اجتماع بنغازي يعيد توزيع الأدوار في المشهد الليبي

لم يكن من السهل إقناع أكثر المتابعين للشأن الليبي تفاؤلا، بإمكانية عقد اجتماع بين المشير خليفة حفتر وفتحي باشاغا، لكن ما حدث هذا الأسبوع فسح المجال أمام إعادة النظر في الكثير من القناعات السابقة، لاسيما في ظل التحولات التي تشهدها البلاد على أكثر من صعيد، وإصرار الولايات المتحدة على القيام بدور أكثر جدوى ضمن مؤشرات العمل على تجاوز حالة الارتباك التي طالما أصابت مواقف المجتمع الدولي خلال السنوات الماضية.
من مدينة مصراتة الواقعة شرق العاصمة طرابلس، انطلق وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، ونائب رئيس مجلس الرئاسي السابق أحمد معيتيق في رحلة إلى مدينة بنغازي.
وعندما وصل إلى مطار بنينا، تحولت خطوات وتحركات باشاغا إلى حدث مهم داخل ليبيا وخارجها، فالرجل استطاع بالفعل اختراق الحاجز النفسي وكسر الجمود وهو على مرمى حجر من اللقاء الذي سيحتضنه فندق “تيبستي”، والذي لن يكون المشير خليفة حفتر مجرد مشارك فيه، وإنما سيكون راعيه نظرا لنفوذه السياسي والاجتماعي والعسكري على إقليم برقة وعاصمته.
أما أحمد معيتيق، فالوضع مختلف تماما بالنسبة له، حيث إنه يعتبر من سرب الحمائم في مصراتة ومن الشخصيات الهادئة والمسالمة والمدافعة عن فكرة التسامح والمصالحة، وقد كان له دور في حلحلة أزمة النفط عندما فتح جسورا للتواصل مع قيادة الجيش من خلال اجتماع بموسكو تلته جملة من المفاوضات الأخرى على أكثر من صعيد، ليتم في سبتمبر 2020 الإعلان عن إعادة ضخ الذهب الأسود بعد ثمانية أشهر من إغلاق الحقول والموانئ النفطية.
وكانت مواقف معيتيق في أغلبها مؤيدة للحوار بين طرابلس وبنغازي، ومختلفة عن مواقف المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، ومناقضة تماما لمواقف أمراء الحرب وقادة الميليشيات في مصراتة، وهو ما أعطاه جانبا كبيرا من القبول لدى قيادة الجيش وأنصارها.
وعندما أعلن عن وصوله إلى بنغازي تم تقبل الخبر على أنه كان منتظرا عكس خبر وصول باشاغا، بل إن أوساطا كثيرة في شرق ليبيا لا ترى مانعا من التحالف الكامل مع معيتيق ضمن أي مشروع لتقاسم السلطة في البلاد خلال المرحلة القادمة.
لقاء ودي
من مطار بنينا انتقل باشاغا ومعيتيق إلى فندق تيبستي، حيث كان المرشح الرئاسي خليفة حفتر في استقبالهما وعددا آخر من المرشحين، أبرزهم عارف النايض وعبدالمجيد سيف النصر والشريف الوافي.
ووفق مراقبين، فإن اللقاء كان وديا وتوجه حفتر خلاله بالحديث إلى ضيوفه بكثير من الدفء. كما أن الجميع أبدى قدرة على استيعاب المرحلة والاتجاه نحو توافق على جملة من الأهداف السياسية للمرحلة القادمة.
وأصرّ حفتر على أن يتولى باشاغا بنفسه تلاوة البيان الختامي الذي جاء فيه أن “هذه المبادرة تهدف إلى توحيد الجهود الوطنية للتعامل مع التحديات التي تمر بها بلادنا الحبيبة في هذه الأيام”، مشيرا إلى أن المبادرة تأتي “احتراما لإرادة أكثر من 2.5 مليون ليبي من الناخبين، الذين ينتظرون الموعد المقرر للانتخابات الرئاسية والبرلمانية”.
وأعلن باشاغا الاتفاق على أن “المصالحة الوطنية الجامعة فوق كل اعتبار، وأنها خيار وطني جامع لا تراجع عنه”، داعيا إلى استمرار التنسيق والتواصل وتوسيع إطار هذه المبادرة الوطنية لجمع الكلمة ولمّ الشمل واحترام إرادة الليبيين.
ولم يأت اللقاء من فراغ، فقد تم التمهيد له على أكثر من صعيد، لكن لحظة الحسم كانت من خلال وساطة قامت بها ستيفاني ويليامز المستشارة السياسية للأمين العام للأمم المتحدة المكلفة بالملف الليبي، والتي زارت الأسبوع الماضي مدينة مصراتة، حيث اجتمعت بباشاغا ومعيتيق ثم اتجهت إلى بنغازي، حيث كان لها لقاء مع حفتر تم التطرق فيه إلى ضرورة توحيد الجهود خلال المرحلة القادمة.
ولم تعد واشنطن مستعدة لإضاعة المزيد من الوقت، كما أن التحولات في المنطقة كان لها بالغ التأثير في المشهد العام في ليبيا، فانتعاش العلاقات التركية – الإماراتية ومساعي أنقرة لطي صفحات الخلاف مع مصر والسعودية والانفتاح المتبادل بينها وبين شرق ليبيا، تشير إلى أن خطوات محسوبة جيدا يخطوها فاعلون سياسيون أساسيون لتأمين المرحلة القادمة دون إخلال بالتوازنات الإقليمية والدولية.
وإذا كانت قيادة الجيش قد نفت الأسبوع الماضي الأخبار الرائجة حول زيارة أداها صدام حفتر، ابن خليفة حفتر، إلى إسطنبول، فإن تقارير عدة أكدت وجود جسور للتواصل بين ممثلين عن الرجل عن القوى في شرق ليبيا والسلطات التركية، بل إن هناك من المراقبين من يرى أن الزيارة الرسمية التي أداها وفد من مجلس النواب الليبي إلى تركيا، بقيادة فوزي النويري، واستقباله من قبل الرئيس أردوغان، لم تكن بمعزل عن التطورات الجارية، لاسيما من جهة إعادة النظر في طبيعة الصراع القائم، فأردوغان لم يعد ذلك المندفع بقوة لدعم ومساعدة قوى الإسلام السياسي في المنطقة، ولا ذلك المهووس بشعارات الربيع العربي والمدافع عن مخرجاته خلال السنوات الماضية.
◄ أظهر باشاغا وحفتر حالة من الرصانة السياسية، وأثبت كل منهما أنه قادر على المساهمة في التأسيس الفعلي للمرحلة القادمة
ولم تأت زيارة الوفد البرلماني الليبي من فراغ، وإنما سبقتها تحركات منها إرسال رئيس مجلس النواب عقيلة صالح مبعوثا خاصا إلى أنقرة، والاجتماع الافتراضي الذي عُقد في أكتوبر الماضي بين لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الليبي وعدد من أعضاء مجلس الأمة التركي، إضافة إلى دور لعبه وسطاء متعددون على أكثر من صعيد، وقناعة لدى الأتراك بضرورة حسم الخلافات حول الملف الليبي، وخاصة مع الجانب المصري، وإيجاد منطقة وسط لضمان مصالحهم على أن يكون ذلك بالتوافق بين مختلف الفرقاء.
وعلينا أن ندرك أن هناك صلات وروابط ذات تأثيرات بالغة في العلاقة بين تركيا والوضع الليبي، وهي المتعلقة بالتجارة والاقتصاد وبدبلوماسية الصفقات والعمولات التي لا يستغني عنها أيّ من الفرقاء.
قيادة المرحلة القادمة
بعد اجتماع “تيبستي” غادر باشاغا نحو القاهرة، التي بات يحتكم على علاقات فيها منذ زارها في أوائل نوفمبر العام الماضي بحثا عن دعم مصري لترشحه أمام ملتقى الحوار السياسي لمنصب رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة.
وخلال العامين الماضيين، اتجه باشاغا لاعتماد سياسة براغماتية بعد سنوات كان محسوبا فيها على المحور القطري – التركي – الإخواني، فزار باريس والقاهرة، وغيّر مفردات خطابه المتشنج، وأبرم عددا من العقود لتنظيم حملة علاقات عامة في الولايات المتحدة تقدّمه كرجل غرب ليبيا القوي القادر على فرض السلام وتحقيق المصالحة.
لكن ما إن تم نشر صور اللقاء مع حفتر في بنغازي حتى أطلق تيار الصقور في مصراتة وأبواق الإخوان وحلفائهم هجوما شرسا على باشاغا، وقاد المعاقب دوليا وآمر ميليشيا “لواء الصمود” صلاح بادي حملة ضده، مع التركيز على مفردات التكفير والتخوين والترذيل لأي خطوة في اتجاه تقريب المسافات مع حفتر.
وعندما حاولت الطائرة القادمة من بنغازي الهبوط في مطار مصراتة وعلى متنها معيتيق، تم منعها من ذلك بتنفيذ مباشر من كتيبة “الصم والبكم” المقاتلة التابعة للواء الصمود.
ويعتبر بادي أقرب أمراء الحرب للمفتي المعزول من قبل مجلس النواب الصادق الغرياني والأكثر تعبيرا عن تطرف المسلحين في غرب ليبيا، حتى إنه شارك في جميع الحروب، ولا يزال الليبيون يتذكرون المشاهد التي تصوره وهو بصدد الإشراف على حرق مطار طرابلس الدولي، من خلال منظومة فجر ليبيا الانقلابية في صيف 2014، وهو اليوم يتزعم الدعوة إلى الحرب على كل محاولة قد تبذل في اتجاه تقريب المسافات بين الفاعلين الأساسيين في غرب وشرق البلاد، وقد ينتج عنها توحيد المؤسسة العسكرية.
وعندما كانت ويليامز تجتمع مع باشاغا ومعيتيق في مصراتة، وتلتقي مع عدد من قادة الميليشيات الأسبوع الماضي، شن عليها بادي حملة شرسة ونعتها بصفات تحقيرية في تسجيل تم تسريبه.
وتعلم ويليامز أن بادي واحد من أهم التحديات التي تواجه مهمتها في ليبيا، وتدرك جيدا أنه في نوفمبر 2018 فرض عليه مجلس الأمن الدولي عقوبات بتهمة تقويض الاستقرار والأمن في ليبيا، وشملت العقوبات المفروضة منعه من السفر وتجميد أرصدته، كما أكدت المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا موافقة مجلس الأمن الدولي على فرض عقوبات ضد بادي بموجب بنود قرار مجلس الأمن رقم 2213 عام 2015، وفي التاسع عشر من نوفمبر 2018 أعلنت الخزانة الأميركية عن فرضها عقوبات على بادي، محملة إياه المسؤولية عن اندلاع اشتباكات عنيفة جنوبي العاصمة طرابلس، كما قامت مع بريطانيا وفرنسا بتجميد أرصدته ومنعه من السفر.
ولن يستطيع بادي الذي يندرج اسمه ضمن قائمة الإرهاب المعلنة من قبل مجلس النواب الليبي منذ عام 2017، أن يكون حجر عثرة في طريق مشروع ويليامز بإعادة ترتيب المشهد الليبي.
كما أن محاولات رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة لتأليب الرأي العام ضد باشاغا ومعيتيق لن تنجح في تحقيق هدفها، ولاسيما أن أغلب المراقبين يرون أن أي توافق بين باشاغا وحفتر سيكون من نتائجه تشكيل سلطة تنفيذية جديدة وحكومة بدل الحكومة الحالية التي ستفقد شرعيتها نهائيا الجمعة، من منطلق مخرجات اتفاق ملتقى الحوار السياسي في فبراير الماضي، وقرار مجلس النواب حجب الثقة عنها وتحويلها إلى حكومة تصريف أعمال حتى الموعد المحدد للانتخابات، والذي لم يتم احترامه.
وإلى وقت قريب، كان باشاغا أحد رموز التصلب في المواقف المناوئة للمشير حفتر، وللجيش الوطني الليبي الذي يتخذ من ضاحية الرجمة ببنغازي مقرا لقيادته العامة. وخلال الحرب الأخيرة التي عرفتها طرابلس في العامين الماضيين، كان باشاغا وزيرا للداخلية في حكومة الوفاق وأحد القادة الفعليين للصراع، كما كان واجهة لمدينة مصراتة باعتبارها قاعدة مركزية للميليشيات المسلحة، وكذلك ككيان يتحرك بعقيدة القوة المنتصرة في صراع الإطاحة بالنظام السابق في 2011، ثم في المواجهات المفتوحة التي عرفتها البلاد لاحقا، وهو يحظى بثقة لدى أوساط مؤثرة في القرار الأميركي قدّرت له دعوته في مناسبات عدة إلى حل الميليشيات وجمع السلاح.
وفي أغسطس الماضي، رأى باشاغا أنه “يمكن للولايات المتحدة أن تساعد من خلال فرض عقوبات صارمة وفورية ضد أي شخص يحاول عرقلة العملية الانتخابية في البلاد، حتى لو كان هؤلاء الأفراد يشغلون حاليا مناصب في الدولة الليبية”، وذلك لأن الليبيين لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك بمفردهم. كما أكد أن الانتخابات الحرة والنزيهة “مجرد بداية لعملية ستستغرق سنوات، وعملية تتطلب قادة يمكنهم تأمين وتوحيد بلد شابته انقسامات عميقة”، منوها بأنه يعلم استعداد الليبيين لمواجهة الفساد والقضاء على الإرهاب وجذب الاستثمار الأجنبي، وإعادة بناء نظام الرعاية الصحية الوطنية.
المصافحة النادرة بين خليفة حفتر وفتحي باشاغا سيكون لها تأثيرها البالغ في المرحلة القادمة من تاريخ ليبيا
وكان لافتا أن باشاغا أكد منذ أشهر ضرورة “أن تكون إحدى الأولويات العاجلة حل الخلافات بين الأجزاء الغربية والشرقية من” ليبيا، و”ضمان التوزيع العادل لعائدات النفط واجتثاث الفساد في مصرف ليبيا المركزي واستعادة الثقة بين الشركات الدولية بأنه من الآمن العودة إلى البلاد. ثم هناك الأهمية الحيوية لبناء مجتمع حديث شامل يعترف بحقوق جميع الليبيين”.
وخلال الفترة الماضية، أظهر باشاغا وحفتر حالة من الرصانة السياسية، وأثبت كل منهما أنه قادر على المساهمة في التأسيس الفعلي للمرحلة القادمة، بعد فشل الرهان على تنظيم الانتخابات في موعدها المحدد. وبقطع النظر عن الصراع السابق بينهما فإن لقاءهما في بنغازي سيفسح المجال أمام خطوات أخرى لا تتعلق فقط بتشكيل حكومة جديدة تحظى بدعم دولي أو الإعداد لانتخابات قادمة، وإنما أيضا بالدفع نحو مصالحة وطنية شاملة لا تستثني أحدا. فالأقوياء هم القادرون على خلق المبادرات وتغيير الواقع، ولحظة الحسم المرتقبة ستشهد انطلاقة جدية في التصدي للعراقيل وضرب المعرقلين.
تلك المصافحة النادرة بين حفتر وباشاغا سيكون لها تأثيرها البالغ في المرحلة القادمة، وهو ما تصرّ عليه ستيفاني ويليامز، ويحظى بتأييد رأي عام واسع في كافة مناطق البلاد. كما أن مجرد فتح خط التواصل يعني أن تحولا كبيرا يتحقق، بعد أن تمت بالفعل إعادة توزيع الأدوار في المشهد.