الثقافة الاستهلاكية تؤثر على تكوين النظرة الصحيحة لمفهوم القيم والحياة عند الشباب

الاقتراض للاستهلاك المفرط يخل بالتوازن الاقتصادي والنفسي لجيل اليوم.
الأحد 2021/10/03
ملاحقة آخر صرعات الموضة

تقدمت الثقافة الاستهلاكية لدى الشباب بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة بغض النظر عن إمكانياتهم المالية ما أدى إلى ارتكاب الجرائم من أجل الحصول على متطلبات الحياة والرفاهية التي أصبحت أساسية لدى جيل اليوم، مع تأثير انفتاح المجتمع سواء من خلال الفضائيات أو من خلال الإنترنت.

تونس - أثرت الثقافة الاستهلاكية الحديثة بشكل كبير على المستوى الاقتصادي للشباب والعلاقات الاجتماعية والاستقرار النفسي، ولعبت مواقع التواصل الاجتماعي الدور الأكبر في تنامي هذه الظاهرة بما لها من أخطار عديدة.

وأصبحت التكلفة الاستهلاكية العالية نمط الحياة السائد عند المراهقين والشباب خاصة في المدن التونسية، والتي تصل إلى الآلاف من الدينارات (الدولار الأميركي =2.8 دينار تونسي) وتشمل أجهزة الكمبيوتر المحمولة، هواتف أبل، المعدات الرياضية، مستحضرات التجميل، السفر والسياحة.

ويفرض النمط الاستهلاكي الذي نشأ عليه الجيل الجديد نفقات مكلفة لم تعد كماليات كما كانت عليه قبل سنوات قليلة ماضية، يضاف إليه الشغف الشبابي بكل ما هو عصري وجديد، يتم الترويج إليه أينما التفتوا، فأمام هذه المغريات تصبح مسألة الادخار والتوفير غاية في الصعوبة.

المجتمع الاستهلاكي يشتغل بوتيرة عالية، بفضل آليات العولمة ومواقع التواصل الاجتماعي

ويلجأ الكثير من الشباب في تونس إلى الاستدانة والقروض نظرا لاحتياجات التسوق، وخاصة شراء مستحضرات التجميل والملابس والمنتجات الإلكترونية وما إلى ذلك، والتي تكون في الغالب خارج نطاق قدراتهم المادية. وتتزايد ديونهم أكثر وأكثر نظرا لعدم وجود مصدر دخل كاف.

ويُدانون بشدة عندما يتعلق الأمر بالميل إلى تغيير وظائفهم بشكل متكرر، وربما يؤجلون فكرة الزواج كثيرا، وينشغلون أكثر بإنفاق نقودهم لشراء بعض المأكولات والمشروبات، بدلا من التوفير لشراء منزل أو الادخار لأجل طويل.

ويعتبر النمط الاستهلاكي من أبرز المعوقات التي تقف بوجه الادخار، خصوصا مع ارتفاع القروض الاستهلاكية، حيث يحمّل الشباب الكثير من الأعباء الشهرية غير المبررة.

ومن الأسباب الشخصية التي يمكن أن تبعد الأشخاص عن الادخار، جهل شباب اليوم بأهمية هذه الأداة الاقتصادية وما يمكن أن تغير في حياتهم، بالإضافة إلى التوجه نحو المغريات الاستهلاكية بصور غير مبررة ومن دون وجود حاجة ضرورية فعليا.

أسلوب حياة

الترفيه يتراجع أمام ثقافة الاستهلاك
الترفيه يتراجع أمام ثقافة الاستهلاك

ويمثل الادخار أسلوب حياة يجب التأقلم معه في كل الظروف، فهو يتغير وفقا للمتغيرات التي تطرأ على حياة الشاب، بمعنى إذا انخفض الراتب الشهري أو الأرباح، تنخفض معها نسبة الادخار، والعكس صحيح. لكن معظم الأشخاص حتى ممن يدخرون بانتظام، لا يعملون وفق هذه المعادلة، إذ يحافظون على معدل ثابت للادخار بغض النظر عن الارتفاع الذي يطرأ على رواتبهم.

ويرى الكثير من الشباب الإقبال على أحدث المنتجات العصرية أمرا طبيعيا، ويذهب أخصائيون اجتماعيون إلى القول إن شباب اليوم خصوصا مع الأزمات المتتالية السياسية والاقتصادية وآخرها الصحية يلجأون إلى النمط الاستهلاكي لمقاومة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.

وقال ماهر دبيش الأخصائي في العلوم الاجتماعية إن “الجيل الجديد من الشباب نهل من ثقافة حديثة ترافقت مع انفتاح المجتمع سواء من خلال الفضائيات أو من خلال الإنترنت”، ولاحظ أنه “لا يمكن مقارنة هذا الجيل مع غيره من الأجيال”.

وتشير استطلاعات الرأي إلى اهتمام الشباب المتزايد في تونس بالنمط الاستهلاكي، ومن ضمنها المظاهر العامة، حيث كشف بحث حول أنماط استهلاك الشباب، وتناول الشريحة العمرية بين 18 و35 سنة، أن 84 في المئة من الشباب يولون أهمية كبرى للمظهر الخارجي.

وقال البحث الذي أعده المعهد الوطني للاستهلاك مؤخرا، وشمل عينة تتكون من 2023 من الشباب من كافة أنحاء البلاد، إن الشريحة التي تعمل تعتبر أن معدل الدخل الشهري الذي يمكنها من مجابهة المصاريف اليومية بأريحية يقدر بحوالي 1400 دينار (560 دولارا) مع معدل إنفاق سنوي على اللباس يصل إلى 838 دينارا (335 دولارا).

وأفاد المدير العام للمعهد الوطني للاستهلاك طارق بن جازية بوجود نقص ملحوظ في الدراسات والبحوث المتعلقة باستهلاك الشباب خاصة الشريحة العمرية بين 18 و35 سنة.

وأشار إلى أن الدراسات المنجزة حول الشباب طالما ركزت على المسائل المتصلة بالمشاركة في الحياة السياسية والانتخابات والشأن العام أو استهلاك المخدرات والتدخين دون التطرق إلى هذه الفئة الشبابية كعنصر اقتصادي فاعل وعلاقته بالثقافة أو الرياضة والترفيه والمظهر الخارجي.

واستند البحث الذي شمل شريحة لا تزال في مرحلة الدراسة وتحتاج إلى مساعدة مالية وشريحة تعمل ولها استقلالية مالية، على جملة من المحاور تتصل بعلاقة الشباب بالتغذية ووسائل الاتصال الحديثة والثقافة والترفيه والرياضة إلى جانب علاقته بالمظهر الخارجي.

وأضاف أن هذه الشريحة العمرية تعرف تغيرا كبيرا في نمط استهلاكها، معبرا عن تفاجئه من ضعف الإقبال على الأنشطة الثقافية والترفيهية مقابل الاهتمام بالمظهر الخارجي، وحتى مستويات الإنفاق كبيرة في هذا الباب سواء التجميل أو اللباس.

وفي علاقة الشباب مع وسائل الاتصال الحديثة، أظهر البحث أن 69.7 في المئة من المستجوبين يستعملون هواتف ذكية وحوالي 48 في المئة لديهم كمبيوتر محمول.

وبالمقارنة مع مواليد ما بعد السبعينات والثمانينات، الذين يستهلكون عموما من أجل معيشية الأسر، يفضل مواليد ما بعد التسعينات الإنفاق على أنفسهم مع التركيز على تحسين نوعية الحياة، وأكثرهم يتجاوز قدرة استهلاكهم.

تسهيلات الاقتراض

بمجرد تجاوز الديون قدرة التحمل الشخصي، من السهل تحفيز السلوك غير العقلاني وخلق مناخات ملائمة لتنامي الجريمة

ويعتقد بعض الخبراء والباحثين أن هناك سببين رئيسيين وراء الاستهلاك المسبق والمفرط حتى الوقوع في أزمة الديون.

فمن ناحية، توسع استهلاك الشباب في ظل التطور الاقتصادي السريع والتحسين المستمر للاستهلاك في المجتمع ككل، ولكنه من السهل التعرض للاختلال أيضا. وفي هذه العملية، هناك نقص في التوجيه الإيجابي في الأسرة والمدرسة والمجتمع أيضا.

ومن ناحية أخرى، فإن إفراط الشباب في الاستهلاك حتى اللجوء إلى الاقتراض للاستهلاك يرتبط أكثر بتواجد العديد من المحفزات في البيئة الاقتصادية والاجتماعية الحالية. وقد ساهمت التسهيلات لاقتراض الأموال، والإغراء المتعمد للاستهلاك المفرط، والتدفقات اللانهائية من مصائد القروض في استهلاك الشباب بالاقتراض.

ويرى خبراء أن اقتراض الشباب للاستهلاك المفرط سيتسبب في تراكم مشاكل اجتماعية مختلفة، حيث سيؤثر الاقتراض على تكوين النظرة الصحيحة لمفهوم القيم والحياة للشباب. وكلما زاد الاستهلاك المفرط كلما صعب القضاء على الشهوات المتزايدة. وبمجرد تجاوز الديون قدرة التحمل الشخصي، فمن السهل تحفيز السلوك غير العقلاني. وعلى العكس من ذلك، فكلما كان التركيز على المهنة والادخار، أو حتى عدم وجود وقت للإنفاق، دخل إلى مسار جيد وحياة العمل مليئة بالأمل.

وارتفعت مؤخرا وتيرة حوادث العنف والاغتصاب والسطو المسلح في تونس، وعزا خبراء في علوم النفس والاجتماع أسباب ارتفاع معدلات الجرائم في تونس مؤخرا إلى اختلال منظومة القيم وتنامي أنماط العنف الافتراضي وتغيير النمط الاستهلاكي في البلاد.

وأكد مهدي مبروك أستاذ علم الاجتماع ووزير الثقافة الأسبق أن كل المؤشرات الإحصائية تدل على ارتفاع الجريمة الاجتماعية بنسق متصاعد خلال السنوات الماضية وتعدد جرائم العنف والقتل والاغتصاب وهي جرائم شهدت في ذات الوقت تحولا نوعيا في تنفيذها من خلال التشفي، التبجح والتمثيل بجثث الضحية وحتى التباهي بها على مواقع التواصل الاجتماعي.

وأضاف “تظل الجريمة بشعة ولكنها ازدادت بشاعة ووحشية خلال السنوات الأخيرة وهذا يأتي في سياق تحولات حادة يمر بها المجتمع التونسي في فترة انتقالية حساسة اتسمت بضعف الدولة وفقدان قدرتها على الضبط الاجتماعي والمعاقبة خصوصا في ظل التحرش بها وبترسانتها التنفيذية والتشريعية، إضافة إلى تراجع أدوار العائلة وفقدان قدرتها على التنشئة السليمة وتنامي دور جماعات الأتراب والأصدقاء”.

وتابع أن “تنامي التحريض على العنف والجريمة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي على حساب دور العائلة والمدرسة ويعد الفقر ومحدودية المستوى الدراسي سببا في فشل سياسات الإدماج الاجتماعي وتنامي أشكال التهميش، وكلها أسباب خلقت مناخات ملائمة لتنامي الجريمة”.

وصنّف مؤشر “نامبيو” العالمي للجريمة تونس العاصمة في المركز 177 دوليا لسنة 2021 من بين 427 مدينة حول العالم، وأشار التقرير إلى أن تونس سجلت مستويات دنيا للجريمة على المستوى العالمي والعربي والمغاربي والأفريقي، متأخرة عن العاصمة الغانية أكرا التي احتلت المرتبة الأولى في مؤشر السلامة الأمنية. وحصلت تونس على تقييم 47.1 نقطة في مؤشر الجريمة.

إلا أن هذا التصنيف لا يعكس الأرقام الوطنية في تونس، أو يقلص الشعور العام لدى التونسيين بالخوف، فقد كشف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مؤخرا أن العنف الإجرامي يمثل 71 في المئة من حالات العنف في تونس.

تردي الأوضاع

المجتمع الاستهلاكي أصبح يشتغل بوتيرة عالية جدا
المجتمع الاستهلاكي أصبح يشتغل بوتيرة عالية جدا

وتعود أسباب ارتفاع العنف الإجرامي حسب المنتدى إلى تصاعد الضغط النفسي لدى التونسيين بعد ثورة 2011 مع تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وضعف مؤسسات الدولة وعدم احترامها.

وطغى العنف داخل المسكن على بقية الأماكن الأخرى بنسبة 38.7 في المئة، يليه العنف في الشارع الذي بلغت نسبته 32.3 في المئة خلال الأشهر السبعة الأولى من 2021.

وكشف استطلاع آراء في شهر يونيو لعام 2021، أجرته مؤسسة سيغما كونساي، أن نسبة تشاؤم التونسيين بلغت 92.8 في المئة وتعد فئة الشباب بين 18 و25 سنة الأكثر تشاؤما بـ95 فاصل 2 في المئة حسب نتائج “الباروميتر” السياسي.

وحذر الباحث في علم الاجتماع محمد الجويلي من خطورة خلق جيل جديد من الجرائم لا يعد قاصرا على ذوي الخبرة في الإجرام.

وأوضح “النطاق الزمني بين وقوع شجار بسيط وارتكاب جريمة قتل بات قصيرا جدا، ما يحمل دلالات سلبية تدعونا إلى البحث والتدقيق في الأسباب”. وتابع “بجانب الأسباب التقليدية كالبطالة والتهميش والفقر، يعد تغيير النمط الاستهلاكي للمجتمع مؤثرا بصورة كبيرة على تنامي ظواهر العنف في تونس”. وأضاف “تراجع مؤسسات التنشئة الاجتماعية، مقابل تقدم الثقافة الاستهلاكية يدفع بعض الأفراد إلى ارتكاب الجرائم من أجل الحصول على متطلبات الحياة”.

وطالب بإعادة الاعتبار إلى المنظومة الأمنية في ضبط إيقاع الحياة المجتمعية وأصبح المجتمع الاستهلاكي يشتغل بوتيرة عالية جدا، بفضل آليات العولمة ومواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا أن انتقال السلع صار أسهل بكثير من الماضي، وهذا أضعف إلى حدّ كبير سيادة الدول على منظومات لاستهلاك.

19