إجراء الانتخابات لا يعني حل الأزمة الليبية وتأجيلها كارثة سياسية

الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المنتظرة في ليبيا لن تكون حلا سحريا لمجرد رؤية المواطنين يتوافدون على صناديق الاقتراع، ذلك أنها محفوفة بالخلافات من الآن وإلى ما بعد إجرائها حول القانون الانتخابي والتوقيت وأسماء المرشحين من هذه الفريق أو ذاك، مع تعامل بارد من المجتمع الدولي الذي يدفع نحو الانتخابات غير مقدّر لهذه الألغام المزروعة في طريقها.
يتصور الداعمون والرافضون لإجراء الانتخابات الليبية في موعدها قبل نهاية العام الجاري أنها المدخل السحري لحل الأزمة الممتدة، فكل فريق يعتقد أن الوصول إلى هذه المحطة أو تجاوزها يحقق أغراضه، ولم ينظر الكثير من المحسوبين على الفريقين إلى أن الانتخابات ليست هدفا في حد ذاتها، فلا قيمة لها إذا تسببت في تدوير الأزمة أو أعادت إنتاجها بأشكال وصور جديدة، كما أن تعثرها يحمل كارثة سياسية.
وتنهمك قوى مختلفة في تمرير رؤيتها الداعمة للانتخابات باعتبارها القناة التي سوف يتم العبور منها نحو الاستقرار. وتنهمك أيضا القوى الرافضة لها في وضع العراقيل القانونية والسياسية والأمنية. وكل فريق يدافع عن رؤيته بلا مراعاة للنتيجة التي سوف يؤدي إليها الخياران.
واجتهدت جهات محلية عديدة في تقديم مسوغات مقنعة تدفع إلى إجرائها، واجتهدت أخرى في السعي نحو كبحها، وتراجعت نبرة تفويت التوقيت المحدد لها في الخطاب الداخلي عقب إعلان قوى إقليمية ودولية متباينة ضرورة الوفاء بالاستحقاق الانتخابي في موعده، بصرف النظر عن النتيجة التي سيفضي إليها.
وبدأ الحديث يتوالى عن تجزئة الانتخابات إلى رئاسية ثم برلمانية بتلميحات من البعض، ثم تحولت إلى واقع وفقا للقانون الذي أقره مجلس النواب أخيرا وأثار ردود فعل بعضها مؤيد والآخر رافض، وكعادة أي خطوة تحدث في ليبيا وجد القانون مؤيدين ورافضين، وحدث انقسام بسبب الجهة (البرلمان) التي أصدرت القانون أكثر من الانقسام حول جدواه ومناقشة مدى أهميته.
وعندما بدأت قضية الوجود الأجنبي والمرتزقة تثير مخاوف كثيرين حول تأثيرها على العملية الانتخابية، أخذ الخطاب العام حيالها يشهد ليونة، وجاءت غالبية التصريحات من الداعمين لهذه القوات ورافضيها مؤيدة لخروجها، لكن التأييد جاء مرنا أكثر من اللازم وداعما لإتمام الخطوة بصورة تدريجية دون تحديد سقف زمني له، بمعنى استهلاك المزيد من الوقت في التنفيذ، قد يتجاوز ذلك موعد إجراء الانتخابات.
وأيدت اللجنة العسكرية المعروفة بـ“5 + 5” في اجتماعاتها التي عقدت في جنيف واختتمت الجمعة مسألة الانسحاب واستخدمت عبارة مطاطة من نوعية “متزامن ومتوازن ومتدرج”، وهي مفردات تتسق مع الواقع وتراعي مقتضياته العملية، لكن غير كفيلة بإنقاذ الانتخابات من مصيرها المجهول أو تضمن تطبيق نتائجها.
ولا يزال المجتمع الدولي يتعامل مع الأزمة بقدر من عدم الجدية ويتجاهل ما يمكن أن تقود إليه الانتخابات إذا جرت في أجواء ملتبسة من حيث القوانين المنظمة لها وتوجهات السلطة التنفيذية بشقيها؛ المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية والمؤسسة الأمنية التي تقوم بتوفير الظروف المناسبة لضمان تصويت المواطنين في هدوء.
وصدر قانون تنظيم الانتخابات الرئاسية ثم البرلمانية من مجلس النواب وهناك قوى رافضة له باستماتة، وبعيدا عن مدى الرضاء السياسي عنه لم يفكر أحد ماذا يحدث لو فاز في هذه الانتخابات المشير خليفة حفتر أو سيف الإسلام القذافي؟
جاءت الإجابة بين ثنايا حوار أجراه الجمعة رئيس مفوضية الانتخابات عماد السايح الذي أكد أن مفوضيته اتخذت إجراءات لوجستية كثيرة، وتوقف عند اسمي حفتر وسيف الإسلام متشككا في إمكانية القبول بفوز أحدهما من جانب ليبيين، لذلك وضع شرط التوافق السياسي مبكرا، فما معنى إجراء انتخابات لا أحد يضمن تنفيذ مخرجاتها؟
الحاصل أن فوز حفتر أو سيف الإسلام أو شخصية أخرى لن يكون مقبولا من الطرف المعارض، وهو ما يخلق أزمة جديدة ويعيد المشهد إلى حالته الأولى من الانقسام والتشرذم، وربما أكثر قسوة، فالتوافق العام هو المدخل الأساس لإجراء أي استحقاق سياسي، ولأن الوصول إلى هذه القاعدة عملية تكاد تكون مستحيلة من الواجب أن يتدخل المجتمع الدولي ويرمي بثقله خلف العملية الانتخابية لإجرائها بالطريقة الصحيحة.
مرت ليبيا بمحطات شبيهة وكان العنصر الحاكم في تمرير كل استحقاق موقف المجتمع الدولي، فعندما دعم اتفاق الصخيرات ظهرت حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج، وعندما دعم الملتقى السياسي خرجت السلطة الحالية من العدم، لكن في الحالتين كان هذا الدعم ناقصا، حيث رغبت قوى دولية رئيسية في تمرير الاستحقاق من دون اهتمام بما سوف ينجم عنه، وهو ما أدى إلى النتائج المشوهة السابقة.
وتسير ليبيا على هذا المنوال في عملية الانتخابات، فموعد إتمامها بات أشبه بالمقدس لأن المجتمع الدولي يريد تجاوز عقبة تفضح عجزه وتكشف تناقضاته وعمق الخلل في التوازنات التي يقيمها داخل ليبيا، ومقياس دوله درجة التأثيرات المباشرة على مصالحها، فإذا كان عاجزا عن حل أزمة التدخلات الأجنبية وانتشار المرتزقة يلجأ إلى تصورات تمنح كل طرف ما يريده ويتقاعس عن التدخل بطريقة حاسمة ويمتنع عن التدخل بما يسهم في وقف هذه المأساة المستمرة منذ عشر سنوات.
وتعلم القوى الدولية المنخرطة في الأزمة الليبية نوعية الأدوار التي يقوم بها كل طرف، وتعلم أن الطريق الذي يمضي فيه كل فريق يقود إلى تكرار أخطاء سابقة، فالمهم أن يتم تدشين الانتخابات في موعدها، بتقسيمها حسب قانون مجلس النواب أو المطالبة بإدخال تعديل لإجرائها في توقيت واحد، فالمهم أن يبدو العالم راعيا للانتخابات.
لن تحل أزمة ليبيا لمجرد رؤية المواطنين يتوافدون على صناديق الاقتراع في أنحاء مختلفة، فقد يحدث ذلك وتقدم ليبيا نموذجا كثيفا في عملية التصويت، لكن لا أحد يملك الضمانات الكافية لعدم تأثير الميليشيات على نتيجة هذه الانتخابات طالما أن سلاحها لا يزال في حوزتها وقادرة على توجيهه إلى خصومها أو من تعتقد أنهم خصوم لها.
لن يتم التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة إذا فاز حفتر أو سيف الإسلام أو عبدالحميد الدبيبة، سوف يبقى الانقسام عنوانا لمرحلة جديدة بشكل يشبه أو يفوق المرحلة الماضية، فقد استهلك الليبيون وقتا طويلا في الجدل حول الدور الذي تلعبه العصابات المسلحة والقوات التركية والمرتزقة ولم يتخلصوا من كل هؤلاء.
واستهلكوا وقتا أطول في التفاهم حول تفاصيل أساسية تضمن توفير الأمن والاستقرار في البلاد، والآن قد يجدون والمجتمع الدولي ملاذا في الهروب إلى انتخابات من الصعوبة أن تؤدي إلى إنهاء أزمة ممتدة، كأن المعايير التي أفرزت الحالة الراهنة والسابقة عليها سيعاد إنتاجها بوجوه جديدة، فالدبيبة لم يختلف كثيرا عن السراج.
المجتمع الدولي لا يزال يتعامل مع الأزمة بقدر من عدم الجدية ويتجاهل ما يمكن أن تقود إليه الانتخابات إذا جرت في أجواء ملتبسة
ويكمن الخوف في ناحيتين، الأولى أن إجراء الانتخابات بهذه الصورة الخالية من الحد الأدنى من التوافق لن يكون كفيلا بحل الأزمة. والثانية أن عدم إجراء الانتخابات أو تأجيلها لأي سبب سوف يفوت فرصة على ليبيا كان يمكن أن تتخطى فيها أزمتها، وبالتالي قد يتساوى سيناريو إتمامها مع إخفاقها، ففي الحالتين لن تبارح الأزمة مكانها.
وتقع المسؤولية الكبيرة على المجتمع الدولي الذي عليه التخلي عن المراوحة التي تلازمه في إدارة الأزمة، حيث وفرت ثغرات كثيرة لبعض القوى لاستغلالها، إذ فهم التردد والارتباك وعدم الحسم على أنه عدم استعداد للمساهمة في حل جدي، ما ساعد على استمرار الدوران في حلقات مفرغة توحي بوجود ضجيج في عملية سياسية بلا ضمانات تتكفل تطبيق مخرجات تقود إلى تسوية الأزمة نهائيا.