ضريبة الانضمام إلى الجيش الأميركي.. حياتك بأكملها مراقبة في كل مكان وزمان

تعدّ حياة العسكريين في الجيش الأميركي شديدة الحساسية وهي دائما معرضة للخطر، لكنها قد تحوّل حياة أسرهم إلى جحيم لا يطاق يجعلهم يعيشون في مراقبة مضيّقة من قبل القادة العسكريين وزوجاتهم لكل تحركاتهم وهمساتهم، وفي المقابل قد يتحولون إلى “أجهزة مراقبة تطوعية” تحمي الجيش والبلاد من خطر الإرهاب.
واشنطن- ازدادت ظاهرة التدقيق والمراقبة في الولايات المتحدة بشكل مطّرد خلال السنوات الأخيرة وخاصة مع بدء واشنطن حربها ضدّ الإرهاب والتنظيمات المتطرفة، لكنها باتت ظاهرة تؤرق زوجات العسكريين وأسرهم التي تخضع لضغوط من القادة العسكريين سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة لحماية سرية المهنة.
وتحكي أندريا مازارينو، وهي زوجة عسكري وناشطة مناهضة للحرب على الإرهاب، في تقرير لموقع توم ديسباتش، كيف أصبح التدقيق في الناس للأسف ظاهرة شائعة وواسعة الانتشار، فهي تعرف ما يعنيه أن تكون العيون عليك دائما.
وعندما تفعل الحكومة ذلك، فالعملية تسمى “المراقبة”. لكن عندما يكون مراقبوك من أقرانك أو من هم فوقك في سلّم زوجات العسكريين، فلا توجد كلمة تشير إليها على الإطلاق.
عالم معقّد
“يبدو الجيش مثل المافيا. تحدد رتبة زوجك مدى قوتك”. كان ذلك رأي صديقة قبل عقد من الزمان عندما أحرجتني زوجة جندي أكثر خبرة لكشفي عبر رسالة نصية أن الغواصة التي بها زوجي ستعود قريبا إلى الميناء. كان زوجها في نفس الغواصة وهي تترأس مجموعة زوجات العاملين بها.

أندريا مازارينو: القادة يسيئون استخدام سلطتهم لمحاربة الإرهاب
وتكون هذه المجموعات بقيادة زوجات الضباط، وهن جميع المتطوعات اللاتي من المفترض أن يدعمن عائلات أفراد القوات. وفي لحظة من الطيش كنت قد أرسلت رسالة نصية إلى زوجة أخرى لأقدم المساعدة في الاحتفال بعودة أزواجنا الوشيكة.
ردت على رسالتي بغضب وكتبت “لا تشيري أبدا بأي شكل من الأشكال إلى أن القارب سيعود قريبا. إنك تعرضين حياتهم للخطر”. وأضافت أنه سيتم إقصائي من جميع الأنشطة إذا ألمحت مرة أخرى إلى أن مثل هذه العودة وشيكة.
جلست في شقتي في بلدة ذات كثافة سكانية منخفضة بالقرب من القاعدة العسكرية المحلية، وكان قلبي يرتعش خوفا من فكرة أن أواجه مزيدا من العزلة. ماذا سيحدث بسبب ما فعلته؟
لقد أخطأت، لكن ليس بطريقة تعرض أي شيء أو أي شخص للخطر. كان من الممكن التعامل معي بلطف بالنظر إلى أن هذه كانت مجموعة متطوعة.
كانت هذه أول مقدمة صغيرة لي للمراقبة والضغط المصاحب لعالم الزوج العسكري. ويمكنني بالطبع أن أضيف لهذه الأمثلة، لكنك فهمت الفكرة: تتجه الأنظار إليك دائما في عالم جيش عصر الحرب على الإرهاب.
وتقول مازارينو إن الجيش الأميركي يسعى جاهدا “للاعتراف بدعم وتضحيات” 2.6 مليون من أفراد عائلات القوات. وهناك بالفعل إشارات في الاتجاه الصحيح من الشراكات مع أرباب العمل الذين التزموا بتوظيف زوجات العسكريين ودعم الصحة العقلية على المدى القصير في الأزمات.
تحدث إلى أيّ زوجة وستخبرك أن الدعم الأكثر فاعلية وموثوقية يأتي من الزوجات الأخريات اللاتي يتطوعن.
ولسوء الحظ، في حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر كما أشار عالما الأنثروبولوجيا جان سكاندلين وسارة أوتزينغر، أصبحت جوانب الحياة الأسرية العسكرية التي كان يُنظر إليها سابقا على أنها “تطوعية” مراقبة متبادلة عليك المشاركة فيها لضمان مستقبل زوجك.
والأسوأ من ذلك أن كل هذه الأنشطة التطوعية تميل إلى أن تجتاحك في عالم من المراقبة غير الرسمية الموجهة للتأكد من أنك لا تتحدث عن تحركات القوات السرية ولتجنب أزمات العلاقات العامة المحتملة بسبب الحقائق العسكرية التي تلوح في الأفق مثل العنف الأسري وصعود معدلات الانتحار بين القوات.
بعد ولادة طفلي الثاني، اتصلت بي امرأة لم تحصل على تدريب في مجال الصحة العقلية أسبوعيا “للاطمئنان علي”. وأرادت أن تتأكد، كما أصرّت، من أنني أعتني بطفلي بشكل صحيح. وإذا رفضت التحدث معها، تهدد بالاتصال بخدمات حماية الأطفال. وأخبرتها أنني كنت في كلية الدراسات العليا لأصبح عاملة اجتماعية، وأعرف أنه ليس لديها دافع للإبلاغ عني.
اكتسب الأمن القومي معنى جديدا في مثل هذه الأجواء. ذات مرة، واجه ضابط زوجي لأنني كتبت منشورا على مدونة حول الحياة العسكرية تصف النظام الغذائي غير الصحي الذي أجبر الضباط على تناوله في غواصة عسكرية دون أن أكشف عن هويتي. وكان هذا يعتبر تهديدا للأمن القومي لأنني كنت “أضعِف الروح المعنوية”.
في سنوات الحرب على الإرهاب توسعت سلطات مكتب التحقيقات الفيدرالي بشكل كبير لتشمل فرض إطلاعه على معلومات سرية عن الأفراد والإنترنت
وفي بعض الأحيان، بدا الأمر كما لو أن لأولئك المكلفين بشن حرب هذا البلد التي لا تنتهي على الإرهاب رغبة عميقة في خلق المزيد من المشاكل من كل نوع، مع إثبات صحة الافتراض بأننا جميعا نعيش في عالم من الخطر الدائم.
وبعد أسبوع واحد فقط من انتقالي مع زوجي إلى مركز عمل جديد مع طفلنا الصغير، على سبيل المثال، اقترب مني ذات مساء بعد مناوبة لمدة 16 ساعة في القاعدة. كان وجهه شاحبا وقال “لدي معروف أطلبه منك”. طلب مني قائده الجديد أن أحضر ليلة واحدة حتى يتمكن هو ومجموعة من كبار الضباط وزوجاتهم من مناقشة “السلوك المناسب” في مجموعات الزوجات. فعلى ما يبدو لم تكن زوجة ضابط ترك القيادة على وفاق مع زوجات الضباط الآخرين. ولأن رتبة زوجي كانت مماثلة لرتبة الضابط المغادر، كان من المفترض أن يتم تحذيري بشكل استباقي على أساس رتبة الرجل الذي تزوجته.
قلت “نعم، سأتحدث معه”. لكن إذا كنت سأحضر مثل هذا الاجتماع، فلدي مجموعة من المواضيع الخاصة التي أريد مناقشتها معه، من بينها أنه لا ينبغي توقع أن تدفع العائلات 50 دولارا لتذكرة حضور الحفل السنوي، وأنه لا ينبغي استدعاء الأمهات الجدد أسبوعيا للتدقيق في مهاراتهن. في اليوم التالي، أخبرني زوجي أن الضابط المسؤول عنه قال “إذا لم تأت إلى منزله للتو، فقد يحدث أي شيء لعائلتنا (…) أي شيء”.
ولم أزر منزل ذلك الرجل، ولم أشارك في الأنشطة خلال العامين اللذين كنا فيهما في تلك القاعدة. ومع ذلك فإن التهديد الغامض لعائلتنا ظل يحوم حول منزلنا طوال الوقت. ومرت لحظات في الليل كنت أستيقظ فيها عند كل ضجيج خارج نوافذنا. وفي الوقت الذي كنت فيه بمفردي مع طفلنا الصغير أو حاملا، جرى اقتحام منزلنا بالفعل وتساءلت لفترة وجيزة عما إذا كان الرجل الذي هددنا هو المسؤول (قبل رفض الفكرة بسرعة). وبدأت أشعر كما لو أن الرعب في تلك الفترة كان يأتي من داخل الجيش نفسه.
لم يهاجم أحد عائلتي لكنني عشت عامين صعبين. ففي إحدى الأمسيات بعد وقت قصير من عودة زوجي من عملية شاقة حيث اصطدمت غواصته بسفينة مدنية، شارك نصا من القبطان يعبر فيه عن خيبة أمله من أن الزوجات مثلي لم يخترن المشاركة في المزيد من الأنشطة. وأصر على أن معنويات القيادة تدفع الثمن بسبب عائلات مثل عائلتنا. لقد كنا، كما قال، تحت المراقبة ولم تكن مهنة زوجي في خطر فحسب، ولكن الحادث الأخير نتج بطريقة أو بأخرى عن الزوجات هنا. وعلى الرغم من جهودي النسوية لرفض مثل هذا الاقتراح المضحك، شعرت بأنني مراقَبة، وعجزت عن عكس ما بدا وكأنه سلسلة لا نهاية لها من الأحداث السلبية التي أثّرت على عائلتنا. وشعرت بالوحدة بشكل متزايد.

الحكومة الأميركية لديها عدد كبير من الأميركيين الخاضعين للمراقبة الإلكترونية من خلال التنصت على المكالمات الهاتفية والجمع الضخم للاتصالات دون سبب
وكما اتضح، لم أكن وحدي في هذا الشعور بالمراقبة المستمرة ورد فعلي عليها. فوفقا لمسح مستقل أجرته جينيفر بارنهيل في 2021، شعرت أكثر من ثلث الزوجات بضغط مباشر من القادة أو ضغوط غير مباشرة من أنواع أخرى للمشاركة في أنشطة المجموعات الزوجية. ومع ذلك شعرت غالبية الزوجات اللاتي شملهن الاستطلاع أن تأثيرهن ضئيل على الطريقة الفعلية لإدارة الجيش.
حربي الشخصية على الإرهاب
يمكن أن يكون الإرهاب في أي مكان. هذه هي الرسالة التي تلقيتها مرارا وتكرارا من مجتمعي العسكري منذ بدء الحرب على الإرهاب. وفي تلك السنوات ظهرت نتيجة طبيعية مخيفة لهذا الفكر: كان أي شخص لا يتفق معه الجيش أو يوافق عليه يشكل خطرا.
وعلى مدار العقد الماضي شعرت كما لو أن مجتمع الزوجات يحاول حبسنا في صورة مصغرة، حيث كان الخوف العميق والدائم من المبلغين عن المخالفات والمعارضة منتشرا بشكل متزايد في عالمنا.
وفي 2010 شهدنا إدانة الجندية تشيلسي مانينغ من قبل قاض عسكري بـ17 تهمة، بما في ذلك انتهاكات قانون التجسس، وإرسالها إلى السجن بعد أن قدمت أكثر من 700 ألف وثيقة عسكرية سرية إلى ويكيليكس.
وأبرزت من بين أمور أخرى أدلة على فشل القادة العسكريين الأميركيين في التحقيق في المئات من حالات الاغتصاب والتعذيب والانتهاكات من قبل الشرطة العراقية، وهجوم بطائرة هليكوبتر تابعة للجيش الأميركي في 2007 في بغداد أسفر عن مقتل اثنين من صحافيي رويترز، وعمليات مكافحة الإرهاب السرية في اليمن والتي كان يجب إبلاغ الأميركيين بها.
وشاهدت في 2013 برعب مماثل الهجوم على إدوارد سنودن لتسريبه معلومات سرية من وكالة الأمن القومي حول أنشطة المراقبة العالمية والوطنية. وكشف عن أمر أصدرته محكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية لشركة فيرايزون وغيرها من شركات الهاتف الكبرى بتزويد وكالة الأمن القومي بسجلات هواتف الأميركيين العاديين على أساس يومي.
ولم تكن هذه الدولة التي تخيلت نفسي أعيش فيها أو يدافع زوجي عنها. ووجد سنودن نفسه عالقا في روسيا في مواجهة حياة محتملة خلف القضبان هنا لكشفه الطبيعة الحقيقية لنسخة دولة الأمن القومي بعد الحادي عشر من سبتمبر.
وكنت قد ساعدت في تأسيس مشروع تكاليف الحرب بجامعة براون لتقديم صورة أكثر دقة مما كان لدى معظم الأميركيين في ذلك الوقت عن التكاليف المالية والبشرية لحرب هذا البلد التي لا تنتهي على الإرهاب.
وكنت أعمل مع زملائي لرفع مستوى الوعي بأننا نتعرض بشكل متزايد لنوع شامل من المراقبة من شأنه أن يثير إعجاب بعض القادة الاستبداديين الأجانب كفلاديمير بوتين نفسه، حيث أطلقت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش مراقبة إلكترونية لمجموعة متزايدة من الأميركيين دون أمر قضائي بعد الحادي عشر من سبتمبر.
وفي 2008 سمح الكونغرس لمحكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية بالموافقة على مثل هذه البرامج دون أي إشارة مسبقة إلى مخالفات فردية. ووفقا لمشروع تكاليف الحرب فإن لدى الحكومة الأميركية عدد أكبر من الأميركيين الخاضعين للمراقبة الإلكترونية من خلال التنصت على المكالمات الهاتفية والجمع الضخم للاتصالات دون سبب مقارنة بعدد المراقَبين على أساس التورط المحتمل في نشاط إجرامي.

في حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر أصبحت جوانب الحياة الأسرية العسكرية التي كان يُنظر إليها سابقا على أنها "تطوعية" مراقبة متبادلة
وفي سنوات الحرب على الإرهاب توسعت سلطات مكتب التحقيقات الفيدرالي بشكل كبير لتشمل فرض إطلاعه على معلومات سرية عن الأفراد والإنترنت. ويمسح مكتب التحقيقات الفيدرالي المعلومات من عشرات الآلاف من الأشخاص في قواعد بياناته، والتي تصبح بعد ذلك متاحة لعشرات الآلاف من موظفي الحكومة، مما قد يصنف شخصا مدى الحياة على أنه إرهابي مشتبه به.
وتحدث تطورات مماثلة على مستوى الولاية، فقد تبنت بعض أقسام الشرطة تكتيكات تشبه تلك التي تتبعها الدولة البوليسية. ومنذ الحادي عشر من سبتمبر استخدمت إدارة شرطة مدينة نيويورك، وهي الأكبر في البلاد، نظام التعرف على الوجوه وكاميرات قراءة لوحات الترخيص لمراقبة مناطق على أساس مستمر لجمع معلومات عن الأميركيين المحتجين.
كما تستخدم الوزارة أيضا برامج لمسح مواقع التواصل الاجتماعي وتخزين المعلومات الخاصة بالأفراد دون إذن قضائي.
وفي مينيابوليس، وفقا للعميل السابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي تيري ألبوري الذي يقضي الآن عقوبة السجن لتسريب معلومات سرية، حشد عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي مواطنين محليين من أصول صومالية جنبا إلى جنب مع تطبيق القانون المحلي في “لجان المسؤولية المشتركة”. وكان هذا ظاهريا للمساعدة في ضمان أمن الحي.
وبالطبع تأثر المسلمون الأميركيون بشكل غير متناسب بالزيادة الهائلة التي تمارسها الحكومة في المراقبة. ووفقا لصحيفة نيويورك تايمز، قدّر مسؤولو المخابرات الأميركية أن “ما يتراوح بين ألفين إلى 5 آلاف إرهابي من القاعدة” في الولايات المتحدة قد تعرضوا للمراقبة من مكتب التحقيقات الفيدرالي في العام التالي لهجمات الحادي عشر من سبتمبر بناءً على هوياتهم العرقية والدينية.
في 2008 سمح الكونغرس لمحكمة مراقبة الاستخبارات الأجنبية بالموافقة على مثل هذه البرامج دون أي إشارة مسبقة إلى مخالفات فردية
ولم يكن القلق الذي شعرت به في المرة الأولى التي تلقيت فيها نصا نقديا من زوجة عسكري رفيع المستوى مثل الذي شعرت به زوجة مسلمة أميركية عندما طرق مكتب التحقيقات الفيدرالي بابها وأخذها للاستجواب. ويكون الشعور بالانفصال عن المجتمع الذي قضيت معظم حياتك تحاول المساهمة فيه مروعا.
وفي إحدى حفلات الاستقبال اقتربت مني زوجة عسكري شابة كانت تحت مراقبة زوجة أحد الضباط لميولها الانتحارية. وبحلول ذلك الوقت انتشر الخبر بأنني مؤلفة مدونة عن الحياة العسكرية (أغلقتها بعد فترة وجيزة تحت ضغط اجتماعي هائل). حدقت في الشخص الذي يقترب وقالت بصوت خافت “والدي أرسل لي مدونتك. يعتقد أنني سأشعر بوحدة أقل. قال لي أحدهم إنك من تديرينها”. ثم ابتعدت عني على الفور.
شعرت بوحدة أقل. إذا تمكن أشخاص مثلنا من التعبير عن تضامننا في مكان أصبح فيه هذا الأمر أكثر صعوبة وخطورة خلال هذه السنوات من الحرب التي لا تنتهي، فربما يمكن للآخرين البدء في التفكير في مواجهة القادة من جميع الأنواع الذين يسيئون استخدام سلطتهم باسم محاربة الإرهاب. أفلا ينبغي علينا جميعا أن نتحمل مسؤولية قادة المهام الذين يسيئون استخدام سلطتهم بمن فيهم قادة الجيش الأميركي؟