سيد القمني صاحب مشروع فكري حرك المياه الراكدة في نقد التراث

يضع البعض في النخبة المصرية الباحث في التراث الإسلامي سيد القمني ضمن مجموعة قليلة ممن خاضوا معركة نفض الغبار عن التراث مبكرا، ووجهوا ضربات قوية لكثير من الأفكار التي روّج لها متطرفون واعتمدوا فيها على أسانيد مشكوك في صحة حدوثها مصحوبة بتفسيرات مبهمة، بينما يرى آخرون أنه ممن كانوا يبحثون عن شهرة زائفة ومشروعه الفكري عليه علامات استفهام كبيرة.
أعاد رحيل القمني الأحد الماضي في القاهرة الانقسام الحاد بين هذين الاتجاهين، أو ما يسمى بجبهتي الإسلاميين والعلمانيين، فقد احتفى بغيابه الفريق الأول وشعر رموزه بالارتياح بزعم أنهم تخلصوا من أحد الباحثين الذي مثلوا صداعا فكريا لهم وفقدوا القدرة على مجاراته في ما قدمه من أسانيد تمس صميم الثوابت التي يستندون عليها في دغدغة مشاعر الناس واعتمادهم على شعارات دينية نجحت في استقطاب شريحة في المجتمع عندما كان متروكا لهم الحركة بين صفوفه بدرجة عالية.
حزن على رحيله أنصار مشروع الدولة المدنية واعتبروا غيابه خسارة كبيرة في حقل الاجتهاد لا تقل عن خسارتهم لفقدان كل من الراحلين فرج فودة ومحمد سعيد عشماوي ورفعت السعيد ونصر حامد أبوزيد، فهذه أبرز الأسماء التي خاضت معارك محتدمة ضد طيف واسع من المتشددين الذين نخروا في بعض مؤسسات الدولة واعتمدوا على التصدي لأفكار التجديد التي تمثل ركيزة أساسية في نهضة الشعوب.
معركة التنوير الشاقة
وكما أثار القمني الخلاف في حضوره بتطرقه إلى كثير من القضايا المسكوت عنها في نقد التراث الإسلامي والتصدي لما اعتبره خرافات لحقت بالدين خلال أزمنة طويلة، أثار أيضا غيابه لغطا غير معروفة تفاصيله بعد أن انتشرت شائعة حول رغبة أسرته في تشييع جثمانه في صمت بمسقط رأسه في مدينة الواسطى بمحافظة بني سويف في جنوب القاهرة، وعدم إقامة سرادق لتلقي عزاء لمنع حدوث صدام مع متطرفين، وهو ما يسيء إلى الرجل ويتناقض مع أفكاره التي قدمها في النور ونشرها على الملأ.
غير أن محبيه وتلاميذه انتفضوا وأصروا على تشييع جثمانه في جنازة تليق به وصمموا على تلقي العزاء فيه في أحد مساجد القاهرة الكبيرة كواحد من رموز التنوير المهمة التي يجب أن تكون محل تقدير من النخبة والدولة والمجتمع، لأن رحيله لا يعني انقطاع مسيرته، فهناك أعداد من الباحثين وصلت إليهم رسالته ودروسه وعلى استعداد لاستكمال الطريق الذي يجب أن تكون معالمه واضحة للأجيال القادمة.
يعد القمني ضمن قلة من المفكرين الذين خاضوا سجالات في العقود الماضية ودعموا معركة التنوير الشاقة، وظل قابضا على جمر أفكاره في مواجهة ثلة من المتطرفين سعت دوما لإجهاض مشروعه وتحريض أجهزة الدولة الرسمية عليه لفرملته وحث الناس على مقاومته والترويج لفرية تكفيره والتحريض على استهدافه، لأجل عدم السماح له بالتوسع في حضوره الثقافي والحد من تأثيره المجتمعي.
يدور المشروع الفكري الذي ظل القمني متمسكا به حول نقد التراث وتنقيحه من بعض المعتقدات الخاطئة التي لحقت به، ورأى ضرورة التخلص من التفسيرات الجامدة لتنافرها مع روح العصر، وانتقد العديد من الأفكار التي رآها بعيدة عن المنطق والعقل وضد العصرنة في مجمل التاريخ الإسلامي، خاصة الفترات الأولى فيه.
قال صراحة في بعض مؤلفاته ومقالاته التي نشرت في صحف مصرية وأجنبية إن المسلمين تجمدوا فكريا بعد وفاة الرسول محمد (ص) وعليهم أن يتعاملوا مع النص القرآني بما يواكب العصر الراهن وإدخال ما يستلزم من تطوير وإبداع في التفسير، في حين كان الله سبحانه وتعالى، في رأي القمني، ينسخ بعض آياته لتساير التطور في المجتمع السائد في ذلك الوقت.
عزف الرجل على وتر قضية في غاية الحساسية، حيث شدد في كثير من مؤلفاته على أن الرسول بشر وبالتالي يصيب ويخطئ ولا قداسة لشخص في الإسلامِ، واعتبرا تاريخ المسلمين سلسلة من الدماء المهدرة من أجل بناء الدولة.
ربما تكون هذه النوعية من الطروحات تمثل صدمة ويصعب استيعابها من جانب العامة في ظل تعمد البعض تحريفها عن السياقات التي وردت فيها، لكن هناك من ثمنها كأداة لتحريك المياه الراكدة لسنوات طويلة بما أعاق الحداثة في كثير من المجتمعات العربية فبقيت أسيرة لتفسيرات متكلسة لا تريد للمرونة أن تشق طريقها.
نعاه الكاتب خالد منتصر بتأثر بالغ، وهو من أشد مؤيديه في مجال نفض الغبار عن التراث والدعوة إلى التنوير والتصدي للمتشددين ويسير على دربه تقريبا، وقال إنه “شكّل وعي جيل لم يكن يعرف أن علوم الدين القديمة من الممكن أن توضع على مائدة تشريح علوم حداثية جديدة، مثل علم الاجتماع الديني واللسانيات ومقارنة الأديان والأنثروبولوجيا، رحل بعد معارك مريرة ضد فكرة الوصاية الدينية وتسلط الإسلام السياسي، كاد يفقد فيها حياته، وتعرّض أثناءها للتهميش والتهديد والمطاردة”.
جنة الأزهر أم نار الإخوان
وضعته بعض أفكاره في مواجهة مباشرة مع مؤسسة الأزهر العريقة، وأدلى منذ سنوات بحديث تلفزيوني لبرنامج “السادة المحترمون” وكان يبث على قناة “أون تي.في” الفضائية قبل تحويلها إلى “أون إي”، اتهم فيه الأزهر بالتطرف وزاد في استهدافه أن أشار إلى امتلاكه أدلة تؤكد تورطه في تصدير الإرهاب للعالم، وأنه سيتوجه إلى منظمة الأمم المتحدة لإدراج الأزهر كـ”جماعة إرهابية”، ما يعني أن شيخه والعاملين فيه يدعمون العنف الذي هدد جميع أنحاء البلاد عقب سقوط نظام حكم الإخوان بمصر.
اشتبك مع الجماعة عقب وصولها إلى الحكم في مصر عام 2012 وبعد السقوط بنحو عام، وأشار إلى أن الشيخ الإخواني يوسف القرضاوي المقيم في قطر حاليا خصص كتابا عن الجماعة اسمه “الإخوان المسلمين” كلما ذكر اسم قيادي من الجماعة أعقبه بعبارة “رضي الله عنه”، كنوع من التدليس، واعتبر الجماعة مثل “الزئبق الحربائي ويتلونون حسب الظرف والحالة وكلامهم يتغير كل حين”.
أراد القمني التنبيه إلى واحدة من الخطط الخبيثة التي يتبعها الإخوان، حيث يريدون دوما إضفاء هالة من القداسة على رموزهم قد تصل بهم إلى رفعهم إلى مرتبة الصحابة الذين ضحوا بحياتهم فداء للدعوة الإسلامية ودفاعا عن الرسول، وهذه من بين الحيل التي لجأوا إليها ومكنتهم من التأثير بقوة وسط المكونات البشرية التي نشطوا داخلها.
القمني الذي ولد في العام 1947 حصد جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2009 التي تقدمها وزارة الثقافة المصرية، والتي اعتبرت بمثابة تكريم رسمي له، الأمر الذي زاد النقمة عليه من قبل التيار الإسلامي الذي كان نشطا آنذاك، فشنت عليه آلته الإعلامية حملة واسعة لأن الدولة منحته الصك الذي يخوله مواصلة انتقاداته وكأنها أرادت الإفصاح عن دعمها له.
قدم للمكتبة العربية العديد من المؤلفات التي تتناول جوانب شائكة في المشروع الذي كرّس حياته من أجله وأثار الكثير من النقاش في الوسطين الثقافي والديني، من أبرزها “أهل الدين والديمقراطية” و”قصة الخلق” و”صحوتنا لا بارك الله فيها” و”الأسطورة والتراث” و”النبي إبراهيم” و”الحزب الهاشمي” و”التاريخ المجهول” و”النسخ في الوحي” و”الجماعات الإسلامية.. رؤية من الدخل” و”حروب دولة الرسول”.
يعد مؤلفه “قصة الخلق.. منابع سفر التكوين” من الكتب التي فتحت الباب لحوارات واسعة في مصر وخارجها، إذ وضع فيه صفوة تصوراته حول نشأة الكون والإنسان وارتباط ذلك بالنواحي الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، وخاض في ملفات مثيرة للجدل ضاعفت من السهام التي كانت توجه إليه.
حياة تحت التهديد
عاش القمني حياة اجتماعية واقتصادية وفكرية قلقة، وكشف أنه تلقى تهديدا بالقتل، وخصصت له وزارة الداخلية المصرية حراسة حفاظا عليه، فقد تعرض بالفعل عام 2005 لتهديد مباشر من جماعة أطلقت على نفسها “تنظيم الجهاد المصري”.
أصدر بيانا في ذلك الوقت أشار فيه إلى أن هذا التنظيم توعده بالقتل إذا لم يعلن خلال أسبوع التراجع عن كل ما طرحه من رؤى في كتبه ومناظراته حول الدين، ويقول بوضوح إنه كان على خطأ حينما اعتقد أن بحثه واجتهاده خدمة للإسلام ولمصر.
شكك البعض في روايته لمسألة التهديد بالقتل، وقيل إنها مجرد مزاعم لرجل يبحث عن الأضواء ويريد أن يكون محل اهتمام من جانب وسائل الإعلام الأجنبية وقضية التهديد بالقتل مفتعلة ومن اختراعه ليستحوذ على تعاطف الناس ويحثل على مزيد من لفت الانتباه إلى أعماله، ونظرت إليه بعض المؤسسات ومراكز الأبحاث في الخارج بتقدير لدوره في تبني أفكار تنويرية تتماشى مع توجهاتها في دراسة العنف والإرهاب والتطرف.
هناك شريحة كبيرة من دارسي الفلسفة ومتابعي تيارات الإسلام السياسي ترى أن دراساته في التاريخ الإسلامي تتسم بالجرأة والشجاعة في تصديه للأفكار السلفية، ولم يكن بحاجة إلى افتعال معارك أو تعريض حياته لخطر داهم، هو باحث أصاب وأخطأ.
كتب الخبير في شؤون الحركات الإسلامية سامح إسماعيل على صفحته الخاصة في فيسبوك عقب الإعلان عن وفاة القمني ما يمكن اعتباره ملخصا لمجمل أفكار الرجل، وهي في قمة صعودها وهبوطها ولغطها وصحتها وما يعكس كونها حالة جدلية.
فقال إن القمني كان “ابن لحظة الصحوة المربكة، بكل ما فيها من تناقضات، أحب تصنيفه كمشاغب لا باحث ولا مفكر، نجح في فتح الطريق لجملة من التساؤلات الصعبة، ربما لم تكن أجوبته منضبطة منهجيا ومعرفيا، ربما دلس واقتطع وقام بلي عنق الحقيقة، ربما لم يطور مهاراته البحثية وتصدى لحقل معرفي أكبر من قدراته”. وأضاف أن “المهارات اللغوية والاستناد إلى دراسات أركيولوجية قد تكون غابت عنه وفضل النزول إلى ساحة المعركة بنفس أسلوب دعاة الصحوة، فتصدى بجرأة وشجاعة وإصرار وشعبوية وانتهازية وخلفية معرفية منقوصة تقف على قدم واحدة، لوحش التأسلم الجامح، لكنه كان قادرا على مواصلة الشغب في وقت توارى فيه الجميع جبنا وخذلانا”.
تكمن أهمية القمني في أنه امتلك الشجاعة التي ساعدته على مواصلة منهجه، وبصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف فقد ألقى الرجل بحجر كبير في بركة التراث المتيبسة منذ قرون، والتي تخشى مؤسسات دينية متعددة التصدي لها، بينما قام هو بهذه المهمة وحقق نجاحات وتعرض لإخفاقات وفي الحالتين يحسب له أجر الاجتهاد، فقيمة الكاتب تتحدد بقدرته على التأثير في الناس وحثهم على استعمال فضيلة التفكير.