الرد على ثورة الجوع في مصر

استنزفت جماعة الإخوان المصرية كل أنواع الدعاية السوداء التي استخدمتها للنيل من النظام المصري السنوات الماضية ولم تفلح في تحقيق أي من أغراضها المركزية، ولجأت خلال الفترة الماضية إلى تكثيف الدعاية أو البروباغاندا بالاستناد إلى التبشير بحدوث جياع في مصر، مستفيدة من تراكم الأزمات وما أحدثته بعض التطورات الخارجية من تأثيرات اقتصادية سلبية على حياة شريحة كبيرة من المواطنين.
تعددت المفردات التي استخدمتها الآلة الإعلامية للإخوان وعزفت جميعها على وتر ما يسمى بـ”ثورة الجوع” بدلا من الثورة الشعبية لأسباب عقائدية، وهي إشارة تفيد بالاعتراف بقدرتها على أن حركة الشارع أكبر من أن تسيطر عليها الجماعة، وأي غضب يمكن أن يحدث في مصر لا علاقة له بأجندة الإخوان ودوافعها السياسية.
جربت الجماعة كل أنواع التحريض وتأكدت أن قبضة النظام المصري قوية وحنكته في صد هجماتها الإعلامية متشعبة، وبدت عملية الخروج عليه من خلال ذيولها الكامنة ليس لها أفق للنجاح، ووجدت في تململ الناس من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية مدخلا يجعلها تعمل على استثمارها والقفز عليها للمزيد من التحريض.
تعددت المنصات الإلكترونية والفيديوهات الإخوانية التي تبشر بقرب انفجار الغضب المكتوم في الشارع المصري، واستغلت ارتفاع الأسعار والتحرير الثاني للعملات الصعبة وتراكم الديون والتوسع في القروض من صندوق البنك الدولي، لتؤكد لمتابعي صفحات الجماعة وقنواتها على يوتيوب أن الدولة المصرية أوشكت أن تعلن إفلاسها.
لن أخوض في المعاني المالية لما وصلت إليه الأوضاع في هذا المجال لأن تفنيدها له متخصصون يستطيعون شرح أبعاد القروض بالنسبة إلى الحالة الاقتصادية العامة، وما يهمني هنا التعامل الرسمي مع الحالة الإخوانية التي وجدت في المتاعب التي تعاني منها شريحة من المواطنين فرصة لتعزيز حملاتها والتمهيد لثورة جوع.
انتبه النظام المصري مبكرا للحالة الاقتصادية والمخاطر الاجتماعية التي تحملها واستحدث برامج حماية وأنظمة ضمان للفئات الأكثر فقرا في البلاد وتخفيف المعاناة عن كاهل هؤلاء كي لا يتحولوا إلى قنبلة في أيدي الإخوان، وحقق هذا التوجه جانبا مهما من أهدافه، غير أن المتطلبات التي يحتاجها لسد جميع الثغرات تفوق قدرات الدولة.
والمشكلة أن الأنظمة والبرامج المستحدثة جرى توجيهها نحو شريحة فقيرة جدا، بينما تأثيرات غلاء الأسعار امتدت إلى شريحة ضمت نسبة كبيرة من الطبقة المتوسطة غير المستهدفة من المساعدات التي تقدمها الدولة، ويقع على عاتقها التغيير الحقيقي.
الحكومة الشاطرة ليست التي تغزل بقدم (رجل) حمار، كما يقول مصريون للتعبير عن حسن التصرف بأدوات محدودة، بل التي تقدم أفكارا مبدعة وتنجح في تخطي الأزمات بأقل تكاليف سياسية
يمكن فهم خطورة البروباغاندا الإخوانية، فالمتابعون لها يقعون في قلب هذه الطبقة، ويشكلون الفئة القادرة على القيام بأي حراك في الشارع الذي تعمل الجماعة على استنفاره بشتى السبل، معتقدة أن الحكومة المصرية ستقف عاجزة أمام سد الاحتياجات الأساسية لهؤلاء ولن تستطيع أيضا الوفاء الكامل باحتياجات الفقراء.
تتجاوز المسألة قدرة الحكومة على توفير الموارد المالية اللازمة لتوفير الخبز لأكثر من مئة مليون نسمة، فأزمة الغذاء العالمية تخفف عنها جانبا من الضغوط وتمنحها جانبا من المرونة الاقتصادية، فقد أصبحت تحتاج إلى قدرة على التعامل مع الأوضاع برؤية شاملة، فالأموال ضلع وليست كل الأضلاع في المعادلة الراهنة التي يمكن أن تنحرف عن السيناريو الذي تتعامل من خلاله الحكومة مع ما يردده الإخوان من تضخيم يتعلق بثورة جوع محتملة في مصر.
نجح النظام المصري في تعرية الكثير من مخططات الإخوان وتفريغ خطاب الجماعة من مضمونه السياسي، واستخدمت أجهزة الدولة أدوات متعددة لفضح حيلها وصدقتها الأغلبية من المواطنين، لكن قد ينهار ما جرى إنجازه على عتبة عدم القدرة على توفير المواءمات اللازمة للتعاطي مع الأوضاع التي تتخطى الحدود الاقتصادية.
تمر دول كثيرة بفترات من الفقر وآلامه وتبعاته، ويدفع المواطنون ثمنا باهظا لذلك لأنهم على قناعة بقوة الدولة وسعيها لتحقيق الأمن والاستقرار لهم، وعلى ثقة في قدراتها الكبيرة لتخطي الصعاب، وإذا اهتزت هذه المقومات من السهولة أن تخترق دعاية الإخوان السوداء حول ثورة جياع مزعومة عقول الناس، ويمكن تصديقها طالما أن مهارات الدولة تعجز عن المواجهة الصحيحة.
تفوق أدوات المواجهة السعي لتوفير المساعدات الاقتصادية وزيادة البرامج الاجتماعية والضغط لحث التجار على خفض الأسعار، فكل هذه الطرق لا تصمد طويلا أمام طوفان التحريض، وما يتوافر من قواعد قد تدفع الناس للتخلي عن صبرهم وأحلامهم المؤجلة، مقارنتهم بدول انهارت بعد احتجاجات شعبية على الحكام.
نجت مصر من سيناريو شبيه عقب ثورتي يناير 2011، ويونيو 2013، وقضت على القوتين الصلبة والناعمة لجماعة الإخوان، وتخلصت من منغصات إقليمية مثلت خطرا داهما على أمنها القومي، مع ذلك لم تتمكن الحكومة من ضمان النجاة تماما من سيناريوهات أشدها خطورة اللجوء للتوظيف السياسي للأزمات الاقتصادية حاليا.
ضاعفت دعاية الإخوان من الاهتمام بالحالة الاقتصادية وتعمد قائمون عليها التركيز على نماذج حية لحياة متدنية لمواطنين تعكس المستوى المنخفض الذي وصل إليه البعض لتثبيت صورة سلبية عن الأوضاع وتعميمها عبر تكرار مفهوم نظرية الأواني المستطرقة، والتي تطلق على مجموعة من الحاويات المتصلة تحتوي على سائل متجانس عندما يستقر يتوازن في كل الحاويات عند نفس المستوى أو المنسوب، بغض النظر عن شكل وحجم الحاوية.
يحتاج الرد على بروباغاندا ثورة الجوع في مصر إعادة النظر في الطريقة التي تتعامل بها الحكومة مع الأزمات الاقتصادية، فما يحتاجه الناس لا يتوقف عند بقائها أسيرة للتكسير في عظام الإخوان، فقد تكسرت هياكل بما يكفي والإمعان في هذا المجال يؤدي إلى تعاطف غير متوقع معهم، ويخصم من رصيد الحكومة التي ربما تبدو في صورة من لا يملك الأدوات الكافية لتخفيف الأعباء عن الناس ويضطر إلى التفتيش في أوراقه القديمة عسى أن تمكنه من كسب معارك لاحقة.
لكل مرحلة أدواتها ولكل زمان وسائل تساعد الحكومة في الحفاظ على شعبيتها أو منع انهيارها، فاستخراج ورقة المؤامرة في غير أوانها لن يفيد، فالعالم كله يعيش على وقع أزمات اقتصادية ومصر ليست استثناء في ذلك.
الحكومة الشاطرة ليست التي تغزل بقدم (رجل) حمار، كما يقول مصريون للتعبير عن حسن التصرف بأدوات محدودة، بل التي تقدم أفكارا مبدعة وتنجح في تخطي الأزمات بأقل تكاليف سياسية، وعليها أن تمنح الناس جرعات حقيقية من الأمل للصبر على سياساتها التقشفية، وعدم الانسياق وراء دعاية هدامة يقدمها إخوان أو غيرهم.