لكي لا تعود لوثة العمالة إلى المعارضة العراقية

من تسمي نفسها معارضة أو حكومات منفى أو جبهات هي نشاطات إعلامية فردية بعضها مدعوم من جهات استخباراتية دولية أو إقليمية بغرض التشويش وإعاقة قيام معارضة وطنية جادة.
الأربعاء 2021/12/22
مجموعة فساد واستبداد

بعد قرابة التسعة عشر عاما على الحكم الظالم الفاسد للأحزاب الإسلامية الشيعية في العراق بإشراف ورعاية الولايات المتحدة ونظام خامنئي الإيراني، تصبح أحكام وتوصيفات العراقيين لمعارضة الأمس حاكمة اليوم أكثر قربا من الموضوعية. بل إن ألفاظ وعبارات المعجم السياسي تبدو نافرة عما هي عليه هذه الأحزاب من واقع متدن أقرب إلى مساجلات المتخاصمين على حصص النهب منها إلى عالم السياسة.

حَكَمتْ، وما زالت تحكم، مقاييس وحقائق التاريخ الإنساني ومعتقدات الشعوب، التي تحررت من قيود العبودية بأنواعها الكهنوتية والاستعمارية، بالعزل والعقاب على الجماعات التي انحرفت وتعاونت بأرذل أنماط العمالة مع المحتل وتفاخرتْ وتجبّرتْ لوقت قصير لكنها تلقت في النهاية جزاءَها بالقصاص النهائي العادل بالإعدام أو السجن المؤبد ترافقهم لعنات شعوبهم.

وساعدت بصورة غير مباشرة سياسة نظام صدام حسين على قيام معارضة عميلة لطهران نفذت العمليات الانتحارية بالتفجير والتخريب خلال سنوات الحرب العراقية – الإيرانية، في أول تسويق لهذا النمط الإرهابي في العراق والمنطقة، الذي واصله في ما بعد تنظيما القاعدة وداعش. وبرر النظام السابق عدم استجابته لدعوات الوطنيين العراقيين بقيام نظام ديمقراطي تعددي بحالة الحرب الاستثنائية وعمالة أحزاب الإسلام السياسي وبعض القادة الكرد لطهران. لو تحققت خطوة التعددية لما سمعنا اليوم بحزب الدعوة أو المجلس الأعلى وسلسلة العناوين التي تجاوزت أعدادها المئة.

◄ مَرويّات المعارضة العراقية قبل 2003 غالبها مُخجل، لكي لا نُعمم ونظلم بعض المعارضين لسياسات نظام صدام من الوطنيين الشرفاء والمتمردين من داخل الدولة العراقية

غالبية هذه التنظيمات كانت بنادق قتل مأجورة تتعارض عملياتها الإرهابية مع أبسط حقوق الإنسان. يتذكر المعاصرون لفترة الثمانينات سلسلة التفجيرات الانتحارية لمقرات إعلامية ودبلوماسية بينها تفجير سفارة العراق في بيروت عام 1981، التي نفذها حزب الدعوة وقتل خلالها 60 موظفا مدنيا، بينهم السفير عبدالرزاق لفتة والمستشار الصحافي حارث طاقة وبلقيس الراوي زوجة الشاعر نزار قباني، التي رثاها في قصيدة مؤثرة:

بلقيس.. كانت أجمل المَلِكات في تاريخ بابل

بلقيس.. كانت أطول النَخْلات في أرض العراق

يا امرأة تُجسّد كلّ أمجادِ العصور السومرية

قتلوكِ في بيروت مثل أيةِ غزالة من بعدما.. قتلوا الكلام

في الحادي والعشرين من أبريل 1983 فجر انتحاري من المجلس الأعلى بوابة الإذاعة والتلفزيون، بعد أن فشل في اقتحام المبنى، توفي خلالها الملحن محمد عبدالمحسن وبعض جنود الحماية، وأصبتُ شخصيا بمرض السكري بسبب شدة الانفجار.

لم يكترث المعارضون السابقون الموالون لطهران للوثة العمالة التي تغلفوا بها، بل رحّبوا وشجعوا مشروع الاحتلال الأميركي رغم علمهم بما نُفذ من قتل وتدمير في واقعتي عاصفة الصحراء وثعلب الصحراء عامي 1991 و1998، وانبهروا بلقاء القادة الأميركان صاغرين مرحبين. كبيرهم وصغيرهم مُعَمَميهم وملتحيهم و”أفنديتهم”، كانوا أقزاما صعاليك. كنا نشاهدهم عن قرب، في فندق لندني أقام فيه مبعوث جورج بوش، زلماي خليل زادة ينتظرون لقاءه لإبلاغهم أسماء المدعوين لمؤتمر لندن، في مشهد يشبه مشهد انتظار التلاميذ نتائج امتحانهم.

أطراف المعارضة العراقية الإسلامية الشيعية وجدت في المشروع الأميركي خلاصها الوحيد من الضياع والتشتت والإحباط في مقاهي وحسينيات لندن وأزقة دمشق ومذلة اللجوء في طهران. لم يتوقعوا حتى في أحلامهم أنهم سيصبحون حكاما للعراق. ليصبح في ما بعد، من كان يتقاضى معونات الإعاقة النفسية من بلدية لندن، رئيسا لوزراء العراق، كان المطلوب أميركيا استبعاد الكفاءات وإحلال الجهلة في إدارة مسيرة الهدم والتدمير.

من بين قادة الإسلام السياسي الشيعي هناك من حضر إلى واشنطن مُحمّلا بمباركة ولي الفقيه على احتلال العراق، مُفتخرا بتقبيل جبين المجرم بوش دون اكتراث لوضعه عمامة النسب إلى النبي محمد على رأسه.

البعض الآخر تريث قليلا لاستكشاف حجم مكانته وموقعه المستقبلي، مارس التقيّة متظاهرا بمعارضته للاجتياح العسكري، فوقّعَ بيانا مع رفيق النضال الأيديولوجي في الإسلام السني بلندن، وتم تبريره ونسيانه حين أصبح الاحتلال حقيقة، فقَبِل الالتحاق بديلا عن سابع الستة في قيادة المعارضة، وتم استبعاده لكونه يضيف رقما على العرب السنة في لعبة المحاصصة الشيعية - الكردية – السنية التي صنعت بخبث وبراعة.

احتوى بيان مؤتمر لندن للمعارضة على تسويق مُتقَن فاشل للكذب ومخادعة شعب العراق حين رفض في إحدى فقراته “أي صيغة من صيغ الاحتلال أو الحكم العسكري المحلي أو الأجنبي أو الوصاية الخارجية أو التدخل الإقليمي”.. يا للكذبة الكبرى.

الأكثر إيلاما بالنسبة إلى العراقيين فتوى مرجعية علي السيستاني بعدم مقاومة المحتل الأميركي والبريطاني حسب التقرير الذي نشرته صحيفة الغارديان البريطانية بتاريخ الرابع من سبتمبر 2003.

مَرويّات المعارضة العراقية قبل 2003 غالبها مُخجل، لكي لا نُعمم ونظلم بعض المعارضين لسياسات نظام صدام من الوطنيين الشرفاء والمتمردين من داخل الدولة العراقية.

كان من الطبيعي أن يُنتِج هذا المعمل البضاعة الفاسدة خلال سنوات الحكم الثماني عشرة التي تحمل العراقيون ببطولة أوزارها، مع عدم تبريرنا لحالة الخَدَر وعدم الاكتراث لتفصيلاتها اليومية. لأن مثل هذا النوع من العملاء والفاسدين يحتاجون إلى ردود بمستواها.

المشكلة الكبرى أن قوى النفوذ التي أشرفت على ما حصل في البلد تواصل تجديد مشروع التدمير باتجاهين: الأول، دعم النظام القائم وأحزابه وتعزيز استمراره عن طريق تزكيته بالشعار الديمقراطي. والثاني، منع قيام معارضة وطنية جادة قادرة على إعادة الوطن إلى أهله.

من بين أكثر الأساليب وحشية منع تطور الاحتجاجات والمظاهرات إلى ثورة شعبية تسقط النظام الفاسد، إضافة إلى تنفيذ مجازر ميدانية على يد الميليشيات وبعض الأدوات الحكومية المُخترقة من مخابرات الحرس الثوري الإيراني، تتزامن مع حملات تشويه رخيصة لنزاهة الشباب الثائر، واستدراج بعض فعاليات الثوار الشباب الذين دخلوا الانتخابات الأخيرة عن طريق عزلهم عن ميدانهم الحقيقي وإسقاطهم في مستنقع المال والجاه.

الأساليب الأكثر مكرا لمنع قيام تنظيمات معارضة وطنية في الخارج داعمة للعمل الوطني السلمي الداخلي، ما يحصل هذه الأيام من مظاهر إعلامية لقيام تشكيلات معارضة، بعضها منطلق من دوافع مبدئية أصيلة لعراقيي المنفى، لا صلة لها بالأجندات الخاصة للدول أو أجهزة المخابرات الأجنبية، والتي لا تفكر أصلا بتغيير النظام القائم.

من تسمي نفسها معارضة أو حكومات منفى هي نشاطات إعلامية فردية، بعضها مدعوم من جهات استخباراتية دولية وإقليمية، بغرض التشويش وإعاقة قيام معارضة وطنية جادة. طالعتنا في الأيام الأخيرة بعض نماذجها.

عميل يقوم بتوزيع دعوات دعم لما يسمى حكومة منفى مدفوعة الثمن على مواقع التواصل الاجتماعي، أو يظهر جالسا وخلفه واجهة لقصر فخم، قد يكون فندقا أو واجهة لحانة قمار، تستفز العراقيين، يطلب الانضمام إليه وإلى حكومته الكارتونية.

◄ بصورة غير مباشرة ساعدت سياسة نظام صدام حسين على قيام معارضة عميلة لطهران نفذت العمليات الانتحارية بالتفجير والتخريب خلال سنوات الحرب العراقية – الإيرانية

الصنف الثاني من المعارضة هي التشكيلات الوطنية التي ظهر بعضها منذ عام 2003 في الخارج. وخلال هذه السنوات ظهرت عناوين لمنتديات أو لجان علاقات عامة شعبية أوروبية – أميركية، أو تنظيمات داخل العراق لم تختلف جديّا مع النظام القائم رغم نقدها لسياساته العامة. هذه الأصناف رغم نزاهتها لم ترتق إلى المستوى السياسي الجدّي الذي يثير قلق مجموعة الفساد الحاكمة في بغداد.

مؤتمرات وبيانات على مواقع التواصل الاجتماعي لا تلتفت إليها حتى القنوات الفضائية العربية، مثلما كان عليه الحال قبل عام 2003 حيث كانت هناك أجندات للدول الراعية لتلك القنوات.

لا شك أن الطريق الجدّي لمعارضة مجموعة الفساد والاستبداد وإزاحتها وإقامة البديل الديمقراطي ليس سهلا، يحتاج إلى إرادة قوية فردية وجماعية. يجب ألا يتوقع المعارضون من الصنف الوطني الصادق أن تُمدّ لهم أيادي العون، فالقوى الإقليمية، وبينها عربية ودولية، لم تعد مُكترثة بدعم معارضة جادة، بعد أن كانت تنفذ أجندات تدمير العراق. وقد حصل ذلك.

طهران خامنئي مستعدة لتنفيذ مجازر جماعية بأدواتها ضد شعب العراق حين تشعر بمخاطر إزاحة هذا النظام عبر معارضة وطنية عراقية جادة.

رغم هذه التفصيلات المؤلمة لم يكن طريق النضال الوطني سهلا عبر التاريخ. هذا الطيف الواسع من عناوين المعارضة الوطنية العراقية الجادة، المُعلنة أو غير المُعلنة، يمكن أن يتحوّل إلى قوة سياسية مؤثرة في الأحداث العراقية داخليا وخارجيا. معارضة لا تنتظر من الحكومات العربية أو الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين أن تعطف عليها وتدعمها ماديا أو معنويا. ويشتغل ناشطوها المخلصون على بناء برنامج حركتهم وفق رؤية وطنية مشتركة بمشروع سياسي تعدّه لجنة تحضيرية يعرض على مؤتمر عام تنبثق عنه قيادة عمل للداخل والخارج.

9