيطان من أجل حماية المواقع الأثرية العراقية“، ولهذا لم يتوقف تعاونه مع أيّ جهة تقدم له المساعدة، فعمل مع الجيش الإيطالي الذي كان مسؤولاً عن أمن ذي قار حتى العام 2006 وحينها أعلن الحمداني أنه أمام ”800 موقع أثري تحت تهديد مليون لص آثار“.

في صيف العام الماضي كتب الحمداني على صفحته على فيسبوك ”الآثار التي استعيدت مؤخرا من واشنطن عملنا على استعادتها منذ سنوات وكان المفترض أن أذهب شخصيا لاستعادتها في الشهر

العاشر من سنة 2019 ولكن الظروف المعروفة التي مرّ فيها البلد في حينها حالت دون ذلك“.

رسالة دائمة

تدمير داعش لآثار الموصل دفع الحمداني لينظم حملة للتنديد بهدم نمرود
تدمير داعش لآثار الموصل دفع الحمداني لينظم حملة للتنديد بهدم نمرود

 لم يكن الحمداني يهدأ، وكأنما كان يعرف أن وقته في الدنيا قصير، وأن عليه أن يجعله حافلاً بالإنجازات، فكان العراقيون يرونه في المؤتمرات الوطنية والدولية المخصصة للآثار، وفي قاعات المحاضرات في جامعات العالم. كما في الصحافة المعنية بالثقافة والتاريخ، فقد شغل الحمداني منصب مدير تحرير مجلة “الآداب السومرية“، وكان عضواً في جمعية الآثاريين، وفي اتحاد الصحافيين العراقيين، ورئيساً لاتحاد الأدباء والكُتّاب في ذي قار، قبل أن يكلّف وزيراً للثقافة والسياحة والآثار في العام 2018.

كان تكليفه بحقيبة الثقافة غلطة نافعة من غلطات السياسة، رمية من غير رام، أفرزتها التناقضات بين الكتل السياسية. فإثر الانتخابات العامة، استمرت مفاوضات تشكيل الحكومة ثمانية أشهر، انتهت بتكليف عادل عبدالمهدي كرئيس لحكومة تكنوقراط، وبينما كان المرشح لمنصب وزير الثقافة حسن الربيعي قائد ميليشيا “عصائب أهل الحق“، فإن ذلك لم يتم فقد واجه اعتراضا من بقية الكتل السياسية، قبل أن يتم التوافق على اسم الحمداني بعد شهرين من المخاض والتفاوض.

 وفي خارج البلاد، كان حضوره في المؤسسات الدولية بمثابة رسالة دائمة، سواء في صندوق التراث العالمي، أو المركز الدولي لصيانة الممتلكات الثقافية، والمؤتمر الدولي للآثار، والمجلس الدولي للمتاحف، والمجلس الأميركي لمراكز بحوث ما وراء البحار، والمعهد الأميركي للدراسات الأكاديمية في العراق، ومؤسسة التراث العراقي، ومؤسسة “أصوات من أجل العراق“.

احتلال تنظيم داعش الإرهابي للموصل وشروع أفراده بتدمير آثارها، استفز الحمداني ليستنفر جهوده وينظم حملات للاحتجاج على هدم نمرود، وحينها قال إن ”آلاف السنين من التاريخ تُحطّم بمطارق الجهل، مع كل تمثال دُمّر قصة سوف تُنسى“.

12