عبدالمنعم سعيد مفكر تحميه واقعيته من تقلبات السياسة في مصر

يشعر الكاتب بصعوبة المهمة الملقاة على عاتقه عندما يشرع في الكتابة عن شخصية يعرفها وتعامل معها عن قرب في وقت من الأوقات، لأن القصص والحكايات والمواقف المشتركة عديدة ومتشعبة، ما يجعل الفصل بين العام والخاص يحتاج إلى التحلي بقدر من الصبر خوفا من الوقوع في تقدير خطأ أو الحكم على أشياء بوازع عاطفي أو الذهاب بعيدا في الحديث عن الشخصية.
لكن الكتابة عن عضو مجلس الشيوخ المصري حاليا ورئيس مجلس إدارة مؤسسة “المصري اليوم” الصحافية عبدالمنعم سعيد تتجاوز كل ذلك وأسهل من المقدمة السابقة، لأن الجزء الظاهر في شخصيته الإنسانية والإدارية وأفكاره وقناعاته لا يختلف كثيرا عن الغاطس، فوضوحه الشديد في التعبير عن رؤاه في المنابر المختلفة التي يكتب فيها أو الشاشات التي يطل منها على الناس، وحرصه على التحلي بالدقة، ورغبته في أن يكون بسيطا في طرح رؤاه، كلها عوامل تسهم في رفع الحرج.
وتصبح الكتابة هنا متخطية للبعد العاطفي، سلبا أو إيجابا، وتبتعد عن مصطلح التبعية الفكرية أو المهنية، فهو من الشخصيات المعروفة التي يستطيع كل من تعامل معها أو قرأ لها أو شاهدها على إحدى الفضائيات المصرية والعربية التعرف على مكوناتها ومفاتيحها الرئيسية بسهولة، وهو ما يضع الكاتب أمام مسؤولية كبيرة، فشهادته يمكن اكتشاف مدى سلامتها المهنية ومدى تعرضها لجروح إنسانية من الوهلة الأولى.
الدور والأفكار
تعاملت مع سعيد مباشرة في بداية حياتي المهنية في مؤسسة الأهرام، حيث كنت متدربا في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وقت أن كان عائدا من عمله في الدوحة، حيث عمل مستشارا سياسيا لأمير دولة قطر عقب حرب الخليج الأولى، وعاد ليتولى رئاسة مركز الأهرام الذي كان يعج بالكفاءات العلمية في تخصصات متباينة.
الكثيرون توقعوا أن ظاهرة سعيد السياسية والصحافية على وشك أن تختفي مع زيادة النقمة على فترة حكم مبارك ورموزها، لكنه عاد بعد ثورة الثلاثين من يونيو عاكساً مقولته الشهيرة إن الكفاءات لا تموت
تمكن سعيد من وضع المركز في مرتبة متقدمة تتجاوز الحدود المحلية، وكان حريصا على تطوير مهارات الباحثين والمتدربين فيه، وترك بصمة واضحة على ما قدمه في ذلك الوقت من دراسات علمية وتقديرات موقف شقت طريقها للنشر في صحيفة الأهرام العريقة، وإصدارات المركز الدورية التي تزايدت في عهده ومنح كل مسؤول عن إصدار مساحة كبيرة من الحرية لإدارتها بالطريقة التي يراها مناسبة.
أسس مدرسة في التفكير المنهجي، ولم يبخل في مساعدة أحد، وكان يفخر كلما وجد شابا أو فتاة نابهة، ولا يتردد في توفير الدعم له/لها، ونجح في سد الفراغ الذي تركه ابتعاد الأستاذ السيد ياسين عن رئاسة المركز، ووضعه في مرتبة متقدمة مدت مؤسسات عديدة في الدولة بالكثير من الكفاءات المهنية.
حمته واقعيته من الوقوع في كثير من المشاكل العلمية، وعصمته مرونته من الانزلاق إلى العديد من الفخاخ السياسية، ووفرت علاقاته الإنسانية شبكة جيدة من الأصدقاء والتلاميذ، وفي شدة الخلافات معه لم يكن صداميا، فقد كان لينا مع خصومه أكثر من أصدقائه.
ظهرت جرأة سعيد بجلاء وبدأ اسمه يتردد كثيرا عندما كان عضوا فاعلا في ما سمي بـ”جماعة كوبنهاغن”، وضمت مجموعة من المثقفين والسياسيين والصحافيين المصريين الذين رأوا في منتصف التسعينات من القرن الماضي أهمية توسيع أطر السلام مع إسرائيل، باعتباره الطريق الوحيد لتسوية القضية الفلسطينية ودخلوا في حوارات ممتدة مع نظرائهم من إسرائيل ودول أخرى في العديد من الأماكن.
تعرض أعضاء الجماعة التي قادها المفكر الراحل لطفي الخولي للكثير من الانتقادات، فمنهم من انصرف عنها في منتصف الطريق لعدم قدرته على تحمل الهجوم السياسي عليها من التيار القومي في مصر، ومن صمّم على الاستمرار ومواجهة التحديات.
وكان سعيد في مقدمة من واصلوا المشوار حتى تعرضت الجماعة لانتكاسات سياسية بسبب الممارسات الإجرامية لقوات الاحتلال الإسرائيلي من دون أن يتراجع عن أفكاره بشأن ضرورة التسوية كطريق وحيد أمام القوى الفلسطينية، وانتهى دور الجماعة مبكّرا مع رحيل مؤسسها ورمزها الخولي عام 1999، وحدوث تحولات في المنطقة جعلت من مسألة السلام الشعبي حلما بعيد المنال.
في معية الحزب الوطني
سطع نجمه مرة أخرى مع انضمامه إلى لجنة السياسات التي حاولت القيام برسم السياسة الداخلية والخارجية للدولة المصرية وهندستها، فلم يقتصر دوره على العمل البحثي والصحافي، لكن صاحبته رغبة للانخراط في العمل السياسي.
ظهرت تجليات ذلك في اقترابه من الحزب الوطني الحاكم خلال عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، مع تصاعد الدور السياسي والاقتصادي لابنه جمال وحرصه على استقطاب الكثير من الأسماء اللامعة في مجالات مختلفة عبر قنوات لجنة السياسات، ومن بينها عبدالمنعم سعيد الذي عرف بطروحاته وتنظيراته غير النمطية ونجح في أن يصبح عضوا بارزا في اللجنة.
امتلك الباحث والأكاديمي حسا سياسيا عاليا، ولم يشأ أن يقصر طموحه داخل جدران المراكز البحثية والكتابات الصحافية، ووجد أن الطريق أمامه بات مفتوحا ليتبوأ مكانة متقدمة داخل جدران الحزب الوطني ويخترق دهاليز الحكم في مصر، مستفيدا من إمكانياته العلمية الكبيرة، وقدرته على الربط بين الأفكار النظرية والواقع العملي، وجرى تعيينه عضوا في مجلس الشورى، الغرفة الثانية للبرلمان المصري آنذاك.
ربما تكون كفاءته ومرونته وعلاقاته قد عادت بمردودات سلبية عليه، حيث ضاعفت عدد المختلفين معه والناقمين عليه، خاصة لدى من رأوا أنه بدأ يقترب من السلطة أكثر مما يجب دون أن يتخلى عن دوره الرئيسي في مركز الأهرام الذي تحول في عهده إلى شعلة من النشاط، وبدا الباحثون والخبراء فيه يطلون من العديد من المنابر الإعلامية ضمن أهم الأسماء اللامعة في عالم الصحافة.
اسم سعيد يتردد بقوة منذ أن كان عضوا فاعلا في ما سمي بـ"جماعة كوبنهاغن" التي ضمت مجموعة من المثقفين والسياسيين والصحافيين المصريين الذين رأوا أهمية توسيع أطر السلام مع إسرائيل
عرف سعيد ما يريده جيدا وأتيحت له الفرص وفاتته أخرى ولم يندم على شيء، وردّ بصورة بليغة عندما سئل من أحد الزملاء ماذا ستفعل إذا تركت رئاسة مركز الأهرام، قال سوف أتمكن من إيجاد فرصة أفضل داخل مصر، أو خارجها حيث حصل على درجة الدكتوراه من إحدى الجامعات الأميركية وظهر كخبير بارع في العلاقات الدولية، وساعده إيمانه بجدوى السلام وأهمية التسوية السياسية للصراع العربي – الإسرائيلي في أن يصبح اسمه مطروحا في الكثير من مؤسسات البحث الغربية.
اعتمد رده على السؤال الموجه إليه بأن من يمتلك مؤهلات علمية يستطيع أن يجد فرصة عمل جيدة بسهولة وعصمه هذا السلاح من الوقوع في الكثير من المطبات التي عاصرها، ففي كل مرة يترك مكانا يذهب إلى آخر أفضل أو لا يقل عنه أهمية، لأن نظرته العلمية للحياة لا تتوقف عند سقف محدد، فمروحته الثقافية تمكنه دائما من مواصلة الحياة بالوتيرة التي يريدها.
بدت عواصف ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 التي أطاحت بنظام حكم مبارك كأنها الضربة القاطعة لمستقبل سعيد السياسي وأحلامه لمهنة الصحافة في مصر، حيث كان في ذلك الوقت رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام، وهو المكان الذي اعتقد أنه سيكون بوابة يتمكن من خلالها من تشييد جزء معتبر من طموحاته في هذه المؤسسة. وضع مخططات لنقلها من مؤسسة صحافية يمتد تاريخها إلى نحو قرن ونصف القرن إلى مؤسسة عصرية تأخذ بزمام التكنولوجيا مبكرا وتجدّد شبابها والعاملين فيها من الصحافة الورقية إلى الرقمية، غير أن رياح ثورة يناير جاءت بما لا يشتهي وهبت عواصفها على مصر والأهرام وأطاحت به، فقد كان محسوبا على نظام مبارك.
توقع الكثيرون أن ظاهرة سعيد السياسية والصحافية على وشك أن تختفي مع زيادة النقمة على فترة حكم مبارك ورموزها ومن عملوا معه أو قريبا منه، لكن الرجل استرجع مقولته السابقة التي تدور فحواها حول أن الكفاءات لا تموت مهنيا، ويمكن أن تجد لنفسها الفرصة المناسبة، وهو ما حدث بالفعل.
عافية مهنية وضربة إنسانية
ذهب إلى الولايات المتحدة كمحاضر وخبير في شؤون الشرق الأوسط والسلام، وكان يتردد على القاهرة من حين إلى آخر، إلى أن هدأت العواصف واسترد أنصار مبارك جانبا من دورهم في ثورة الثلاثين من يونيو 2013، فاستقر في مصر وتولى منصبه الحالي.
تركت المحن السياسية والصحافية آثارها على شخصيته ومكنته واقعيته الشديدة من التعامل معها بأريحية كبيرة وتخطي نتائجها السلبية، وفي كل مرة كان يخرج قويا ولا يطاله انكسار أو تتمكن منه هزيمة، إلا مؤخرا عندما توفي ابنه المهندس شادي، فقد حاول أن يبدو قويا أمام أفواج المعزين، إلا أن دموعه غلبته هذه المرة وجاءت الضربة موجعة وأخذت معها أكثر المقربين والمحببين إلى قلبه.
العمل الصحافي والفكري لم يكن العالم الوحيد لسعيد، فقد برز تأثيره مع انضمامه إلى لجنة السياسات التي حاولت القيام برسم السياسة الداخلية والخارجية للدولة المصرية وهندستها
من عرفوا الرجل قبل هذه المحنة وبعدها شعروا بأنهم أمام شخص آخر، فقد كادت الأزمة تفتّ في قوته اللامحدودة وتهزم إرادته المعروفة وتكسر عزيمته التي لم ينل منها أحد، مع ذلك يحاول أن يكون منسجما مع الصورة التي رسمها له الكثيرون بشأن امتلاكه قوة حديدية لا تهزمها مواقف صعبة ولا تنال منها المحن، مهما بلغت قسوتها، وهو ما جعله يحاول تخطي الأحزان من خلال الانهماك في المزيد من الكتابة.
يشعر متابعو سعيد وقراء مقالاته المتعددة أنه يرسم خطا أو لونا لكل صحيفة، فهو يكتب في جريدة ”الشرق الوسط“ عن الشؤون الإقليمية والدولية، ويكتب في ”المصري اليوم“ عن الشجون المحلية والإنسانية، وتمزج مقالاته في ”الأهرام“ كل ذلك، ولا يرد طلبا غالبا لمن يريد أن يستكتبه في صحيفة أو موقع إلكتروني.
يبدو للقريبين منه أنه لا يريد تبديد طاقته، وأن الكتابة بالنسبة إليه الشريان الذي يمده بالحياة أو الأوكسجين الذي يتنفسه، لذلك قد يستغرب البعض من الطاقة والوقت والجهد الذي جعله يستجيب لجميع الدعوات التي يتلقاها للكتابة بلا كلل أو ملل، ويصبغ كل مقال برونق خاص به، مع تدفق في الأفكار والمعلومات وعمق في التحليل وسلاسة في السرد، فيكتب المقال السياسي بصيغة القصة الصحافية، وهو ما منحه جاذبية نادرة، وزاد من رصيده عند من يريدون متابعة كاتب موضوعي وناضج تجاوز الثالثة والسبعين من العمر.