الدول الإسلامية تضامن أم صراع على القوة الدينية الناعمة

تجارب إسلامية تروج للتسامح والاعتدال يتم توظيفها ضمن معارك النفوذ الإقليمي.
الأحد 2021/11/21
قمة كوالالمبور فشلت في منافسة السعودية

التنافس بين الدول الإسلامية على الزعامة أخذ أبعادا مختلفة، لكنه في السنوات الأخيرة أخذى منحى الترويج لتجارب الاعتدال تساوقا مع تغير المزاج الدولي نحو مواجهة التيارات المتشددة ومحاصرتها أمنيا وماليا. صحيح أنها تجارب تحت الضغط، لكنها في أغلب الدول تحولت إلى مشاريع فكرية وثقافية وسياسية جدية.

لندن - باتت العلاقات بين الدول الإسلامية تحتكم إلى عناصر جديدة غير التي كانت في عقود ماضية، فلم يعد الأمر بمثابة تضامن تلقائي خاصة بالنسبة إلى الدول الثرية، التي تبحث من خلال المساعدات والتسهيلات عن لعب أدوار إقليمية ودولية، وبات الإسلام نفسه ورقة مهمة في اكتساب القوة الناعمة.

وخلال السنوات الماضية نشطت علاقات الدول الإسلامية في الشرق الأوسط، وأساسا دول الخليج، مع الدول الإسلامية في الشرق الأدنى، ورغم التعاون والتضامن اللذين تحرص البيانات المشتركة على إظهاره إلا أن ثمة صراعا واضحا قوامه تحويل الدعم إلى ورقة لجذب الاعتراف بأن هذه الدولة أو تلك هي مركز متقدم في الحديث باسم الإسلام وأن تجربتها تستحق أن تكون نموذجا يحتذى به في العالم الإسلامي.

لا بد أن الأمور اختلطت على رئيس المخابرات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل آل سعود عندما أكد في مذكراته المنشورة مؤخرا أنه لا ينبغي لأحد أن يقلل من الأهمية السياسية لالتزام المسلمين بمساعدة المسلمين الآخرين.

وتركز مذكرات الأمير تركي على أفغانستان، وهي الشغل الشاغل خلال فترة رئاسته لإدارة الاستخبارات العامة من 1977 إلى أغسطس 2001، قبل شهر واحد من هجمات الحادي عشر من سبتمبر على نيويورك وواشنطن.

السعودية الطرف الأبرز الذي سعى لإظهار الاعتدال والخروج من الصورة التي ربطت المملكة في أذهان الكثيرين بالتشدد

ولا ينبغي لأي قارئ لهذا الكتاب أن يقلل من أهمية الالتزام الأخلاقي والعاطفي للمسلمين بمساعدة المسلمين الآخرين. وكتب الأمير تركي “هذا عنصر قوي للغاية في السياسة الحديثة”.

وكان الأمير تركي، وهو مؤيد قديم للإصلاح داخل الأسرة السعودية الحاكمة، محقا بلا شك في الكتابة عن الدعم السعودي والإسلامي الكبير في الثمانينات لباكستان والمجاهدين الأفغان في جهادهم ضد القوات السوفييتية التي غزت الدولة الواقعة في آسيا الوسطى.

ويقول محللون إن الدعم السعودي، الذي أخذ كواجهة له مفهوم الجهاد، قد وضع أسس نفوذ سعودي ديني في المنطقة التي تمثل مركز ثقل بشري للمسلمين، وقد تصاعد هذا النفوذ من خلال الاستثمار في الدعوة وتصدير المقاربة الدينية السعودية لمواجهة تصدير الثورة الإيرانية التي جاءت بأفكار جذابة مزجت بين الديني والسياسي واستعادة أمجاد الهوية الفارسية للشعوب الإيرانية.

وفيما تراجعت رغبة السعودية في تصدير نموذجها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 للتبرؤ من تهمة الإرهاب، فإن إيران وسّعت مفهوم تصدير الثورة ليصبح تهديدا إقليميا ودوليا للمصالح في الشرق الأوسط ككل.

ولم يكن التنافس منحصرا في الصراع الشيعي - السني بل تحول إلى صراع سني - سني بين نماذج خليجية وأخرى بينها النموذج التركي والباكستاني والماليزي والإندونيسي. لكنه تنافس من وراء الستار على عكس التنافس المكشوف مع إيران.

ضرورات التجديد

إصلاحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وجدت فيها السعودية فرصة لإبراز نفسها منارة لتفسير معتدل وتعددي للإسلام
إصلاحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وجدت فيها السعودية فرصة لإبراز نفسها منارة لتفسير معتدل وتعددي للإسلام

ساعدت الحرب على الإرهاب، التي تعني في جوهرها مواجهة تيارات إسلامية سنية متشددة بعضها كان نتاجا لأفكار ودعم بعض تلك الدول المتنافسة، في دفع المسلمين إلى تغيير أدائهم والخروج من تهم التشدد والتحريض على العنف وتوفير الحاضنة الفكرية للإرهاب والتأكيد على طابع التسامح والاعتدال في نموذجهم الديني.

لم تحصل مراجعات كثيرة، لكن تحت إكراهات الواقع، تغير الكثير وقطعت الدول الإسلامية خطوات كبيرة في بناء نموذج ديني جديد يقوم على الانفتاح يعطي الأولوية لإقناع العالم وطمأنته أكثر منه لتأكيد التضامن الإسلامي.

ويبدو من الصعب القول إن المسلمين ما زالوا يحافظون على التزامهم بمساعدة إخوانهم المحتاجين بعد أربعة عقود، حيث يمرون بواحدة من أسوأ فترات الإسلاموفوبيا، إن لم تكن أسوأها، بعد الحرب العالمية الثانية. وتتراوح المشاعر المعادية للمسلمين من تعميم التحيز إلى ما يسميه منتقدوها الإبادة الجماعية الثقافية.

ومع ذلك، تجنب الكثيرون من العالم الإسلامي انتقاد الحملة التي تشنها الصين على المسلمين الأتراك في مقاطعة شينجيانغ الشمالية الغربية، إما خوفا من ضغوط بكين أو تمهيدا للعب دور مستقبلي مهم في طريق الحرير الذي يعد دولا إسلامية كثيرة بأن تكون جزءا منه.

وكانت السعودية الطرف الأبرز الذي سعى لإظهار الاعتدال والخروج من الصورة القديمة التي ربطت المملكة في أذهان الكثيرين بالتشدد. ووجدت المملكة في إصلاحات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان فرصة لإبراز نفسها كمنارة لتفسير معتدل وتعددي للإسلام.

وتتنافس السعودية في الترويج للنموذج المعتدل مع دول إسلامية أخرى بينها الإمارات العربية المتحدة وقطر وتركيا وإيران وإندونيسيا لإظهار أن إصلاحاتها هي معركة من أجل روح الإسلام.

وكافح مركز الملك عبدالله الدولي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات الممول سعوديا منذ افتتاحه في 2012 في فيينا لأجل التأسيس للمسار الجديد القائم على الاعتدال، وقد تدعّمت جهوده خاصة مع الإصلاحات التي طالت تحسين واقع المرأة السعودية، وتغيير الكثير من القوانين التي كانت مثار انتقادات.

منافسة وتجارب متعددة

Thumbnail

ما تزال التجربة السعودية الجديدة تحت الأنظار دوليا خاصة في ظل ضغوط متعددة على المملكة بسبب الحرب في اليمن ومخلفات قضية جمال خاشقجي واستمرار لوبيات معادية في التحريض على صورة الرياض ومصالحها وارتباطاتها الدولية.

كما أنها تجد منافسة كبيرة منذ قمة كوالالمبور التي انعقدت أواخر 2019، وجمعت كلا من تركيا وماليزيا وإيران وقطر وإندونيسيا وباكستان التي انسحبت في آخر لحظة. وهدفت تلك القمة إلى أن تكون قوة إسلامية بديلة للحد من نفوذ السعودية والمسّ من زعامتها للعالم الإسلامي.

ويشير المحللون إلى أن نفوذ السعودية ليس فقط وجودها على رأس منظمة التعاون الإسلامي، أو أنها تستثمر قوتها الرمزية كمركز لانطلاق الإسلام، وارتباط المئات من الملايين بها روحيا، فهي تقيم علاقات اقتصادية وتجارية وثيقة مع دول مثل باكستان التي لا يمكن أن تغامر بخسارة الاستثمارات السعودية الكبرى للسير في ركاب مشاريع لم تمتلك بعد أسسا متينة مثل منتدى قمة كوالالمبور.

ولفت هؤلاء إلى أن “السعودية الجديدة” أظهرت رغبة في بناء علاقات في جنوب شرق آسيا على أساس المصالح وليس على أساس الدين، وهو ما سيساعد في توسيع دائرة علاقاتها ويبدد الصورة القديمة التي كانت تضعها في دائرة الابتزاز.

وما يغذّي التنافس بين الدول الإسلامية حول “النماذج المعتدلة” أن كل بلد يريد أن يبدو في صورة النموذج الحقيقي الذي يؤسس لاعتدال إسلامي، وهو الوحيد الذي نجح في القطع مع التيارات المتشددة وحاربها، وهي حقيقة موزعة بين هذه الدول بشكل مختلف، فأغلبها حاربت التشدد وسعت لتحرير قوانينها من ضغط قوى الشد إلى الوراء. لكنّ تجاربها مختلفة وهناك فعلا من قطع خطوات كبيرة قياسا بغيره.

تجربة خاصة لأبوظبي

الإمارات قبلة للإسلام المعتدل الذي ينفتح على جميع الأديان
الإمارات تروج للإسلام المعتدل الذي ينفتح على جميع الأديان

هناك دول لا تبدي اهتماما بالتنافس الإسلامي - الإسلامي وتفتح الباب أمام مشاركة التجارب، وهو ما كشفت عنه تجربة الرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو الذي زار الإمارات بداية شهر نوفمبر الجاري، ووعد بالعمل مع أبوظبي للترويج للإسلام المعتدل.

ويقول محللون إن الرئيس الإندونيسي الذي تعتمد بلاده على نظرة حديثه للإسلام بمواجهة التيارات المتشددة وقف في زيارته التي استمرت ثلاثة أيام إلى أبوظبي على تجربة إسلامية أخرى ذهبت بعيدا في تجربة مقاومة التشدد والانفتاح على الأديان الأخرى، وأعطت بالممارسة فكرة عن كيفية قبول المسلمين بالتعدد الديني.

ويشير هؤلاء إلى أنه من المهم بالنسبة إلى العالم الإسلامي تبادل الخبرات بشأن سبل الانفتاح الديني وأشكاله وكيفية مواجهة التشدد، وعدم اكتفاء كل بلد بتجربته والتعاطي معها وكأنها التجربة الوحيدة التي تؤسس للتسامح، وهو ما يعطي قيمة إضافية للتعاون الإندونيسي - الإماراتي في مجال ظل هامشيا لدى دول إسلامية مختلفة تعتبر أن المسألة الدينية شأن خاص لارتباطه بالشرعية السياسية للحكومات.

وتحتضن الإمارات العديد من الكنائس والمعابد التي تتيح للأفراد ممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية سواء أكانوا من اليهود أم من المسيحيين أم من السيخ والهنود. كما انضمت إلى العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي ترتبط بنبذ العنف والتطرف والتمييز، واستقبلت في فبراير 2019 البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية.

ما يغذّي التنافس بين الدول الإسلامية حول “النماذج المعتدلة” أن كل بلد يريد أن يبدو في صورة النموذج الحقيقي الذي يؤسس لاعتدال إسلامي

وصارت قبلة للملتقيات الكبرى الهادفة إلى بناء الحوار المؤسس على التعدد والاعتراف المتبادل بين الأديان.

ولم يوضح جوكو ويدودو ما الذي سيترتب على التعاون الديني، لكن تقارير إندونيسية تشير إلى أن التعاون مع الإمارات يشمل تبادل الخبرات في حفظ القرآن وترجمته ونشره والمناقشات بين العلماء والسياسيين والأكاديميين حول طرق تعزيز الاعتدال الديني والتعاون في تطوير برامج التعليم الرقمي للمدارس أو المعاهد الدينية.

وقال الرئيس الإندونيسي “نحن أخوة… أرى أن الاعتدال الديني والتنوع في الإمارات يحظى بالاحترام على نطاق واسع. وهذا هو مجال التعاون الذي نود استكشافه أكثر لأننا نتشارك التقارب في الرؤية وشخصيات الإسلام المعتدل التي تنشر التسامح”.

ويشير المحللون إلى أن التعاون في مجال قضايا الاعتدال الديني سيتيح فرصة لدولة خليجية مثل الإمارات لتبدد مخاوف دول إسلامية في الشرق بشأن زعامة العالم الإسلامي واحتكار الحديث باسمه، وأن الأمر يمكن أن يتحمل تنافسا هادئا بشأن هذه التجارب دون أن يعيق ذلك تعاونا أوسع في مجالات أخرى خاصة في المجال الاقتصادي.

وتساءل جيمس دورسي الخبير في قضايا الشرق الأوسط والأدنى هل إن الرئيس الإندونيسي سيهدد ميزة إندونيسيا الفريدة في تنافسها مع الإمارات والسعودية وقطر وتركيا وإيران حول من سيحدد الإسلام المعتدل في القرن الحادي والعشرين مقابل التمويل والاستثمار؟

ووقعت إندونيسيا والإمارات العربية المتحدة اتفاقيات بقيمة 23 مليار دولار خلال زيارة ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد إلى جاكرتا في 2019. وتضمنت الاتفاقيات مشروعا للغاز النفطي المسال بقيمة 270 مليون دولار.

السعودية تتنافس في الترويج للنموذج المعتدل مع دول إسلامية أخرى كاشفة النقاب عن إصلاحات هي في الأساس معركة من أجل روح الإسلام

وقالت الإمارات في مارس إنها ستستثمر 10 مليارات دولار في صندوق الثروة السيادية في إندونيسيا. وفي الشهر الماضي، قال جهاز أبوظبي للاستثمار إنه سيلتزم بمبلغ 400 مليون دولار في مجموعة غوتو، أكبر شركة إنترنت في إندونيسيا، قبل عرضها العام الأوّلي.

ووقعت شركة موانئ دبي الأسبوع الماضي اتفاقية مع هيئة الاستثمار الإندونيسية لاستكشاف الاستثمار في البنية التحتية في موانئ إندونيسيا.

وتكتسب زيارة جوكو ويدودو إلى أبوظبي أهمية إضافية هذا العام مع الرئاسة الإندونيسية لمجموعة العشرين التي تضم الاقتصاديات الأولى في العالم.

7