تجاهل دور الإفتاء لأزمة الأمن الغذائي

تتدخل مؤسسات الإفتاء في العالم العربي في كل شيء تقريبا. قد تبيح هذا أو تحرّم ذاك. لم تترك قضية كبيرة أو صغيرة إلا وتطرقت إليها، ما عدا الإسراف في الإنجاب الذي تغض الطرف عنه كثيرا، وتشجع عليه دون قيود أو شروط أو ضوابط تضمن للأبناء تربية سليمة وحياة مستقرة تمكنهم من مواجهة العواصف التي تهب على دولهم.
كشفت أزمة الأمن الغذائي في العالم وتداعياتها على الكثير من الدول العربية عن واحدة من التجليات القاتمة لعدم اقتراب دور الفتوى منها، كي تجنب نفسها الوقوع في تناقضات. فمن بالغوا في الحديث عن أهمية الأبناء وتسببوا في إفشال حملات تنظيم الأسرة وتحديد النسل في بلدانهم لا يستطيعون التوقف عند تضخم الأزمة الراهنة وما يمكن أن تسببه الزيادة السكانية المطّردة من مخاطر مضاعفة.
يعد اليقين الذي تبثه مؤسسات الإفتاء بأن العناية الإلهية سوف تنقذ المسرفين في الإنجاب واللجوء إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية وردت في مواقف محددة واستخدامها في التشجيع على الزيادة، من العوامل التي تعرقل الجهود التي تبذلها حكومات عدة لإحداث توازن بين الإنجاب ومصادر الدخل فتتحطم على صخرة الجمود في الفتوى.
ها هو الجوع يلوح في الأفق في بعض الدول العربية، وهذه المرة ليست له علاقة مباشرة بعقوبات قاسية أو ظلم حكام أو نتيجة عوامل طبيعية تتعلق بجفاف أو فيضان، بل هو من صنع البشر ذاتهم، ولو استخدم هؤلاء عقلهم ورشدهم وما يحويه دينهم لتمكنوا من الحد من المردودات السلبية للأزمة الأوكرانية في مجال الأمن الغذائي
لوم الحكومات على عجزها أو تقاعسها عن توفير الغذاء للمواطنين ليس من قبيل الإفتاء، فالأمر الآن يتجاوزهم إلى ما هو أكبر
ماذا فعلت مؤسسات الإفتاء نحو هذه المسألة. بحثتُ عن موقف الأزهر في مصر فلم أجد تعليقا لأي من شيوخه حول الأزمة. توقعت أن يقوم خصمه اللدود دار الإفتاء بتشمير ساعديه والغوص في الجزء المجتمعي لتجاوز أزمة الغذاء التي يلوح شبحها فلم أجد صدى لهذه الدار، وهي التي درجت على أن تكون متسقة مع الأجندة السياسية.
يحمل هذا التجاهل تفسيرات تتعلق بدور مؤسسات الفتوى ذاته ومدى القدرة على تفهم ما هو ضروري وحيوي عما هو بسيط وسطحي ويدغدغ مشاعر الناس، ويكاد الشق الأول يغيب عن الكثير من شواغل دور الإفتاء بعد أن انخرط شيوخها في الجري وراء الضجة التي تثيرها منصات التواصل الاجتماعي حول حكم من تخرج زوجته دون إذنه أو موقف الشرع ممن لا تنصاع لرغبة زوجها في العلاقة الحميمة.
تغدق مؤسسات الفتوى من وقتها وعرقها وجهدها في هذا النوع من القضايا، والتي لا أحد يقلل من أهميتها عند أصحابها، لكن على المستوى العام يغيب الاجتهاد وتتعثر الفتاوى عندما تتعلق بقضية جوهرية مثل الأمن الغذائي، ففي الدول التي يمثل الدين محورا في حياة الشعوب ويحمل قداسة مرتفعة يبرز دور الفتوى التي تتطرق إلى أزمات تؤثر على مصير الدولة، حيث تقع على عاتق رجالها مسؤولية مهمة.
مضى نحو شهر على أزمة أوكرانيا وما خلفته من تأثيرات فورية على ملف الغذاء في مصر، ولم يجرؤ علماء الدين على تقديم تصور منصف يخفف من وطأة المعاناة التي تواجهها الحكومة وهي تسعى إلى سد حاجات المواطنين وردم الفجوة في الأسعار.
يتدخل بعض الشيوخ في الحث على عدم الإفراط في الطعام والشراب والإنفاق على الشهوات، غير أنهم رفضوا الحديث عن الإسراف في الإنجاب، وهو النقطة المحورية في قضية الأمن الغذائي، وبحاجة إلى تكاتف جميع الجهود، وفي مقدمتها جهود رجال الدين الذين يحلو لبعضهم استعراض عضلاتهم الفقهية في قضايا هامشية.
لوم الحكومات على عجزها أو تقاعسها عن توفير الغذاء للمواطنين ليس من قبيل الإفتاء، فالأمر الآن يتجاوزهم إلى ما هو أكبر، لأن انعكاسات الأزمة فوق طاقتهم، فهي لا ترتبط بدول غنية أو فقيرة بقدر ارتباطها بالحكمة في القضية السكانية، فقد تملك دول غنية توفير احتياجاتها الأساسية لفترة معينة، وتصبح الأزمة أخطر في الدول الفقيرة لمحدودية موادها.
بات الأخذ بالدوافع المنطقية من بديهيات الحياة التي نعيشها، وما لم تتحلّ دور الإفتاء برصانة في عملية التوعية الدينية قد تخرج أزمة الغذاء عن سياقاتها الحالية
وفي الحالتين تدق أزمة الغذاء المنتظر تفاقمها جرس الإنذار للتنبيه بشأن التفاوت في تصنيع السلع الأساسية محليا واستيرادها من الخارج في الدول التي تعاني من زيادة سكانية وتواجه مأزقا في توفير الغذاء للملايين من السكان، وهي قضية تتطلب مواجهة صريحة من قبل رجال الفتوى بدلا من دفن رؤوسهم في الرمال أو الاعتماد على قوة خارقة تخفف عن الناس آلامهم ومعاناتهم.
تبدأ عملية الإنقاذ من التوعية بحقيقة الأشياء وتسميتها بمسمياتها، فالأساس في الحياة السعي والكد والتعب والأخذ بالأسباب حتى النهاية ثم التوكل على الله، وليس التواكل عليه منذ بداية الأزمة وعدم مواجهتها بالطرق السليمة، فما ترسخه دور الفتوى يندرج في الباب الثاني، بينما الأوضاع تحتاج إلى تحركات من الباب الأول.
لعل أزمة الأمن الغذائي التي يطل شبحها بقوة تفرض على دور الفتوى إعادة النظر في التوجهات التي تتبناها غالبيتهم، وتركز على ما هو قريب وتتجاهل ما هو بعيد، وتهتم بما يرضي غرور البعض على حساب المصلحة الوطنية التي لا يزال يلعب الدين فيها دورا مهما، فالناس بمصر ينجذبون لشيوخ الدين أكثر من شيوخ السياسة.
ننتظر من الفريق الأول تبني خطوات جادة وعملية تؤكد مسؤوليتهم، فما ظهر من روافد في ملف الغذاء بسبب أزمة أوكرانيا قمة جبل الثلج، ولا أحد يعلم ما يمكن أن تحمله قواعده الراسخة في الأرض، ولذلك فالاستعداد يجب أن يبدأ من تبني خطاب متين يضع حدا للشهوة في الزيادة السكانية التي يمكنها أن تدمر الجدوى التي تنطوي عليها الكثير من المشروعات التنموية التي انتشرت في ربوع مصر.
يحتاج الخطاب الديني إلى جرأة مدروسة في اقتحام هذه المنطقة الخطرة بدلا من تجاهلها، والذي يؤدي إلى زيادة المشكلات المجتمعية بصورة قد تعجز الحكومات عن مواجهتها لاحقا، فالأمن الغذائي لا يقل أهمية عن الأمن القومي للبلاد، وكلاهما يحتاج إلى توفير شبكات حماية مادية ومعنوية تعصم من الوقوع في فخاخه.
بات الأخذ بالدوافع المنطقية من بديهيات الحياة التي نعيشها، وما لم تتحلّ دور الإفتاء برصانة في عملية التوعية الدينية قد تخرج أزمة الغذاء عن سياقاتها الحالية وتصعب السيطرة عليها، لأن الهروب إلى التفسيرات الغيبية عن قصد أو دونه يقود إلى دخول حزام طويل من الأزمات لن ينتهي مع فتوى تأتي في غير أوانها.