غزة لا تحتمل حربا خامسة

ينظر سكان حي سكني في شمال قطاع غزة إلى أنقاض منازلهم المدمرة وآمالهم معقودة على عدم اندلاع حرب جديدة في منطقتهم، التي عانت طوال ثلاثة عشر عاما من التدمير والتخريب والقصف.
بيت حانون (قطاع غزة)- لا يخفي سكان حي في بلدة بيت حانون شمال شرقي قطاع غزة معاناتهم خلال أربع حروب عايشوها طوال ثلاثة عشر عاما. مشاهد الدمار في كل مكان من الحي القريب من الحدود.
لا تبتعد منطقة شارع البعلي ومربع عائلة نصير في البلدة الزراعية شمال قطاع غزة سوى ميل واحد عن الحدود الفاصلة مع إسرائيل. دمرت منازل كثيرة في الحي خلال الحرب الرابعة والمواجهة المفتوحة بين حماس وإسرائيل في مايو الماضي.
وفي ظل حالة الانسداد السياسي بشأن الحفاظ على التهدئة بين حماس وإسرائيل، يتوقع اندلاع معركة جديدة على نطاق واسع في القطاع الواقع تحت سيطرة الحركة الإسلامية منذ يونيو عام 2007.
لم يغب عن زكي وجواهر نصير، وهما يعيشان في منزلهما الذي تعرض للقصف في الحرب الرابعة، ذكريات الحروب التي مرت عليهما طوال الـ13 عاما الماضية.
يقضي سكان شارع البعلي أو الحي الذي بات يعرف باسم عائلة نصير يوما بعد آخر في إزالة ركام وحطام منازل مدمرة، جراء غارات جوية إسرائيلية في الرابع عشر من مايو الماضي.
وتعد الثقوب في المنازل المحيطة بمثابة نوافذ على الدمار والاضطرابات التي تشهدها أحياؤهم. وينتظر السكان بعد ظهر كل يوم وصول عمال البناء لاستكمال مهمة إزالة آثار الدمار حتى تتمكن عائلة نصير وجيرانها من إعادة البناء مرة أخرى.
يقول زكي نصير لوكالة “أسوشيتد برس”، “ليس لدينا سلام في حياتنا، نتوقع أن الحرب يمكن أن تحدث مرة أخرى في أي وقت آخر”.
فقد زكي ابن أخيه في الحرب الأولى، وفقد آخر من المنزل المجاور في حرب هذا العام، كما أن منزله لا يزال يعاني من آثار القصف خلال الحرب الثالثة. وتعد قصة نصير وجيرانه في الحرب وخسائر الحروب الأربع قصة غزة.
ومنذ عام 2008 قتل أكثر من أربعة آلاف فلسطيني في الحروب، أكثر من نصفهم من المدنيين وأصيب الآلاف، وفقا للأمم المتحدة.
وأطلقت حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى الآلاف من الصواريخ عبر الحدود خلال الحروب الأربع. وتنفذ إسرائيل باستمرار غارات جوية على القطاع لضرب أهداف تابعة للحركة الإسلامية، إلا أن ضحاياها من المدنيين.
ويصف رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت الهجمات الإسرائيلية الدورية على غزة بأنها لـ”جز العشب الجامح”، وهي استراتيجية تتبناها إسرائيل منذ سنوات في مهاجمتها للقطاع.
آمال مفقودة
تسببت الحروب الأربع في غزة بأكثر من خمسة مليارات دولار من الخسائر والأضرار التي لحقت بالمباني والطرقات وأنظمة الكهرباء والمياه، أي ما يقرب من ضعف الناتج الاقتصادي السنوي للقطاع. كما تضرر أو دمر بالكامل قرابة 250 ألف منزل. وتركت تلك الحروب، إلى جانب الحصار الخانق وتداعيات الاقتتال الداخلي بين حركتي فتح وحماس، ندوبا في غزة بطرق يصعب قياسها.
ويقول الخبير الاقتصادي عمر شعبان إن “الأمر لا يتعلق فقط بخسارة مبنى، إنك تفقد الأمل في أن تتحسن الأمور”. ويضيف شعبان، الذي يدير مؤسسة فكرية في مدينة غزة، أن “40 في المئة من السكان ولدوا تحت الحصار”.
وترجع جذور الأزمة في غزة إلى الأحداث التي وقعت قبل فترة طويلة من الاقتتال عام 2007. وأكثر من نصف السكان في قطاع غزة هم من العائلات الفلسطينية التي طردت من أراضيهم ما بعد حرب عام 1948، لكن جولات القتال المتكررة والحصار في السنوات الأخيرة جعلا الحياة في غزة أسوأ بكثير.
لم يتوان مسؤولون في الأمم المتحدة قبل تسع سنوات عن التحذير من أن “غزة قد تصبح غير صالحة للعيش بحلول عام 2020”. ومنذ ذلك الحين، عانى سكان القطاع البالغ عددهم مليوني نسمة من حرب أخرى، وسط تدهور الاقتصاد مع وجود بطالة تقترب من 50 في المئة وهي من بين أعلى المعدلات في العالم.
ويقول رامي العزة، وهو خبير اقتصادي في الأمم المتحدة، “نكتب في كل عام أن الأمور وصلت إلى الحضيض في غزة، وفي كل عام نكرر نفس الجملة لأنها في الواقع تزداد سوءا”.
ذكريات مأساوية

عمر شعبان: الأمر لا يتعلق بخسارة مبنى بل بفقدان الأمل في تحسن الأمور
تتمسك عائلة نصير وجيرانها في شارع البعلي بذكريات الحياة قبل الحرب على غزة. اعتادوا على ما يبدو على تلك الحياة المأساوية، لكنهم قاوموها حتى بعد الحرب الأخيرة. يقول زكي نصير “هذا ما لدينا، علينا أن نعيش”.
قبل خمسة عقود من الزمن نقل والد زكي عائلته إلى قطعة أرض زراعية في ما كان آنذاك قرية. اليوم تمتلئ المنطقة بالمنازل المكونة من ثلاثة وأربعة طوابق على طول شارع البعلي، في قلب تلك المسالك والشوارع الضيقة سميت المنطقة على اسم العائلة.
يقول نصير (47 عاما) متذكرا أشجار الحمضيات والدفيئات والماشية التي تملكها العائلة، “لم يكن هناك الكثير من السكان هنا مثلما هو الحال اليوم”. كان بعض إخوته من بين عشرات الآلاف من سكان غزة يعبرون يوميا إلى العمل في إسرائيل، حيث “كانت الأمور في ذلك الوقت أفضل حالا”، حسب ما يؤكد زكي.
ونشأت عائلة نصير، المكونة من 13 ابنة و12 ابنا ولدوا لزوجتين، في بيت حانون، التي يبلغ عدد سكانها اليوم 57 ألف نسمة. ويحوم بالقرب من شارع البعلي أو مربع عائلة نصير بالون مراقبة إسرائيلي دائم الحضور فوق الجدار الحدودي، في مهمة لمراقبة الجميع في تلك المنطقة.
تدهورت الحياة في بيت حانون بشكل حاد منذ الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب عام 2005. كما تعرضت المنطقة في عام 2006 بعد خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط إلى توغل بري إسرائيلي دمر طرقا وسوى البساتين الزراعية بالأرض.
كما عانت المنطقة في الأيام الأخيرة من عام 2008، عندما شنت إسرائيل هجوما عسكريا كبيرا، وسرعان ما اندلعت شرارة الحرب الأولى في شارع البعلي القريب من الحدود.
في تلك الحرب بعد حوالي أسبوعين، أعلن الجيش الإسرائيلي هدنة قصيرة. كانت خالدة نصير تحضر ما تبقى من خضراوات عندما أعلن زوجها أدهم، ابن شقيق زكي نصير، أنه سيأخذ حماره وعربته لشراء دقيق للعائلة.
تقول خالدة، وهي جالسة عند مدخل منزلها الذي سيتعين هدم جزء كبير منه، “قلنا له لا تنخدع.. لا توجد هدنة”، حيث قتل بشظية صاروخ أطلق على المكان حين هم بمساعدة امرأة لعلاج ابنتها الجريحة. وتضيف “ذهب كل شيء.. لا يمكننا تحمل المزيد من الخوف”.
مرارة الحروب
مرت سبع سنوات على حرب عام 2014، لكن كما كان متوقعا عادت الحرب مرة أخرى إلى بيت حانون. اندلعت الاحتجاجات في القدس الشرقية بعد عمليات إخلاء عائلات فلسطينية من منازلها والقيود المفروضة خلال شهر رمضان على دخول المسجد الأقصى. طالبت حماس إسرائيل بالانسحاب بحلول السادس من مساء العاشر من مايو.
قبل ساعة من المهلة النهائية لإسرائيل، كان منزل شقيق زكي نصير الأكبر، علي، مليئا مع قرب ولادة حفيده الجديد. ومع بقاء ساعتين قبل انقطاع الكهرباء عن المنطقة، أخبر ابن آخر لعلي، وهو محمد البالغ من العمر 24 عاما، والديه بأنه سيخرج لجلب الحبوب التي يبحث عنها صاحب العمل.
خارج المنطقة جر محمد عربته بجانب الحقل، الذي كان يزرعه محمد المصري، البالغ من العمر 23 عاما وعائلته. استقر الرجلان على ثمن بضعة أكياس من الحبوب، وبينما يملأ الأكياس “سمع الصاروخ قادما”، بعد لحظة انفجر داخل منطقتهما فقتل رفيق محمد ناصر وستة من أفراد أسرة المصري.
يقول محمد المصري، الذي أصيب في عينه اليمني وبطنه وساقه، “نظرت إلى اليمين واليسار ورأيت أشلاء الأطفال. لقد كنا جميعا معا قبل ثوان فقط، والآن لم يكن هناك سوى أجزاء من الأجساد من حولي”.
زعم الجيش الإسرائيلي أن الضحايا أصيبوا بصاروخ أطلقته فصائل فلسطينية بالخطأ. وأطلقت حماس وفصائل أخرى أكثر من 4300 صاروخ باتجاه المدن الإسرائيلي خلال الحرب التي استمرت 11 يوما، لكن هيومن رايتس ووتش خلصت مؤخرا إلى أن الضربة تم إطلاقها بصاروخ إسرائيلي.
الحروب الأربع في غزة تسببت بأكثر من خمسة مليارات دولار من الخسائر والأضرار التي لحقت بالمباني والطرقات وأنظمة الكهرباء والمياه
في الحرب الرابعة والأخيرة قتل أكثر من 250 فلسطينيا بينهم 129 مدنيا وفقا للأمم المتحدة. ودمر أكثر من أربعة آلاف منزل أو أصيب بأضرار بالغة، وهناك الآلاف من المنازل بحاجة إلى الإصلاح. وكانت الضربة الأخيرة الأسوأ في غزة المكتظة بالسكان، حيث دمرت الغارات الجوية عددا كبيرا من المباني السكنية الشاهقة.
ويروي زكي نصير “لو كان والدي على قيد الحياة ورأى ما حل بشارع البعلي لبكى”. أما جواهر فتقول، وهي جالسة بجانب جدار كان يحمل صورا لأطفالها وزوجها وهو يحصل على شهادته في الزراعة، إن “ذكرياتنا هنا”.
وحذر مفتشو الأمم المتحدة من أن المبنى سينهار. وتقول عائلة نصير وجيرانها إنهم سيعيدون البناء. وينام معظم سكان الشارع في شقق مستأجرة قريبة أو في منازل الأقارب ويعودون كل صباح على الرغم من تحذيرات المفتشين بعدم قضاء الوقت تحت الأنقاض.
ويقول زكي إنهم “قالوا إن الوضع ليس آمنا، وعلينا أن نخاف”. يبتسم ويطمئن الزائر بأنه إذا بدأ المنزل في الانهيار “سأرفعه حتى تتمكن من الخروج”.
ولكن حتى بعد أربع حروب في ثلاثة عشر عاما، ومع كل توقع بأن الصراع سوف يندلع مرة أخرى، فإنه لا يزال في مكانه. يقول “نحن هنا منذ شهر، وحتى الآن، لم يحدث شيء سيء”.