ما الذي يؤرق المثقف العربي اليوم أكثر من أي وقت مضى

يُتّهم المثقفون العرب عادة بأنهم بعيدون عن هواجس شعوبهم وآمالهم ويعيشون في أبراج عاجية، وهو ما أصبح تهما جاهزة يسوقها البعض بشكل آلي دون التعرف حتى على كتابات بعض هؤلاء المثقفين أو آرائهم أو حضورهم في مجتمعاتهم ورؤاهم وأفكارهم. “العرب” استطلعت آراء عدد من المثقفين العرب حول ما يؤرقهم في علاقتهم بواقع بلدانهم وبالواقع العربي ككل.
يرزح العالم اليوم غربه وشرقه تحت وطأة قضايا وإشكاليات كبرى سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية وفكرية وثقافية، تتسبّب في حروب ونزاعات وصراعات وفتن وتطرف وإرهاب، وتلقي بتأثيرات سلبية على مجريات واقع حياة الشعوب وقدرتها على المواجهة والتفكير في مآلات حاضرها ومستقبلها ومستقبل أوطانها، حتى ليتصور المرء أن هناك غيابا لسلطة العقل في مواجهة هذه التحديات التي تمثلها تلك القضايا والإشكاليات.
ومن هنا طرحت “العرب” في استطلاعها على المثقفين والكتاب العرب سؤال: ما القضية أو الإشكالية التي تؤرقك وترى أنها تشكل خطرا على مستقبلك ومستقبل وطنك؟ وقد جاءت الردود كاشفة عن تعددية القضايا والإشكاليات وتشابكها.
قبول الآخر

نيروز مالك: ما زلت أخاف من صور الفوضى والحرب والدمار
ويضيف “ليست تلك هي المشكلة لأنه لا بد لنا من الاعتراف بحقيقة أن التعصب هو جزء من بنية الديانات الإبراهيمية، لاعتقاد كل منها بأنها الديانة الإلهية الصحيحة. إذن ما العمل أو الحل؟ الحل في رأيي هو تأكيد هوية الدولة المصرية المدنية وتعزيز مبدأ المواطنة من خلال إلغاء قانون ازدراء الأديان وتنقية الدستور من المواد التي تعطي مبررا لوصاية رجال الدين على الفضاء العام، وأهمها المادتان الثانية والسابعة، وإلغاء أي أحزاب ذات مرجعية دينية، فضلا عن تجفيف منابع الإرهاب في كافة مؤسسات الدولة واحترام الحرية الخاصة بالإنسان المصري والاعتراف بأهمية دور الثقافة وعدم التعامل مع المثقف على أنه كائن زائد عن حاجة المجتمع ولا قيمة له”.
ويقول “أعترف أن الدين مكون رئيسي من مكونات الهوية، وبدونه يشعر الإنسان بضياعه وعبث وجوده. الإيمان بوجود قوة عليا تتجاوز الإنسان يمنحنا نوعا من الطمأنينة ويضفي على الحياة شيئا من المعنى، ولذلك فكل إنسان يبحث لنفسه عن سردية مقدسة يعيش فيها، ولا توجد مشكلة في هذه المسألة، ولكن تبدأ المشكلة عندما نتصور أن سرديتنا هي الوحيدة المقدسة، وأن بقية السرديات زائفة، وأننا نملك الحقيقة أو الحق المطلق، وبالتالي سنصبح الأقرب إلى الله، أو كما يتصور البعض أنه قد امتلك الإله، هكذا يتوهم السني والشيعي واليهودي والمسيحي.. وغيرهم”.
بداية يشير الدكتور حسن حماد أستاذ كرسي الفلسفة لليونسكو بالزقازيق إلى أن الإشكالية الأساسية والحضارية في مصر الآن هي العلاقة بين المقدّس والدنيوي، بين السلطة الدينية والفضاء العام، أو بين تغول الخطاب الديني على كافة الخطابات الأخرى الثقافية والعلمية والتعليمية والسياسية والتشريعية وحتى الخطاب اليومي للبشر وأساليبهم في الحياة؛ كيف يأكلون، كيف يعملون، كيف يمارسون الجنس، كيف يتعاملون مع ذويهم ومع الآخر.. إلخ.

ياسر الغبيري: قبول الآخر أو رفضه مرتبط بالوعي والثقافة والتربية
ويضيف “إن هذه الجموع المقهورة التي أعياها الفقر والإهمال وتيبست إنسانيا تفتش دوما عن كبش فداء تفرغ فيه طاقاتها وأمراضها المكبوتة، تارة تجدها في سائحة كانت تقف في شرفتها الخاصة بملابسها الداخلية، أو في سيدة ترقص في رحلة نيلية أو في بطلة فيلم سينمائي أو في أحد المثقفين الذين استفزهم واحد من الشيوخ التكفيريين فأخذ يصرخ في وجهه بهستيريا قائلا أنا كافر. لقد اختزلنا الثقافة والهوية وربما السياسة والتعليم وكل تفاصيل الحياة في الدين، فخسرنا الدنيا والآخرة وأوشكنا أن نصبح على هامش الحضارة الإنسانية المعاصرة، وأخشى أن نصبح قريبا مثل الكائنات المنقرضة”.
ويؤكد حماد أن الانشغال بالاختلافات المذهبية والدينية والعقائدية أدى إلى إهدار واستنزاف الثقافة المصرية، ومن ثم سادت حالة من هوس التحريم لدى الجموع الفقيرة المحرومة التي أفسدها الانحطاط الثقافي وضمور الإبداع وتسلط التفاهة والجهل المقدس وكل أشكال الفن الرخيص: أغاني المهرجانات والراب ودراما البلطجة والمخدرات.
ويقول الروائي السوري نيروز مالك “خلال سنوات الحرب التي عاشتها سوريا، كنت على الرغم من خوفي من القتل المجاني أشعر بالذعر كلما فكرت في الفوضى التي قد تحدثها الحرب في مدينتي حلب التي أعيش فيها. في الحرب، أنت تعرف حدود الموت والحياة، فيمكنك أن لا تقترب منها فتسلم من موت فجائي. أما عندما تعم الفوضى تفقد القدرة على اتخاذ أي قرار للحفاظ على سلامة حياتك وحياة أفراد أسرتك. وكثيراً ما تصورت مدينة حلب قد عمتها الفوضى بعد أن أفلت الزمان من أيدي السلطة السورية فتصبح إنساناً مكشوف الظهر، وبلا حماية قانونية أمام انفلات الرعاع والزعران واللصوص وأصحاب السوابق، فيباح القتل والسرقة والاغتصاب ونهب الأملاك من دون أن تقدر على رد هذا الأذى الكبير عن نفسك وعن أسرتك. فتقف عاجزاً، مكتوف الأيدي أمام قطعان الذئاب المنفلتة من عقال غرائزها المكبوتة”.

حسن حماد: الإشكالية الأساسية الآن هي العلاقة بين المقدّس والدنيوي
ويضيف “خلال سنوات الحرب كانت ظاهرة الفوضى هي التي تخيفني أكثر من القتل الذي وقع بكل أشكاله في سوريا. كنت ما أن أتذكر صور الفوضى التي رأيتها في هذا البلد أو ذاك على شاشات التلفزيون من العالم، وما كانت تتركه وراءها من دمار، كنت أشعر بالرعب من أن أرى نفسي وأسرتي ضمن هذه الجموع الهائجة التي تجرف أمامها كل شيء. كنت أتساءل: ماذا سيكون مصير البلد إن انزلقت إلى عالم الفوضى هذا؟ كنت أتصور المدن جميعها مجتاحة، أتصور الخراب الذي ستكون عليه البلاد فوق الخراب الذي هو عليها بسبب الحرب”.
ويتابع “كانت نفسي تنكمش فأشعر بالغثيان. واليوم ما زلت أخاف من هذه الصورة عن الفوضى، لأن أسبابها على الرغم من توقف الحرب وتجميدها على طرفي خطوط التماس ما زالت قائمة، لذا ما زالت هذه الصورة المرعبة تدور في ذاكرتي فتخلق لديّ إحساساً بأن المستقبل بالنسبة إلي وإلى بلدي غير مضمون، غير مؤكد، يمكن في كل لحظة أن تنزلق الأمور إلى واقع مخيف تعمه فوضى شاملة تكون نتائجها أسوأ من نتائج الحرب”.
ويلفت الباحث والإعلامي ياسر الغبيري إلى أن الأزمة التي تؤرقه كونها هددت ولا تزال تُهدد مُستقبل الشعوب والأوطان تتمثل في العصبية التي تُفرز “عدم قبول الآخر” المُختلف معه فكريًا وسياسيًا وعقائديًا، ومحاولة إقصائه أو اغتياله “معنويًا” بكل الأشكال والوسائل المُمكنة.

ناصر عراق: أهم القضايا التي تؤرق المرء هي قضية العدالة
ويضيف “تُسيطر العصبيات على العديد من المُجتمعات، وتختلف في حدتها وقوتها، واتساع دائرتها من مُجتمع إلى آخر، وكذلك تختلف في أسبابها، والتي تنشأ عنها تصدعات داخلية تتسبب في فجوة كبيرة بين أبناء المُجتمع الواحد. إن قبول الآخر أو رفضه مرتبط بالأساس بالوعي والثقافة، وطريقة التربية والنشأة؛ مرتبط بما غرسه البيت أولًا داخل الفرد، وصولًا إلى المدرسة والجامعة، وهو ما يظهر أثره في التعاملات اليومية بين أبناء المُجتمع، وعدم قبول الآخر يقوم على أسس عِرقية وأيديولوجية، ومذهبية أيضًا”.
وفي رأيه ربما يتطور “رفض الأخر” بمرور الوقت، فيصبح من مجرد رفض لرأي وفكر ما خلافا يدفعه الحقد إلى إقصاء الآخر، أو تصفيته معنويًا وجسديًا، مثلما حدث في النصف الثاني من القرن الماضي مع عدد من الكُتاب والمُفكرين الذين قدموا إبداعًا وفكرًا فكان الرد بإقصائهم من المشهد بشكل عنيف، بعدما فشلت محاولات الرد عليهم فكرًا بفكر.
ويقر أننا نحتاج الآن وبشدة إلى نبذ الفرقة، نحتاج إلى ثقافة قبول الآخر، واحترام المُختلف معه دينيًا وفكريًا وسياسيًا، وإن لم نؤمن بما يُقدمه، فالأصل في المُجتمعات الاختلاف الذي يُبرز التنوع والثراء الفكري بين أبناء المُجتمع الواحد، بعيدًا عن العنف والكراهية والفوقية والتربص والإقصاء والهدم.
أما القضية التي تؤرق الروائية والناقدة هويدا صالح وتراها تشكل تهديدا حقيقيا، ليس لوجودها ككاتبة امرأة في مجتمع ذكوري بل تهدد المجتمع كله، فهي هيمنة النسق الثقافي الذي يُقصي كل مكوناته الثقافية لصالح المركز، فكل ما يدور حول هذا المركز يتم إقصاؤه وتهميشه وسلب حقوقه إن لم يكن نكرانها.

مدحت صفوت: نحن نعاني من أخلاق الزحام حيث شريعة الفرص هي القانون
وتقول “النسق الثقافي سواء كان دينيا أو اجتماعيا أو سياسيا غير مهتم بمن يحيطونه من هوامش ثقافية، فالنسق الديني/ المركز ‘المسلم السني’، مثلا، يقصي الهامش أو الآخر المختلف عنه دينيا، ولنضرب مثلا بمصر، فالمسيحي في مصر منقوص الحقوق حتى وإن تبنت الدولة شعار الوحدة الوطنية والمساواة التامة بين المسلم والمسيحي في الحقوق والواجبات بالطبع، حتى وإن وضعت الدولة الآلاف من القوانين التي يفترض بها أن تنظم حياة المسيحي المجاور للمسلم، إلا أن المجتمع وأرض الواقع يقولان غير ذلك”.
وتقر بأن ثمة تفرقة وإنقاصا من القدر مسكوتا عنهما وغير معترف بهما، لكنهما يشكلان ضغطا نفسيا واجتماعيا على ذلك الآخر. كما أن النسق الاجتماعي الذي يمثل المركز يقصي هوامشه وينقصها حقوقها، فنجد الأثرياء ينقصون حقوق الفقراء والرجال ينقصون حقوق النساء، حتى بوجود قوانين تنظم هذه العلاقات إلا أن المجتمع وأرض الواقع يفرضان ما يريدان ويعطيان النسق فرص الهيمنة على هذه الهوامش الاجتماعية.
وتتابع “كذلك الأمر بالنسبة إلى النسق السياسي المهمين، الحزب الذي يمثل النظام الحاكم يفرض هيمنته وسطوته على المعارضة، فلا توجد معارضة حقيقية تقوم بممارسات النسق وتقاومها، ومن ثم حين تقوم هذه المعارضة بدورها المنوط بها يتم اتهامها بالعمالة والعمل على هدم أركان الوطن وغيرها من تهم جاهزة. لذا أتصور أن كشف ممارسات النسق الثقافي وسطوته قضية جوهرية في حياة أي مثقف يجب أن يكشف المسكوت عنه فيها”.

محمد عبيدالله: قضية فلسطين بتشعباتها وتأثيراتها هي القضية الأساسية
قضية الباحث في التراث الشعبي اليمني محمد سبأ تمثلت انطلاقا من رؤيته إلى دور الثقافة الشعبية، حيث يرى أن علم دراسة ثقافة الشعوب يعتبر من العلوم الهامة التي تقدم العديد من المعلومات الهامة حول مكونات المجتمع بما يسهم في رسم سياسة حل نزاعات الشعوب والمجتمعات بمكوناتها المتعددة، حيث أن نجاح أي دولة يكمن في فهم نسيج الوطن الداخلي وما تحويه مكوناته من عناصر وثقافات تكمل بعضها، ودراسة هذا العلم يجب أن تضع في عين الاعتبارعدم تأجيج الصراع من خلال التعصب للثقافة أو العرق أو القبيلة والتأكيد على أن تنوع المجتمع يزيد جمالاً لا اختلافاً، وحاجتنا إلى دراسة مكونات الشعوب يجب أن نسخرها لحل النزاعات المناطقية أو العنصرية أو القبلية أو الدينية وغيرها.
ويضيف “علينا أن نترفع عن تسمية المجتمع بالجزء فيقال هذا كردي وهذا عربي وهذا جنوبي وهذا شمالي وهذا شيعي وهذا سني وهكذا، وكل هذا ما كان ليحصل لو أننا فهمنا جذور هذه الاختلافات ووضعنا لها قاعدة علمية تمكننا من فهم هذه المكونات الاجتماعية ودمجها داخل الوطن الواحد، سواء كانت أسبابها معتقدات دينية أو عصبيات قبلية أو عرقية، وكل هذا لا يهمنا بقدر ما يهمنا أن نساعد بعضنا في إيجاد الحلول التي تُسهم في مزيد من التقارب والاستقرار لبلداننا. إن كل ما يحصل لبلداننا العربية من صراعات وحروب يدل على أن هذه الدول يجب عليها أن تراجع نفسها في وضع الدراسات الحقيقية التي تساعد في فهم المجتمعات ووضع السياسات المناسبة التي ترضي الجميع دون التحيز إلى فئة أو جماعة”.
ويتابع “لأن ثقافة أي مجتمع لم تأت بفعل تعصب أفراده وإنما هي امتداد لقرون طويلة من المعارف التي تنتقل من الآباء إلى الأبناء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من المجتمع ككل، فالإنسان ينقل ويتعلم من كل ما يحيط به، فنحن في الوطن العربي بالذات أبناء وطن واحد وثقافة واحدة تربط بيننا أواصر اللغة والثقافة والتاريخ والمصير، وعلينا إدراك كل ما يدور في خاطر مكونات الثقافة المكونة لمجتمعاتنا باختلاف أماكنها وموروثها، وبالتالي التعامل بالطريقة الصحيحة التي تمكننا من حل المعضلات وإصلاح الأخطاء وتجنب الضرر في المستقبل”.

الضوي محمد الضوي: القضية الكبرى التي تؤرقني هي غياب سلطة القانون
شريعة الفرص
ويرى الروائي المصري ناصر عراق أن من أهم القضايا التي ينبغي أن تؤرق المرء هي قضية العدالة الاجتماعية، ذلك أنه يظن أنه بالعدالة يمكن مواجهة التحديات الأخرى كافة مهما كانت معقدة وقاسية وصعبة، لأن ملكات الإنسان لا تتفجر إلا في مناخ يعزز مشاعر المساواة بين الناس، فالظلم يقهر الروح ويفسد النفس ويعرقل أي فرصة للتطور.
ويضيف “لا يغيب عن ذكاء القارئ أن كل الثورات الكبرى التي اندلعت في التاريخ كان سببها الأبرز غياب العدالة، أو شحوب حضورها في المجتمع، الأمر الذي دفع الشعوب إلى التمرد ثم الثورة على حكامها وظالميها، حدث ذلك في الثورة الفرنسية سنة 1789، والثورة الروسية عام 1917، والثورة الصينية سنة 1946، وثورة يوليو في مصر عام 1952، ثم ثورة يناير في مصر أيضًا سنة 2011.
ويتابع “إن كل الثورات استعرت بسبب الضيم وحرمان الشعوب من العدالة، لذا أفكر دومًا في كيفية تحقيق العدالة في مصر، وإذا كانت أحلام الشباب في تأسيس مجتمع ينهض على العدالة والحرية والديمقراطية قد تبخرت غير مرة، إلا أن التاريخ يؤكد أن الشعوب لا يعتريها اليأس من اصطياد طائر العدالة كلما تفشى الظلم في أركان المجتمع، كما أن معظم الأعمال الإبداعية الكبرى في الأدب والفن كانت تنشد فكرة العدالة وتحتفي بضرورتها وتدعو إليها بشكل أو بآخر. العدالة نجمة بعيدة في السماء يتطلع إليها الناس في كل عصر وكل جيل”.

عمار الثويني: قضيتي منذ بداية وعيي هي قضية الوطن
ويشير الباحث والناقد مدحت صفوت إلى أن الأخطار باتت تحيطنا من كلّ جانب، مؤكدا أنه أصبح أينما يولي الإنسانُ وجهه فثمة وجه تحدّ أو إشكالية تتطلب مواجهتها بحسم وحزم، وعلى هذه الكثرة، فإن ما يؤرقه على نحو شخصي هو انسداد الأُفق أمام الشباب، وتراجع قنوات الترقي الاجتماعي والوظيفي الطبيعية، الأمر الذي يدفع إلى انتشار اليأس والإحباط، وهي مشاعر لا يتوقف تأثيرها على الحد النفسي. فيمكن القول باطمئنان إنها أمّ الأمراض المجتمعية والثقافية.
ويتابع “مع زيادة الكثافة السكانية في أيّ بلد سقطَ التنظيم من حساباته، خاصة التنظيم المبني على المعطيات العلمية، وفي ظل الموارد المحدودة، تتقلص الفرص المعيشية الجيدة، بالتالي تنتشر ما يشير إليها علماء الاجتماع بـ’أخلاق الزحام’ وثقافته، الأمر الذي سبق أنّ نبه إليه الباحث المصري الراحل سيد عويس. في الزحام الفوضوي غير المنظم تصبح شريعة الفرص هي القانون، فلا داعي أن تقف في طابور منظم مثلًا لتلحق دورك في مؤسسة ما، فكلما سنحت الفرصة أن تقتنص دور غيرك، لا بأس، حال توسيع منظور الرؤية فإن آثار ثقافة الزحام تمتد إلى سبل الترقي الاجتماعي والوظيفي”.
ويضيف “مع غياب القانون والنظام معًا تصبح الأفضلية لمن يقتنص الفرصة وليس للأكفأ. ومع غياب الفرص المشروعة يشعر المرء بعدم تحقيق ذاته، طبقًا لعلم النفس الغربي والفلسفة والروحانية والديانات الهندية، فإن مفهوم تحقيق الذات يعني ‘تحرير المعرفة بالذات الحقيقية’، ومع غياب هذه المعرفة، يصبح الفرد فريسة سهلة للتطرف بأشكاله المتباينة، دينيًا أو سياسيًا أو مجتمعيًا”.

هويدا صالح: النسق الثقافي الديني والاجتماعي والسياسي لا تهمه الهوامش
ويكشف الشاعر والمسرحي الضوي محمد الضوي عن القضية الكبرى التي تؤرقه وهي غياب سلطة القانون في تفصيلات الحياة اليومية، يعني أن القانون يكون حاسما مع القاتل، مع المرتشي، مع الذي يثبت ضربه لغيره ضربا مبرحا يؤدي إلى عاهة ويمكن إثباته بتقرير طبي، لكن التفصيلات اليومية التي لا تقل جسامة، وخطرا، في انتهاك الإنسان لحقوق غيره، لا يعتني بها القانون.
ويضيف “أذكر أنني عندما كنتُ في سن السادسة عشرة واحتككتُ بمجموعة من الناس في الشارع، صفعني أحدهم على وجهي، وحاولت أن أقتص لنفسي وأضربه، لكن من كانوا بصحبته حالوا بيننا، وتدخل المارة ومنعوهم من مواصلة إيذائي، أذكر أنني توجهتُ وقتها إلى قسم الشرطة دون إخطار أهلي، فقال لي من يدون المحضر إنه لا توجد عليَّ آثار تعدٍّ يمكن إثباتها بتقرير طبي ‘جروح أو كسور’ كما لا يوجد معي شهود، وانتهى الأمر بمحضر تم حفظه، ولولا أن أهلي تتبعوا هؤلاء الناس وهددوهم بالانتقام، لكان حقي ضاع. جاء هؤلاء الناس إلى بيتنا معتذرين، مقدمين كبير عائلتهم، والعادات تقضي بضرورة العفو إزاء هذا السلوك، وقد كان، كنت أحب أن آخذ حقي بالقانون، قانون الدولة لا قانون القبيلة”.
ويتساءل “لماذا ونحن في عام 2022 ودولتنا تنحو نحو الرقمنة لا يكون تركيب كاميرات إجباريا على أصحاب البيوت والمنازل، وأصحاب المحال والمؤسسات المختلفة؟ لم لا يكون ثمة كاميرات في كل مكان ترصد المخالف الذي يؤذي غيره؟ لماذا لا تُغلظ عقوبة كل من ينتهك غيره قولا أو فعلا، أو غصبا لحق، مهما كان بسيطا؟ لماذا لا يكون لمن يتجاوز غيره في الطوابيرعنوة عقوبة، ترصد مخالفته الكاميرا وتتم عقوبته؟ لماذا لا تكون للجيران المشكو في حقهم بإحداث الضوضاء عقوبة؟ للموظف إذا غادر مكان عمله دون إذن أو توفير بديل معطلا مصالح الناس عقوبة؟ لماذا لا يكون لمدير العمل الذي يسمح بغياب موظف مؤثر دون توفير بديل عقوبة؟”.
وينادي بضرورة إرساء القانون القوي الحاسم الذي تطال طائلته الجميع بالتساوي، والذي يعاقب على الانتهاك والإيذاء وتعطيل مصالح الناس أو إلحاق الضرر بهم، قائلا “هو مطلبي وما آمله، وغيابه يصيبني ويصيب غيري يوميا بالإحباط، ويجعلنا حريصين على مغادرة بلادنا، الآن قبل أي وقت لاحق”.
قضية الوطن

يؤكد الدكتور محمد عبيدالله أستاذ الأدب والنقد وعميد كلية الآداب بجامعة فيلادلفيا بالأردن أن قضية فلسطين بتشعباتها وتأثيراتها المستمرة هي القضية الأساسية التي نعدّها قضية القضايا في منطقتنا، من ناحية حضورها وتأثيرها، ومن أية زاوية نظرت فستجدها ماثلة أمامك، في قصة شعب جرى تشريده من أرضه أمام أنظار العالم، وعن ذلك نشأت ظاهرة اللجوء والهجرة والنزوح، وما زال اللاجئون ينتظرون اليوم الذي يُنصفون فيه من الظلم الذي لحق بهم، وينتظرون العودة إلى وطن لا يقبلون عنه بديلا.
ويضيف “ما من وطن بديل عن الوطن الذي هُجّروا منه. وهناك طائفة من أبناء فلسطين صمدوا في أرضهم وما زالوا يعانون تحت الاحتلال، يواجهون القوة الغاشمة التي تقتل وتعتقل وتواصل إجرامها وعدوانها على الإنسان والمكان والزمان الفلسطيني، وفي المعتقلات والسجون عشرات الآلاف من السجناء والسجينات ممن تمثل معاناتهم مثالا قاسيا على الظلم، ولم يرتكب هؤلاء جريمة سوى ‘مقاومة الاحتلال’ والدفاع عن بيوتهم وأطفالهم ومقدساتهم، ومع أن الشرائع الدولية والدينية تدعم حقهم في المقاومة فإنهم يقبعون في السجون مسلوبي الحرية تحت آلة الجريمة الصهيونية”.

عصام أبوالقاسم: بالنسبة إلي المشكلة هي غياب الاستقرار السياسي
ويشدد على أنه “من هذه القضية العادلة تشعبت العشرات من القضايا الحاضرة في الإعلام والأدب والفنون، وما زالت جرحا ممتدا كوشم يشير إلى أن العدالة في عالمنا الراهن لا تتبع الحق، وإنما تنحني أمام جبروت القوة والعدوان، ولكن الأجيال الجديدة التي تولد كل يوم وتحمل مشعل الحرية وتفهم أبعاد الصراع تمنحنا بعض الأمل، ومن هنا نعوّل على إيمان الإنسان الفلسطيني والعربي بهذه القضية وبعدالتها، وبالنسبة إلي هذه هي قضية القضايا ومعيار العدالة في العالم، وما دامت فلسطين محتلة، فإن العالم لن يعرف الاستقرار ولن يقنعني بعدالته وإنسانيته”.
وتتمثل القضية التي تؤرق الروائي العراقي عمار الثويني منذ بداية وعيه على ما يجري في هذه الدنيا هي “قضية الوطن التي لا تقتصر على المعضلات السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، بل الوجودية بحيث صار الوطن ومواطنوه يسيرون في بحر من الأمواج المتلاطمة وشديدة الظلمة”.
ويضيف “منذ سقوط الملكية وصعود حكم العسكر عام 1958 والوطن والمواطن العراقي كان عليهما السمع والطاعة ولا حول لهما ولا قوة في صنع القرار. بل باتا أشبه بالمتفرج الذي لا يحق له سوى المشاهدة والاستماع فأضحى العراقيون منذ عقود ينامون على كف عفريت ويصحون على انقلابات ومؤامرات ومن ثم تأزمت الأمور بالحروب العبثية والحصار وما تلا الحصار في تشظي البلاد وسيادة اللاقانون والفساد والتخلف في كافة مفاصل الدولة، بل في كل مجالات الحياة”.

محسن الغمري: في رأيي أن الاقتصاد هو العقدة وهو الحل
ويقول “ما يؤرقني حقًا هي تلك الصورة المتشائمة والضبابية التي تأبى أن تغادر سماء بلد يعد واحدا من أغنى بلدان المنطقة من حيث الثروات الطبيعية والخيرات والتاريخ والثقافة والحضارة والعقول المبدعة. لكن عندما يتولى زمام قيادة هذا البلد العظيم من يطمحون إلى أمجاد شخصية من خلال الحروب وإلى الحكم بالحديد والنار ستكون النتائج متوقعة وما نعانيه اليوم من تدهور هو نتاج تلك السياسة غير المدروسة التي هددت وجود العراق والعراقيين ككل وصيرت الانسان العراقي مأزوما يعيش على الدوام في حالة من القلق وغياب الاستقرار والخوف وانعدام الثقة مع أقرب الناس إليه وكذلك الخوف من المستقبل المبهم”.
ويقول الناقد المسرحي السوداني عصام أبوالقاسم “بالنسبة إلي المشكلة هي حالة غياب الاستقرار السياسي في السودان وفي بعض دول المنطقتين الأفريقية والعربية. الاستقرار السياسي الناتج عن حكم مدني راشد كان هو المأمول الذي أحسسنا به بعد الثورة، ولكن الانقلاب الذي وقع في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي بدد ذلك الإحساس. اليوم الوضع في أبعد درجات التدهور على مختلف الأصعدة لاسيما على صعيدي الاقتصاد والسلم الاجتماعي”.

محمد سبأ: يجب نبذ التعصب للثقافة أو العرق أو القبيلة
ويضيف “كل المؤشرات تدل على أن البلاد عائدة إلى حالة العزلة الدولية، كما كان عليه الحال في عهد عمر البشير، وأخشى أن ذلك سيكون أخف الاضرار في حال حصل؛ فثمة تفاصيل أخرى في المشهد السياسي المحلي قد تدفع بالأمور إلى ما هو أسوأ، ولنذكر فقط تنامي الحس القبلي وتزايد أعداد الحركات المسلحة والنزاعات في بعض الأقاليم.. كل ذلك ينذر بمخاطر كبيرة يتجدد خوفي منها كل يوم”.
الاقتصاد هو العقدة
ويقول الروائي المصري محسن الغمري “لو كان الفقر رجلا لقتلته، عبارة دالة على أن الاقتصاد هو العقدة وهو الحل، فعند ترديه يورثنا مجتمعا فقيرا، يكون البيئة المثلى لانهيار كل القيم، وانتشار الرذيلة، الاقتصاد إذن هو القضية التي أراها دائما السبب الأول والرئيسي وراء خلق الكثير من الإشكاليات الأخرى، فتدنيه يعني ديونا وكسادا وبطالة، وبالتالي هبوط متوسط دخل غالبية أفراد المجتمع إلى تحت خط الفقر، وهذا يعني أسرا فقيرة، أي مجتمعا مريضا بدنيا ونفسيا، مجتمعا جاهلا تسيطر عليه الخرافات وأفكار محترفي الاتجار بالدين وصانعي الإرهاب، وهؤلاء يقودون المجتمع بدوره إلى السقوط في بئر الاستسلام التام لكل ما هو مفروض عليهم، من موروث ثقافي يدعوهم إلى الانقياد طواعية للحاكم وإن كان جهولا مستبدا، وهو ما يقود البلاد إلى هاوية نهايتهم”.
ويضيف “على العكس تماما سنجد أن الاقتصاد المنتعش المتنامي في أي بلد قادر على خلق مجتمع صالح يعيش فيه مواطن متعلم مثقف صحيح البدن والنفس، منتج بشكل يعود بإيجابية عليه وعلى مجتمعه، قابل لممارسة دوره السياسي والمجتمعي، وقادر على التخلص من أي موروث ثقافي رجعي أو عادات مجتمعية بالية، بل أنه يصير قادرا على تصويب أي تأويل سلفي خاطئ، وبالتالي قادرا على الوقوف ضد أي حاكم تسول له نفسه ممارسة الاستبداد والتسلط، الاقتصاد الناجع هو الحل الأمثل للتخلص من كل الإشكاليات المحتملة حين يسقط، بل أنه يكاد يكون مفتاح المدينة الفاضلة“.