مؤامرة الحكومة المصرية على المواطنين

يغلب على العلاقة بين الكثير من الحكومات العربية والشعوب طابع المناكفة، فالأولى يتم التعامل معها من قبل شريحة من المواطنين كأداة لرفع أسعار السلع والخدمات وفرض الضرائب، وكل ما يستنزف جيوبهم، ومهما قدمت من مشروعات تنموية وحداثية تظل أسيرة لنظرة سلبية، والأخطر أن الحكومة في مصر حاليا أصبحت متهمة بحبك مؤامرات لتوجيه اهتمامات المواطنين بعيدا عنها.
كان يمكن فهم أبعاد المؤامرة لو أنها قاصرة على المهام المباشرة للحكومة ومؤسساتها والخاصة بتقديم قوانين للبرلمان لفرض المزيد من الجباية، حيث تتطلب هذه العملية حنكة وحكمة ورشادا قد يعتبرها البعض من قبيل التحايل لتمرير خطة ما، غير أن حديث المؤامرة هنا بات يتعلق بالاستثمار في أزمات مجتمعية ورياضية وفنية.
كتب رئيس تحرير جريدة الشروق “المستقلة” وعضو مجلس الشيوخ المصري عماد الدين حسين مقالا قبل أيام حول مؤامرة الحكومة على المواطنين وما يتردد حولها، نسف فيه وجود مؤامرة أصلا من أي نوع، وأبعد جميع الشبهات عنها، وقصر حديثه عن المشكلات التي تواجه المصريين نافيا حبك الحكومة أي مؤامرات.
بدا حديث الأستاذ عماد الدين حسين في ظاهره منطقيا لأن الحكومة المصرية لم تختلق حادث انتحار فتاة، أو قتل زوجة لزوجها وأطفالها، أو سقوط سيارة في إحدى الترع، أو طلاق مطربة أو انفصال لاعب كرة عن زوجته أو حتى تطاول رئيس ناد رياضي على أعضائه، وغيرها من الأحداث التي تثير شغف الناس.
m يعود تصاعد حديث المؤامرة في حوارات المصريين إلى أن تصاعد حدة الإثارة التي تحتلها الحوادث المجتمعية وما يرافقها من شائعات بدأت تمثل خطرا على الحكومة
لم تختلق الحكومة هذه النوعية من التصرفات لكن أدى تركيز وسائل الإعلام عليها وتعامل منصات التواصل الاجتماعي معها بقدر لافت من الإثارة لتحويلها إلى ظاهرة تستفيد منها الحكومة بشكل غير مباشر، حيث يقوم البعض بتوظيفها من زاوية أنها وسيلة تُلهي الناس عن الانشغال بقضايا أخرى تصبّ في صميم عمل الحكومة.
يسدّ تسليط الأضواء على جملة من التطورات المجتمعية فراغا عاما لدى المصريين، وتجد فيه الكثير من وسائل الإعلام حبل إنقاذ لها لتعويضها عن غياب النشاط السياسي والعراك الذي يمكن أن ينشأ بين الأحزاب داخل البرلمان وخارجه عندما تكون الأجواء ثرية بالتجاذبات بين قوى مختلفة.
تلقّف أحداث الزواج والطلاق والانتحار والمشاجرات الفنية والرياضية قد يكون من مهام وسائل الإعلام عندما يتم تناولها بصورة موضوعية، غير أن منحها اهتماما زائدا عن الحد من الطبيعي أن يثير شكوك بعض المواطنين ويعتقدون في صواب نظرية تآمر الحكومة عليهم، وهو دليل يصلح مقياسا لمستوى الثقة في تصرفاتها.
تمنح هذه النتيجة المعنى نفسه الذي حاول الكاتب عماد الدين حسين نفيه عن الحكومة، لأنها تسيطر على غالبية وسائل الإعلام ولو كانت هذه المعالجة مرفوضة وغير مريحة لها بإمكانها زجر من تولوا النفخ في نيرانها، إذ لا يظهر زجرها وتطبيق المواثيق الإعلامية إلا إذا رأت ردود فعل سلبية عليها، فتقوم بتطبيق سياسة العقاب عبر منظومتها الرسمية، والتي تأتي غالبا متأخرة وبعد أن تزداد الأوضاع سخونة.
يضفي تضخيم بعض القضايا المجتمعية عن قصد أو دونه وعدم الاقتراب من نظيرتها الحيوية التي تمس أوجاع الناس مصداقية على حديث المؤامرة بلا مؤامرة حقيقية، فالتركيز على هذه وإهمال تلك يضاعف شكوك شريحة من المواطنين في نوايا الحكومة التي أخفقت في إقناع الناس بعدم مسؤوليتها عن الكثير من الحوادث الفردية، لأن رصيدها في بنك الثقة يتراجع بشكل كبير.
رسخ في وجدان المصريين من واقع تعاملهم مع السلطة المركزية أنها مسؤولة عن كل شيء في حياتهم، النافع والضار، الجيد والرديء، الإيجابي والسلبي والمنح والمنع، وهو ما جعل الحكومة مركز الكون بالنسبة إلى الكثيرين، أو بمعنى أدق تحرك كل شيء في حياتهم، بما فيها الكوارث الطبيعية.
يرى البعض أن الحكومة تنسج مؤامراتها عليهم بما فيها أحوال الطقس، فإذا أرادت أن يبقى الناس في منازلهم كي تصبح الشوارع أقل ازدحاما أخبرتهم بأن الطقس سيكون في الغد سيّئا، وزاد أن هذه النكتة جرى تناولها في الفيلم المصري “طباخ الرئيس” بطولة طلعت زكريا وخالد زكي وداليا مصطفى وعرض منذ حوالي 15 عاما.

m يسدّ تسليط الأضواء على جملة من التطورات المجتمعية فراغا عاما لدى المصريين
ظهر مشهد في هذا الفيلم يشير إلى أن رئيس الجمهورية أراد التجول في الشوارع لتفقد أحوال الناس فأسقط في يد رئيس الحكومة ووزير داخليته، إذ كيف تتم السيطرة على الملايين من المصريين في الشوارع، فتفتق ذهن وزير الداخلية على نشر شائعة تقول إن من يخرجون في هذا اليوم سيصابون بأضرار بالغة في عيونهم، وهي حيلة استخدمها صناع الفيلم للتدليل على أن الحكومة تفعل أي شيء وكل شيء لراحتها.
تدعم بعض المواقف السينمائية الصورة الذهنية السلبية عن الحكومة لدى المواطنين، لأنها غالبا ما تكون مستقاة من الواقع، وتحصل نظرية المؤامرة على مصداقية عالية ناجمة عن تقدير مفاده أن الحكومة تسعى لوضع المواطنين تحت ضغوط متواصلة كي يبتعدوا عن التفكير فيها، وما تقوم به من إجراءات أو تتبناه من توجهات، إنما الهدف منه كونها تريدهم أن ينشغلوا فقط بأمورهم الشخصية وكيف يحلّون مشاكلهم الحياتية.
يعود تصاعد حديث المؤامرة في حوارات المصريين إلى أن تصاعد حدة الإثارة التي تحتلها الحوادث المجتمعية وما يرافقها من شائعات بدأت تمثل خطرا على الحكومة، واضطرتها إلى تخصيص جهة رسمية تابعة لها لرصدها وتفنيدها ونفيها باستمرار وغطت هذه المسألة على إنجازات الدولة في الواقع أو جرى التقليل منها كأنها أيضا من قبيل المؤامرة التي تهدف إلى دفع الناس للثقة فيها.
تداخل الحقيقة مع الخيال أو حرف التفسيرات المصاحبة لبعض القضايا المجتمعية عن مساراتها في مخيلة الناس وضع الحكومة أمام اختبار صعب يوحي بأنها لا تستطيع التحكم بوسائل الإعلام التابعة لها أو أنها تتركها لتمارس دورها في الإثارة.
تظهر ظلال المؤامرة في الحالتين، لأن الصلاحيات التي تملكها الهيئات التابعة للحكومة تمنحها قدرة عالية على التحكم في الخطاب الإعلامي وتوفر لها ترسانة من القوانين التي تمكنها من وقف الإثارة ومنع تفاعلها في المجتمع.
ويعني التهرّب من استخدام هذه القدرة وعدم اللجوء إلى الاستفادة من الترسانة أنها مرتاحة لفكرة شغل الناس بهموم سطحية عن همومهم الحقيقية، ما ينطوي على ظلال واسعة تعزز الحديث المتواتر حول تآمر الحكومة المصرية على المواطنين.