حوارات مصرية مع قوى سودانية

الأجواء الراهنة توفر فرصة أمام القاهرة لتصحيح جملة من الأخطاء السياسية أبعدت الخرطوم عنها في حين من الممكن أن تكون قاسما مشتركا للكثير من القوى الوطنية السودانية في هذه اللحظات الصعبة.
الجمعة 2022/02/18
تعامل مصري حذر مع تطورات الوضع في السودان

نأت مصر كثيرا عن الانخراط مباشرة في تسوية الأزمة السودانية، وأدت الحساسية المفرطة بين القاهرة والخرطوم إلى فرملة كل محاولة للمساهمة في الحل بعد أن تولدت قناعات وانطباعات تشي بأن تدخل مصر يصب في صالح المكون العسكري، ما جعل العديد من القوى المدنية غير مؤيدة لدورها في تقريب المسافات السياسية.

تحدث حزب الأمة الذي يقوده مبارك المهدي وحزب المؤتمر الشعبي الذي أسسه حسن الترابي قبل أيام عن زيارة وفد مصري إلى الخرطوم أجرى مشاورات مع أحزاب متباينة، يتشكل من ممثلين لوزارة الخارجية وجهاز المخابرات المصرية، وهي توليفة ملائمة للحالة السودانية والآليات التي تستخدمها القاهرة في التعاطي معها.

لم تظهر معلومات رسمية حول الزيارة في البلدين أو تشير إليها من قريب أو بعيد وسائل الإعلام المصرية على غرار نظيرتها السودانية، ما يعني عدم بلورة مبادرة واضحة لوساطة جديدة تقدمها القاهرة وأن زيارة الوفد، التي لم تكن الأولى إلى السودان في الأشهر الماضية، أقرب إلى إثبات الوجود أو محاولة توحي بها مصر أن هذا البلد حيوي لها ولن تتخلى عنه حيث يمثل عمقا استراتيجيا لأمنها القومي.

ابتعدت مصر نسبيا عن الطابع الأمني في التعامل مع السودان، منذ سقوط نظام عمر البشير، ووفرت مساحة جيدة للحركة أمام الجانب الدبلوماسي، غير أنها لم تتخل عن صفتي السرية والغموض، وهما من المحددات التي تزعج السودانيين وتجعلهم لا يرحبون بأي مبادرة تأتي من شمال الوادي إلى جنوبه، ويشككون في نواياها مهما حملت من مزايا، ما يضاعف التشويش الذي يلازم العلاقة بين البلدين منذ عقود طويلة

توفر الأجواء الراهنة فرصة أمام القاهرة لتصحيح جملة من الأخطاء السياسية أبعدت الخرطوم عنها

كان من المفضل أن يعلم المواطنون والنخب في البلدين بتفاصيل الزيارة التي أشار إليها حزبا الأمة والمؤتمر الشعبي من القاهرة عبر وسائل إعلام مختلفة، وكان من المهمّ أن تصبح رسالة الوفد واضحة للجميع، وهل للوساطة أم للاستكشاف، لأن التقارير التي نشرت عنها تقلل من أي مضمون جاد تحمله وتذهب بها إلى مناحٍ سلبية.

جاءت الإشارتان المتعلقتان بزيارة الوفد المصري من جانب حزب هامشي (الأمة) منشق عن حزب الأمة القومي، وآخر محسوب على الحركة الإسلامية (المؤتمر الشعبي) وكان شريكا في الحكم لفترة طويلة مع حزب المؤتمر الوطني، ويكفي أن مؤسسه هو الترابي ليثير علامات استفهام حول جدوى لقاء الوفد المصري به.

تقلّل عدم الإشارة إلى لقاءات مع قوى سياسية وازنة في السودان من أهمية الزيارة، وتظهرها كأنها غير ذات جدوى، أو تواجه صعوبات ولن تحقق أهدافها بالنسبة إلى الاطلاع عن كثب على حقيقة ما يدور من تحركات، أو وضع تصور لما يمكن أن تقوم به القاهرة خلال الفترة المقبلة، فقد أصبحت الأزمة مفتوحة على سيناريوهات قاتمة.

ربما أرادت القاهرة من زيارة الوفد التأكيد على أنها قريبة بما يكفي من الخرطوم، عكس ما تم الترويج له، ولا توجد ممانعات للتدخل واستبعادها من البيان الرباعي، الذي أصدرته الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات عقب الانقلاب العسكري في أكتوبر الماضي، ليس رفضا لمضمونه الذي  شدّد على عودة القوى المدنية للسلطة.

كما أن استبعادها من البيان الثاني لهذه الدول، الذي صدر عقب التفاهمات السياسية في نوفمبر الماضي بين رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان ورئيس الحكومة السابق عبدالله حمدوك، لم يكن رفضا لبنوده، إنما هو استبعاد ينطوي على وجود رؤية مصرية مستقلة تعلم خصوصية السودان وآن لها أن تظهر للعلن.

قد تكون القاهرة تملك رؤية لما يدور في السودان وتستطيع طرح مبادرة منتجة، لكن اللجوء إلى السرية والغموض يقلل من أهمية ما يمكن أن تقدمه، وتكرس هذا النهج هواجس مختمرة لدى شريحة من السودانيين في كل تحرك تقوم به مصر حيال بلدهم، ويستدعي مخاوف لم تتمكن تطورات إيجابية حدثت بين البلدين مؤخرا من تبديدها.

تستطيع مصر أن تستفيد من العقبات التي تواجه المبادرة الأممية لتسوية الأزمة، وتتقدم بجرأة لطرح رؤية موضوعية قبل أن يلتقط الخيط آخرون وتعود الوساطة أفريقية

كل حوارات تقوم بها مصر مع القوى السودانية تحتاج إلى خطوتين حاسمتين، الأولى البحث عن وسيلة لتخفيف حدة العُقد التاريخية وإقناع الشريحة الأعظم من السودانيين بوحدة مصير وادي النيل قولا وفعلا، والثانية تقديم تصورات واضحة لحل الأزمة تنأى عن تصنيف القاهرة بأنها تقف في صف المكون العسكري على حساب المدني.

تحتاج مصر إلى إعادة النظر في بعض المسلّمات التي لم تعد صالحة حاليا مصحوبة بطمأنة السودانيين أنها تريد الخير لهم، لأن أي تطورات سلبية في بلدهم سوف تصطحب معها أصداء قوية في مصر، لذلك من الضروري تأكيد أن أمن وهدوء واستقرار ووحدة السودان في مقدمة الأولويات المصرية، وهو هدف تحرص كافة الوفود التي تتقاطر سرا وعلانية على الخرطوم على توصيله إلى من يهمهم الأمر.

تستطيع مصر أن تستفيد من العقبات التي تواجه المبادرة الأممية لتسوية الأزمة، وتتقدم بجرأة لطرح رؤية موضوعية قبل أن يلتقط الخيط آخرون وتعود الوساطة أفريقية، فقد أخذت العلاقات بين السودان وإثيوبيا تتحسن ما يمنح الأخيرة فرصة لإعادة تكرار تجربتها السابقة في الوساطة بعد الإطاحة بنظام البشير، حيث رعت بالتنسيق والتعاون مع الاتحاد الأفريقي لقاءات ومناقشات بين المكونين العسكري والمدني وخرجا بوثيقة دستورية رسمت خارطة طريق للمرحلة الانتقالية.

علاوة على دور دولة جنوب السودان في التوقيع على اتفاق السلام بين الخرطوم والحركات المسلحة، وضاعت فرصة كان يمكن للقاهرة أن تستثمرها لتطوير الروابط مع السودان الجديد، وتعيد بموجبها بناء الكثير من القواعد التي عطبت بسبب الدعاية السوداء التي قامت بها جماعة الإخوان في البلدين لتخريب العلاقة بين الشعبين.

تؤكد المعلومات التي رشحت حول حوارات مع أحزاب سودانية أخيرا أن هناك تغيرا في المفهوم المصري، أو على الأقل رغبة في الانفتاح على الجميع، كانت موجودة على استحياء، وهي بحاجة الآن إلى قوة دفع تساعدها على تمديد الخيوط مع عدد كبير من القوى السياسية بالتوازي، لأن قصر التواصل على عدد محدود من القوى والأحزاب لن يؤدي إلى حلحلة أزمة تتصارع داخلها قوى من اتجاهات متعارضة.

توفر الأجواء الراهنة فرصة أمام القاهرة لتصحيح جملة من الأخطاء السياسية أبعدت الخرطوم عنها، في حين من الممكن أن تكون مصر قاسما مشتركا للكثير من القوى الوطنية السودانية في هذه اللحظات الصعبة، قبل أن تتحول الأزمة المؤقتة إلى أزمة دائمة ومستعصية وتلقي بعواصفها وبراكينها وحممها في وجه مصر.

9