عبدالرحمن مخلوف مصري أسهم في تخطيط المدن العصرية في الخليج

خبراء التخطيط العمراني يرون أن دأب مخلوف وجهده ونبوغه ويقظته وصبره عوامل التقت مع خصال موازية امتلكها مؤسس دولة الإمارات، وهي الوصفة السحرية التي جعلت المزج بينهما سهلاً.
السبت 2021/12/18
مهندس استدعاه الشيخ زايد لوضع تخطيط عمراني لأبوظبي

كشفت وفاة المعماري المصري عبدالرحمن مخلوف الثلاثاء الماضي عن مدى شعبية الرجل في منطقة الخليج العربي، وفي دولة الإمارات العربية تحديدا، حيث يُنسب إليه تخطيط العديد من المدن، في مقدمتها أبوظبي التي يضرب بها المثل في الراحة والذوق والسرعة والعصرنة، وصارت من المدن الرئيسية في العالم التي يُستشهد بها في مجال حُسن التخطيط والاستفادة من جميع مساحاتها بصورة متقنة.

أشارت رسائل الرثاء التي كتبت عن الرجل من مستويات مختلفة أن القيمة لا تزال تحظى باهتمام، والوفاء محل تقدير، والإخلاص يصعب تجاهله، وأن ما نحسبه بعيدا عن دوائر الضوء العربية يمكن أن يكون في بؤرتها عن لحظة معينة، فطغيان نجوم الفن والرياضة، والسياسة أحيانا، ومتابعة الصراعات والنزاعات، لن يغلق الطريق أمام فئات أسهمت بأدوار متفاوتة في النهضة المعمارية.

انتقل الراحل من منطقة الظل التي آثر العيش فيها طوال حياته للدرجة التي لا يعرف الكثير من المصريين عنه شيئا قبل وفاته، إلى منطقة مضيئة عرف منها هؤلاء ما تمتع به من مزايا شخصية ونبوغ، ناهيك عن مودة لا تزال باقية في منطقة الخليج.

وتؤكد رحلة مخلوف المعمارية في دولة الإمارات أهمية القوى الناعمة المصرية في حقب سابقة، والتي تراجعت الآن بفعل عدم الاهتمام بها كثيرا من قبل الدولة المصرية، والتقدم الحاصل في العديد من الدول العربية في مجالات مختلفة وامتلاك قواها الناعمة الخاصة بها والمؤثرة أيضا.

رائد التخطيط

مخلوف خطط في أثناء جلوسه على الأرض مع الشيخ زايد لمدينة أبوظبي في قصر البحر، وهو ما كشفته الصور التي انتشرت عقب وفاته
مخلوف خطط في أثناء جلوسه على الأرض مع الشيخ زايد لمدينة أبوظبي في قصر البحر، وهو ما كشفته الصور التي انتشرت عقب وفاته

عبّرت الاستعانة بخبير في حجم مخلوف عن بُعد نظر مؤسس دولة الإمارات الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والذي دفعته رغبته في التطوير وبناء أركان الدولة على أسس معمارية قوية إلى الحصول على خدمات أحد أهم المهندسين لتشييد مدينة عصرية، ولم يبخل عليه في توفير الإمكانيات اللازمة لتكون تصميماته كاشفة عن الأصالة والمعاصرة ومراعاة التطورات المستقبلية.

لمخلوف حكايات مع العمران في بعض دول الخليج تؤكد غرامه بالمنطقة وتعلقه بحكامها وناسها، وتبين قدرته على استيعاب المتغيرات العمرانية، وهي من الخصال التي مكنته أن يصبح واحدا من أكثر مخططي المدن دراية بدهاليز المنطقة وتفاصيلها جغرافيا ما جعله يمكث فيها فترات طويلة ويظل اسمه مرتبطا بعدد من مدنها.

مخلوف يُنسب إليه الفضل في تخطيط العديد من المدن، في مقدمتها أبوظبي التي يضرب بها المثل في الراحة والذوق والسرعة والعصرنة، وصارت من المدن الرئيسية في العالم

نعاه وليّ عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الشيخ محمد بن زايد، وكتب عقب رحيله مباشرة “رحم الله الدكتور عبدالرحمن مخلوف، عمل بصدق وإخلاص إلى جانب المغفور له الشيخ زايد، أحد الرواد الذين أسهموا في رسم المخطط العمراني لإمارة أبوظبي، خالص العزاء إلى أسرته الكريمة”.

وقام الشيخ محمد بن زايد بتكريمه في حياته عام 2010 وأهداه جائزة أبوظبي في دورتها الخامسة، كما تم تكريمه من قبل الشيخ حميد بن راشد النعيمي عضو المجلس الأعلى حاكم عجمان، على مسيرة إنجازاته طوال نصف قرن.

ويعتبر مخلوف الذي رحل عن عمر يناهز الـ98 عاما أحد أهم رواد التخطيط العمراني العرب، وترك بصمته في تخطيط الكثير من المدن، ليس فقط أبوظبي، بل العين والرياض وجدة والمدينة المنورة.

قال عنه وكيل دائرة الشؤون البلدية بدولة الإمارات أحمد محمد الشريف إنه استطاع فهم فكر الشيخ زايد، وقام بترجمة رؤيته الحكيمة وتوجهاته إلى مخططات معمارية واضحة، بينما اعتبره المدير العام لمجلس أبوظبي للتخطيط العمراني فلاح الأحبابي إنه قام بقلبه وروحه بتخطيط أبوظبي بما ساعد في التنمية وتطوير الاقتصاد.

المستقبل العمراني

الفكر العمراني لمخلوف يعتمد على التوسع الأفقي ولهذا لم يغب تخطيط القاهرة عن دراساته المبكرة
الفكر العمراني لمخلوف يعتمد على التوسع الأفقي ولهذا لم يغب تخطيط القاهرة عن دراساته المبكرة

 ولد مخلوف عام 1924 في أسرة غالبية أفرادها درسوا في مدارس وجامعة الأزهر، وكان والده مفتيا للديار المصرية وهو الشيخ حسنين مخلوف، الأمر الذي غرس في نفسه وازعا معتدلا انعكس على تصرفاته وتعاملاته مع المحيطين به، فقد اتسم بالهدوء الشديد والصبر الذي صقلته طبيعة مهنته.

درس في كلية الهندسة قسم العمارة بجامعة القاهرة وتخرج فيها عام 1950، ونال شهادة الدكتوراه من جامعة ميونيخ عام 1957، ثم عمل في هيئة الأمم المتحدة كخبير لتخطيط المدن وهي نافذة فتحت أمامه العمل في كل من السعودية والإمارات.

ذهب إلى السعودية عندما طلبت الرياض من الأمم المتحدة الاستعانة بخبير معماري مسلم لتخطيط بعض مدنها، وبقى هناك نحو ستة أعوام من عام 1957 إلى عام 1963 وضع خلالها البنية الرئيسية لعدد من مشروعات التخطيط في جدة ومكة والمدينة المنورة وجيزان وينبع، وبدأ اسمه يلمع كأحد أهم المهندسين المعماريين.

عاد إلى القاهرة بعد انتهاء مهمته في السعودية، وانخرط في عمله بالتدريس في كلية الهندسة جامعة القاهرة، وأعد دراسة عن المستقبل العمراني لمدينة القاهرة

ومدينة الجيزة المجاورة لها، وكان له السبق في توسيع نطاق التخطيط ليمتد إلى الأماكن الصحراوية شرق نهر النيل وغربه، وهو ما تم العمل به لاحقا، واتسع النطاق الجغرافي لكل من مدينتي القاهرة والجيزة بصورة كبيرة.

واقترح في دراسته عن المستقبل العمراني إنشاء طريق دائري يربط ما يسمى بالقاهرة الكبرى، وتضم محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية، وقام بتخطيط العديد من المدن في مصر وامتداداتها في قلب الصحراء، فقد كان فكره العمراني يعتمد على التوسع الأفقي بدلا من الرأسي، وهو ما منحه خبرة كبيرة في هذا النوع من التخطيط.

نعاه وليّ عهد أبوظبي

أما مصر اليوم فلم تنس مخلوف، وقد تأثر الكثيرون لرحيله، كما نعاه أسامة الأزهري، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية وأحد علماء الأزهر، وقال الأزهري في بيان أصدره «ببالغ الحزن والأسى أنعى المرحوم المعماري العبقري عبدالرحمن مخلوف، الذي توفي اليوم وقد قارب المئة، عن عمر 98 سنة، وهو الذي خطط مدينة أبوظبي، وغيرها كثير من المعالم البارزة“. وأضاف ”كانت قد جمعتني به صداقة ومعرفة منذ تسع عشرة سنة، وذلك في سنة 2003، حيث التقينا مرارًا في أبوظبي، وأهداني نسخة من

الرسائل المتبادلة بينه وبين أبيه العلامة الجليل المفتي الشيخ حسنين مخلوف“.

مع أن مخلوف عمل لفترة في السعودية ولعب دورا في تخطيط بعض مدنها التي تقف شاهدة على ذلك الآن، غير أن اسمه ارتبط بدولة الإمارات للدرجة التي اعتقد البعض أنه أحد مواطنيها، حيث كان تأثيره العمراني لافتا واستمد شهرته من إقامته وعمله في الإمارات، وبقيت مدينة أبوظبي من المعالم التي ارتبط اسمه بها.

رشحت الأمم المتحدة مخلوف للإمارات عندما طلب منها الشيخ زايد عام 1968 إرسال خبير لتخطيط المدن ليساعد في إعداد المخطط العام لمدينة أبوظبي، وأسندت إليه مهمة تخطيط المدن في كل من مدينتي أبوظبي والعين.

هناك جوانب خفية لا يعرفها الكثيرون عن بداية قدومه إلى الإمارات والقصص الجذابة التي أحاطت بها، وقد تحدث عنها الرجل باستفاضة في كتابه “رحلة العمر مع العمران”، منها قوله “في العام 1968 طلب الشيخ زايد، طيب الله ثراه، من الأمم المتحدة إرسال خبير لتخطيط المدن للمساعدة في إعداد المخطط العام لمدينة أبوظبي، فتم ترشيحي لهذه المهمة”.

خطط مخلوف في أثناء جلوسه على الأرض مع الشيخ زايد لمدينة أبوظبي في قصر البحر، وهو ما كشفته الصور التي انتشرت عقب وفاته، وفيها ظهر الشيخ زايد معنيا بشكل واضح بتفاصيل التخطيط العمراني للمدينة.

وحول أول لقاء له مع الشيخ زايد، قال “مكثت في أبوظبي شهورا أدرس تضاريس المدينة وجغرافيتها، وكان الشيخ زايد في ذلك الوقت خارج البلاد وبعد عودته التقيت بسموه بعد العصر في مكان بالقرب من فندق أنتركونتيننتال، حيث اعتاد أن يقوم بالمرور بعد صلاة العصر على المشاريع العمرانية

التي تنفذ في ذلك الوقت ثم يجلس في نهاية المطاف في هذا المكان”.

أسس مخلوف المكتب العربي للتخطيط والعمارة عام 1976 وقام بتصميم عدد من المشروعات العمرانية الحيوية في دولة الإمارات، وعمل أستاذاً محاضراً لمادة التخطيط العمراني في كلية الهندسة بجامعة الإمارات. وبقي يشير إلى تفضيل الشيخ زايد الخطوط المستقيمة للمدينة التي يريدها ونقل عنه “أعرف مكاني، وأعرف أين أريد أن أذهب، فلماذا لا أستخدم خطًا مستقيمًا بين النقطتين.. نريد عاصمة، ونحن في حاجة إلى الوصول إلى هناك في أسرع وقت ممكن”.

دروس الهندسة والحياة

مخلوف خطط في أثناء جلوسه على الأرض مع الشيخ زايد لمدينة أبوظبي في قصر البحر، وهو ما كشفته الصور التي انتشرت عقب وفاته
مخلوف خطط في أثناء جلوسه على الأرض مع الشيخ زايد لمدينة أبوظبي في قصر البحر، وهو ما كشفته الصور التي انتشرت عقب وفاته

من درسوا أو توقفوا عند سيرة مخلوف ومسيرته يجدون أنها حافلة بالعبر التي تتجاوز حدود الهندسة إلى الحياة وما تحمله من معان، أبرزها أن دولة الإمارات انتبهت مبكرا إلى أهمية التخطيط العمراني السليم، الأمر الذي منح غالبية مشروعاتها ديمومة وخصوصية من الصعوبة أن تجدها في أماكن أخرى.

كما أن عملية البحث عن الكفاءات، العربية والأجنبية، كانت من الأدوات المهمة في فكر الشيخ زايد الذي وضع البذور الأساسية للدولة، وقدّم المثل والنموذج للأجيال القادمة التي وجدت أمامها رصيدا من فكر بعيد يمكن أن تسترشد به في العمل.

يرى خبراء في مجال التخطيط العمراني أن دأب مخلوف وجهده ونبوغه ويقظته وصبره التقى وتضافر مع خصال موازية امتلكها مؤسس دولة الإمارات، وهي الوصفة السحرية التي جعلت المزج بينهما سهلا، بالطريقة التي حصدت بموجبها أبوظبي تحديدا مكانة تخطيطية متقدمة عصمتها من العشوائية التي تنخر بعض المدن عندما تصل إلى مرحلة الخريف، الأمر الذي جعلها في ربيع دائم.

يظل إنتاج مخلوف في الهندسة المعمارية علامة مهمة في مسيرة المدن، فهي مثل الأفراد تمتلك جوانب تفوّق أو تعثّر، وفي حالة أبوظبي التي لا ينفصل اسم مخلوف عنها كان التفوق ظاهر شكلا ومضمونا بالصورة التي تكشفت الكثير من تجلياتها قبل وفاته وبعدها، وكأن دولة الإمارات أرادت تخليد دوره

حيا وميتا.

12