إندونيسيا تسبق الدول الإسلامية في ترسيخ الإسلام الحديث

أطلق وزير الشؤون الدينية الإندونيسي ياقوت شليل قماس في آخر تصريحاته، وعودا بأن تضع بلاده المعركة على روح الإسلام الحق في مقدمة أولوياتها، حيث باتت إندونيسيا واحدة من أكثر الدول ترويجا لقيم الإسلام الحديث التي تقوم على التسامح وتعارض كل سبل التطرّف الديني، فيما تكابد بقية دول العالم الإسلامي لمكافحة التشدّد ومجاراة تطويع الدين بما يخدم التغيّر السريع للمجتمعات.
جاكرتا - رفع وزير الشؤون الدينية الإندونيسي سقف التوقعات للرئيس جوكو ويدودو ومن ورائه نهضة العلماء، العمود الفقري الديني لحكومة الرئيس، عندما أوضح جدول أعمال رئاسة بلاده لمجموعة العشرين.
وكان حديث قماس هذا الأسبوع في منتدى مجموعة العشرين بين الأديان في بولونيا بينما تستعد إيطاليا لتسليم رئاستها إلى إندونيسيا، بمثابة تحد لمنافسي إندونيسيا في الشرق الأوسط في معركة تحديد الدرجة التي يدمج بها الإسلام مبادئ التسامح والتعددية والمساواة بين الجنسين، والعلمانية وحقوق الإنسان على النحو المحدد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ويرى المحلل السياسي والخبير في قضايا الشرق الأوسط جيمس دورسي أن المعركة التي من المرجح أن تحدد الدولة أو الدول ذات الأغلبية المسلمة التي سيتم الاعتراف بها كقادة للعالم الإسلامي، تكتسب أهمية إضافية مع سيطرة طالبان على أفغانستان والمخاوف بشأن سياسة طالبان تجاه المسلحين على الأراضي الأفغانية.
وفي نفس الوقت، يدفع عدم اليقين بشأن موثوقية الولايات المتحدة كضامن للأمن في الخليج الأعداء الإقليميين إلى احتواء خلافاتهم لضمان عدم خروجها عن السيطرة، مما يزيد من تركيزهم على إبراز القوة الناعمة.
ويقول دورسي إن ميزانية تركيا لعام 2022 تشير إلى التحول والأهمية التي يعلقها الرئيس رجب طيب أردوغان على هذا التحدي بالذات، خاصة وهو الذي يعمل منذ سنوات على ترويج صورة مغايرة له مفادها أنه القائد للعالم الإسلامي والمدافع عن كل القضايا الإسلامية.

جيمس دورسي: هل يمكن للأنظمة الاستبدادية إعادة صياغة سياق الإسلام
ومن المتوقع أن تزداد ميزانية رئاسة الشؤون الدينية (والمعروفة باسم ديانت) بنسبة 20 في المئة للعام المالي 2022، مما يمنحها مرونة مالية أكبر من وزارات الداخلية والخارجية والتجارة والصناعة والتكنولوجيا والبيئة والتحضر والطاقة والموارد الطبيعية والثقافة والسياحة.
وتبقى هذه الوزارات أساسية لتمكين تركيا من حل مشاكلها الاقتصادية، والتعويض عن تداعيات الوباء وتعزيز جاذبيتها كقائد محتمل للعالم الإسلامي.
وفي إشارة أخرى إلى تأكيد أردوغان على الهوية الدينية بدلا من الهوية الوطنية، حثت ديانت الأتراك مؤخرا على استخدام التحية الدينية “السلام عليكم” بدلا من عبارات مثل “صباح الخير” السائدة في تركيا منذ أن تأسست كجمهورية منذ ما يقرب من قرن من الزمان.
وجادل رئيس ديانت علي أرباش في كتاب نُشر مؤخرا باللغة التركية بعنوان “الدين البشري والدين في عصر المعلومات”، بأن تحية “صباح الخير” ترجع أصولها إلى عصر ما قبل الإسلام. وتشير هذه التحركات الأخيرة إلى أن أردوغان يسير ببلده، وهو أيضا عضو في مجموعة العشرين، في مسار يتعارض تماما مع الإسلام الوسطي وما تعمل عليه إندونيسيا لعدم تسييس الدين وتحرير الفقه الإسلامي وما كان يجادل به قماس في بولونيا عامة.
وزعم الوزير الإندونيسي خلافا لسياسات أردوغان أن للدين “القدرة على المساعدة في منع التسليح السياسي للهوية، والحد من انتشار الكراهية الطائفية، وتعزيز التضامن والاحترام بين مختلف الناس والثقافات والأمم في العالم، وتعزيز ظهور نظام عالمي عادل ومتناغم يقوم على احترام الحقوق والكرامة المتساوية لكل إنسان. ومع ذلك، يجب علينا أن ندير بحكمة الصراع الحتمي بين القيم المتنافسة لتحقيق هذه الإمكانات، حيث إن العولمة تجلب الشعوب والثقافات والتقاليد المتنوعة عبر اتصال أوثق من أي وقت مضى”.
وأدلى قماس بتصريحاته بينما دعا صحافي إسلامي أردوغان إلى تجنب تسليح الدين.
وأشار الصحافي أحمد تاسجيتيرين على موقع قرار التركي، الذي يعتقد أنه قريب من رئيس الوزراء ووزير الخارجية السابق أحمد داوود أوغلو، الذي ترك حزب العدالة والتنمية الحاكم لتأسيس حزبه الخاص، إلى أن الرئيس يبدو في طريق تسييس ديانت.
وبالمقارنة مع تسييس أردوغان للقضاء التركي، أشار تاسجيتيرين إلى أنه “يضعف ثقة الناس به”. وكتب مناشدا أردوغان أن “تسييس الدين والديانات يفسد علاقة الناس بالدين… أعتقد أنك لن ترغب في ذلك للدين. من أجل الدين، من فضلك”.
وذهب قماس، سليل عائلة نهضة العلماء ذات النفوذ والرئيس السابق لجناح الشباب القوي للمجموعة، ليقول في خطابه إن “إحدى المهام الرئيسية التي تنتظرنا هي تحديد ومراعاة تلك القيم العالمية التي يعترف بها غالبية سكان العالم، مثل فضائل الصدق والبحث عن الحقيقة والرحمة
والعدالة. وتكمن مهمة أخرى موازية في تطوير إجماع عالمي بشأن القيم المشتركة التي ستحتاج ثقافات العالم المتنوعة إلى تبنيها إذا أردنا التعايش السلمي”.
وتأسست جمعية نهضة العلماء عام 1926 وينخرط فيها حاليا 70 مليون عضو، مما يجعلها أكبر منظمة إسلامية سنية في العالم. ويقول أوليل أبشار عبدالله، وهو عالم دين إسلامي ومؤسس الشبكة الليبرالية الإسلامية، إن “الإسلام الإندونيسي يمكن أن يقدم وجهة نظر مضادة للإسلام المتطرف”.
وضمنيا، أشار قماس إلى أن نهضة العلماء، وهي واحدة من أكبر منظمات المجتمع المدني الإسلامية في العالم، تتخذ إجراءات لدعم تصريحاتها على عكس منافسيها في معركة إعادة تشكيل الإسلام السائد.
وأشار قماس إلى أن تجمعا في 2019 ضم أكثر من 20 ألفا من علماء الدين المسلمين المرتبطين بنهضة العلماء، قضى بأن الفئة القانونية للكافر “لا صلة لها ولا تنطبق في سياق الدولة القومية الحديثة”. وبذلك، أصبحت نهضة العلماء أول كيان ديني إسلامي سني معاصر رئيسي في العالم يسعى إلى تحديث الفقه الإسلامي.
ولم يقدم قماس برنامجا للتعامل مع المفاهيم الأخرى للشريعة الإسلامية التي وصفها رجال الدين في نهضة العلماء بأنها إشكالية أو عفّا عليها الزمن، مثل الزندقة.
وأوضحت نهضة العلماء بأن مفاهيم مثل “الذمي” أو “أهل الكتاب” اللذين يطرحهما الفقه الإسلامي الكلاسيكي ليست لهما مكانة مماثلة أمام القانون، الذي أبطل أيضا حكم الردة في إطار ما نص عليه حول التكفير.
ويستشهد دورسي في تقريره بتجارب دول إسلامية أخرى مثل المملكة العربية السعودية التي تُعتبر فيها الشريعة الإسلامية دستوريا مصدرا رئيسيّا للتشريع، والتي قد حرّرت الحقوق الاجتماعية بشكل كبير.
وعززت المملكة بشكل كبير حقوق المرأة في السنوات الأخيرة من خلال رفع الحظر المفروض على قيادتها السيارة، وتخفيف الفصل بين الجنسين، وتقليل سيطرة الرجل على حياة المرأة، وتوسيع الفرص المهنية.
وكان تحرير الأعراف الاجتماعية في السعودية متجذرا في القانون المدني والقواعد واللوائح، لكن لم يتبن البلد، على عكس العملية التي بدأتها نهضة العلماء، فقها إسلاميا متحررا، بل تفرض الدولة على عكس إندونيسيا، رقابة صارمة على تفسير الإسلام دون تدخل من المجتمع المدني.
ويقول دورسي إن الانقسام بين دول العالم الإسلامي يثير أسئلة أساسية، بما في ذلك عما إذا كان ما تسميه نهضة العلماء “إعادة صياغة سياق” الإسلام يمكن تحقيقه من خلال الأنظمة التي تسعى إلى ضمان بقائها وإبراز نفسها دوليا في ضوء إيجابي، أو عما إذا كان الإصلاح الديني يحتاج إلى ترسيخ شعبي يقوده المجتمع المدني.
وعلى الرغم من وجوده في الحكومة، قدم قماس إجابته ضمنيا على السؤال باقتباس قصيدة لمصطفى بسري، وهو زعيم روحي بارز في نهضة العلماء. وتركز القصيدة التي تحمل عنوان “الدين” على سلوك الفرد وليس على دور الدولة. وتقول: “الدين هو عربة ذهبية أعدها الله ليأخذك على طول الطريق إلى حضرته الإلهية. لا تنبهر بجمالها، ناهيك عن سحرها إلى درجة القتال مع إخوتك وأخواتك بشأن من يشغل المقعد الأمامي”.