عبدالوهاب عبدالمحسن ينثر النور من العتمة في لوحات ميثولوجية

المعرض تسوده روح السحر والمغامرة، وينتمي إلى تجربته التي تعكس تأثره بعادات وتقاليد عايشها في صباه.
الخميس 2021/12/02
أسماك تتقافز في اللوحات من القاع إلى السطح

القاهرة- يتواصل حتى الحادي عشر من ديسمبر الجاري في قاعة الباب/ سليم ساحة متحف الفن المصري الحديث بدار الأوبرا، معرض الفنان المصري عبدالوهاب عبدالمحسن الذي جاء تحت عنوان “مصرف كفت”، معرض تسوده روح السحر والمغامرة، حيث ينتمي إلى تجربة الفنان التي تعكس تأثره بعادات وتقاليد عايشها في طفولته وصباه.

وعنه قال خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية “يطالعنا الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن بعرض جديد ينتمي إلى تجربته ذات الطابع الروحي الرومانسي، والتي تعكس بجلاء ارتباطه وتأثره بمظاهر عاداته وتقاليده التي عايشها في طفولته وصباه.. وتظهر هذه الظواهر من خلال توظيفها كدلالات بصرية مع إضفاء أبعاد جمالية وتعبيرية متنوّعة لتتوالد صورة مجازية بنتها مخيلة الفنان وتجسّدها مفرداته”.

عبدالوهاب عبدالمحسن: سمك القرموط في الأساطير القديمة رمز مقدس للخصوبة وحامل لتعاويذ المحبين والحالمين بالإنجاب

ويضيف “قد تعوّدنا من الفنان البحث في الواقع عن أشكال وعناصر يمكنها أن تشكّل رمزية تشكيلية تضمن له سلاسة الانفتاح على الذات والوجدان، كونها تستند إلى الواقع وقد نسجها برؤية ومهارة لخلق عالمه الخاص بكل ثرائه وقلقه”.

وعن المعرض والجديد فيه يقول التشكيلي عبدالوهاب عبدالمحسن “مصرف كفت، مسرى ليلي مسكون بأساطير الطفولة، يقع في نهاية قريتي الصغيرة الفقيرة مجاورا لطريق الجبانة (المقبرة) والعائدون في الليل، في ظلمة الليل تمشي القراميط في مسرى ماء المصرف تحمل على أجسادها الداكنة حكاوي العشق والهجر ولوعة فراق الأحبة”.

ويتابع “على مصرف كفت كل الكائنات تخرج من مكانها وتطير في عتمة الليل فاردة أجنحتها ترفرف في خيالي وترسم نفسها على صفحة الذاكرة، قراميط في شكل فراشات الطمي، طلاسم سفلية بالعشق مرة والهجر والفراق مرة وأمنيات لم الشمل آلاف المرات، ليكون القرموط في الأساطير رمزا مقدسا للخصوبة وحاملا لتعاويذ المحبين والحالمين بالإنجاب”.

والقرموط أو السلور نوع من أسماك المياه العذبة التي تعيش في القاع فقط، وله اسم دارج في العامية المصرية وهو “خنزير البحر”، وعلى الرغم من أنه لا يعيش إلاّ في المياه العذبة إلاّ أنه سُمي بهذا الاسم لأنه يتغذّى على أي شيء من الفضلات، ويعيش في أي نوع من المياه (القنوات المائية أو المصارف)، لذلك فمهما كانت البيئة المحيطة بالقرموط غير نظيفة كمياه المصرف والمستنقعات، فإنه يعيش بل ويرعى ويكبر فيها. كما تتميّز سمكة القرموط بأنها من الأسماك القوية جدا، والتي يصعب صيدها خاصة الأحجام الكبيرة منها، وذلك لقوة السمكة وليونة جسمها.

ويقول الناقد المصري جمال القصاص في تقديمه للعرض “يتشكّل الهم الأساسي في هذا المعرض من نظرة الفنان إلى العالم السفلي ومعايشته له، بما ينطوي عليه من ملامح أسطورية وشعبية، تذوب في موروث الخرافة الشعبية، وترقى إلى مستوى الحقيقة الإنسانية التي تهِب الروح والجسد بعض الطمأنينة في أحيان كثيرة.. في الميثولوجيا الشعبية، يبرز ‘القرموط’، كأحد الرموز والمفاتيح المهمة في تفكيك جذرية هذا العالم، وما يعلق به من أعمال السحر والشعوذة والخرافة، وتتّسم بعض هذه الأعمال المرتبطة بالقرموط في الغالب، بالتعقيد، في فكّ شفراتها ورموزها.. بل إن المصريين القدماء كانوا يحرّمون على أنفسهم أكل سمك القرموط، اعتقادا منهم بأنه التهم أجزاء من جسد المعبود أوزوريس”.

ويضيف “كما أن رحلة الصيد لدى المصري القديم كانت تتمّ بغرض مطاردة الأرواح الشريرة التي تتقمّص الكائنات الحيّة، ومن ضمنها الأسماك. وتبدو هذه النظرة إلى هذا العالم منسجمة جماليا مع عالم الفنان المشدود إلى الأرض دائما، حيث دبيب البشر، فوق ترابها الفوّاح بروائح الندى والكدح والعرق، وحيث رنين الأحلام بتلقائيتها وعفويتها البسيطة المثابرة، وكأنها مشاعل وأجراس صغيرة، تنسج خيوطها وعلاماتها وشغفها الخاص في خطى الزمن والحياة”.

ومن ثم، تتقافز الأسماك في اللوحات من القاع إلى السطح، في رحلة صعود خاطفة، لها جاذبيتها البصرية الخاصة، ويحرص الفنان في تنويعاته التشكيلية على خلق لغة بصرية موازية للسمكة القرموط، وما يدور في عالمها السفلي، طامحا إلى أن يكسر من خلال هذه اللغة، بكل تداعياتها من الموروث الشعبي، وخلفياتها البصرية، حيادية عين المشاهد لتكتسب المشاهدة حسّ الرحلة، وروح المغامرة، والمعايشة الشيّقة لهذا العالم.

الرجل السمكة.. توظيف بصري للخرافات الشعبية
الرجل السمكة.. توظيف بصري للخرافات الشعبية

وخلال هذه الرحلة تولي الصورة اهتماما شفيفا بالتفصيلات الطبيعية، ومراعاة الانسجام بينها وبين اللمسات التجريدية للون والشكل، كما تشدّهما في الكثير من اللوحات إلى آفاق أرحب، تخلق من خلالها ملامسات حية، ونوافذ إدراك ومعرفة جديدة للصورة، لتتّسع دوائر الدلالة والرمز على شتى المستويات الفنية والفكرية والشعورية.

وهكذا تبرز اللوحات شكلا من التضافر الخصب بين رمزية القرموط بظلالها الأسطورية المرتبطة ببشاعة القاع وعتمته، وبين وهج السطح ونوره المشعّ من ثنايا الخطوط والألوان والفراغ، وكأن اللوحة فضاء للتحرّر من ركام هذه العتمة، وإيحاءاتها الضمنية إلى ما هو موجود على السطح، سطح الأرض من ضياء ظاهر، لكنه غارق في العتمة والسواد بفعل فاعل، هو أفعالنا نحن.

وتخرّج الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن من قسم الغرافيك بكلية الفنون الجميلة – الإسكندرية عام 1976، وهو حاصل على دبلوم الدراسات العليا والماجستير في فن الغرافيك عن أطروحته “فن الغرافيك المعاصر بالإسكندرية” عام 1993، ودكتوراه الفلسفة في الفنون الجميلة بأطروحة حملت عنوان “رؤية تشكيلية معاصرة لرسالة الغفران لأبي العلاء المعري من خلال فن الحفر” عام 1998، وهو أحد المؤسّسين لملتقى البرلس الدولي الذي ينظم سنويا على شاطئ بحيرة البرلس، شمال مصر، حيث فضل الاستقرار والعمل هناك، مستلهما أعماله وتجربته ككل من طبيعة المكان المحيط به.

وشغل عبدالمحسن منصب رئيس الإدارة المركزية للشؤون الفنية بالهيئة العامة لقصور الثقافة، وعضو لجنة الفنون الشعبية بالمجلس الأعلى للثقافة، وأقام العديد من الورش الفنية في فن الغرافيك في مصر والسعودية وسويسرا والأردن والهند ولبنان، كما شارك في بينالي الهندسة العاشر نيودلهى ـ جيبور 2001.

وقدّم العديد من المعارض الخاصة منها معارض بقصر ثقافة كفر الشيخ، ومعارض بأتيليه القاهرة، ومعرض بقاعة المركز الثقافي الإسباني بالقاهرة 1986 – 1987، ومعرض بقاعة كريستوف مربان في بازل بسويسرا، ومعارض بأتيليه الإسكندرية بين 1989 ـ 1992، ومعرض بقاعة إخناتون بمجمع الفنون بالزمالك 1993، بالإضافة إلى معارضه بالمركز السعودي للفنون بجدة، ومعرض “مدن الملح” بغاليري “ضي للفنون” بالقاهرة 2018، ومعرض “سيرة التوت” بغاليري “قرطبة” بالقاهرة 2019.

15