الحوثيون يرسّخون سلطتهم في اليمن على أنقاض البنية القبلية المتداعية

دخول القبائل في لعبة السلطة ومغرياتها سهّل اختراقها وأفقدها أدوارها التقليدية.
الجمعة 2021/08/20
وجهاء القبائل أغرتهم السلطة بوهجها وأحرقتهم بنارها

السهولة النسبية التي وجدها الحوثيون في غزوهم واستيلائهم على مناطق اليمن والسلاسة التي يديرون بها تلك المناطق إلى اليوم في ظل حالة من استسلام سكانها لأوامر الجماعة وتعاليمها الغريبة على الكثيرين منهم، يُفَسَّرَان جزئيا بحالة الفراغ التي خلّفها تراجع دور القبيلة في تلك المناطق وانغماس الشيوخ والوجهاء القبليين في لعبة السلطة ومغرياتها.

صنعاء - يُرجع الكثير من المطّلعين على الشأن اليمني جزءا هامّا من أسباب تمكّن جماعة الحوثي من بسط سيطرتها في وقت وجيز على مناطق شاسعة من الأراضي اليمنية وإخضاع سكانها لسلطتها، إلى ما لحق بالبِنية القبلية من ضرر جعلها أقرب إلى التفكّك وأفقد قبائل كبيرة لطالما كانت فاعلة في الشأن السياسي والأمني في البلاد قدرتها على الصمود والممانعة.

ويقول هؤلاء إنّ الحوثيين استكملوا ما كان قد بدأ في فترة حكم الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح من استقطاب للقبائل نحو الانغماس في الانتماءات السياسية والحزبية وانخراط شيوخها والأعضاء البارزين فيها في لعبة السلطة وما تنطوي عليه من مصالح سياسية واقتصادية وما تتيحه لبعضهم من وجاهة وسلطة يجعلان طموحاتهم تتجاوز حدود القبيلة وسلطتها الاعتبارية التقليدية.

ويضرب الدارسون مَثَل اختراق حزب التجمّع اليمني للإصلاح لقبائل يمنية كبيرة وتحويل الولاءات داخلها من قَبَلية إلى حزبية وأيديولوجية حتّى أنّ قيادات من قبائل شمال اليمن ساندت سنة 2014 الحوثيين أثناء زحفهم المتدرّج باتّجاه العاصمة صنعاء عبر محافظة عمران بسبب نقمتها على الحزب المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين وبدافع موالاتها لعلي عبدالله صالح وحزب المؤتمر الشعبي العام ومساندتها له في وجه ما اعتبرته تلك القيادات مؤامرة إخوانية للإطاحة به.

ففي تلك السنة انقسمت القوات المسلحة اليمنية عمليا وانحاز قسم منها لعلي عبدالله صالح، وانحاز قسم ثان لعلي محسن صالح الأحمر وهو القسم الذي خاض الحرب في محافظة عمران شمالي صنعاء صيف العام نفسه بقيادة العميد حميد القشيبي وكان لمقتله وهزيمة اللواء 310 مدرّع الذي كان يقوده أسوأ الأثر حيث فتح الباب عمليا أمام الحوثيين لغزو العاصمة والتمدّد نحو وسط البلاد وغربها وجنوبها.

تمزيق النسيج القبلي

عادل دشيلة: الحوثيون سيطروا على القبائل عبر التلاعب بأطرها التقليدية

كان شيخ قبيلة حاشد صادق الأحمر قد ساند في سنة 2011 الانتفاضة الشعبية ضد حكم الرئيس صالح ووجه نداء لشيوخ قبائل اليمن دعاهم فيه إلى “تحمل مسؤوليتهم التاريخية” والوقوف إلى جانب المحتجين المطالبين آنذاك بتنحي صالح، وهو ما استجاب له وجهاء من قبيلة بكيل معلنين انضمامهم لـ”الثورة”.

يبدو الحوثيون في استفادتهم من تراجع دور القبائل اليمنية وتأثيرها بصدد توظيف ظاهرة ترسّخت عبر السنين ويصفها الإعلامي اللبناني خيرالله خيرالله بأنّها “تلاشي دور القبيلة تدريجا” قائلا في مقال بمناسبة وفاة الشيخ سنان أبولحوم أبرز مشايخ بكيل في يناير 2021 “شيئا فشيئا انتقل المجتمع اليمني خصوصا في الشمال من مجتمع تتحكم به القبيلة إلى مجتمع منقسم أيديولوجيا كما عليه الحال الآن بين الإخوان المسلمين الذين استطاعوا السيطرة على حزب التجمّع اليمني للإصلاح من جهة والحوثيين الذين تزداد سيطرة إيران عليهم بما في ذلك مذهبيا، من جهة أخرى”.

ويشير إلى دور علي عبدالله صالح في تكريس هذه الظاهرة بـ”طريقته الخاصة في التعاطي مع القبائل. فبدل الصدام المباشر لجأ إلى ربطها بمصالح تجارية وما شابه ذلك. وحتّى إلى إفسادها. وكان يعرف تماما مدى قابلية القبائل لدخول لعبة الفساد”. ويرصد خيرالله بروز “يمن جديد يبحث عن صيغة جديدة. من أبرز ما في هذا اليمن الجديد انفراط التركيبة القبلية للمجتمع بحسناتها وسيئاتها”، مضيفا “كان الشيخ القبلي الحكَمَ بين الناس. ولم يعد في اليمن من يمارس دور الحكَم. لا وجود سوى للفراغ، وهو فراغ على كلّ المستويات يشغله الحوثيون في الشمال والإخوان المسلمون في أماكن أخرى”.

ويصف الباحث اليمني عادل دشيلة ما أصاب النسيج الاجتماعي القبلي في شمال اليمن بالتمزّق. ويقول في بحث له منشور في موقع معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تحت عنوان “الامتثال القسري: الحوثيون وقبائل شمال اليمن”، إن قيادة الحوثيين بذلت جهودا كبيرة للسيطرة على القبائل والتلاعب بأطرها التقليدية بغية فرض السيطرة عليها. ونتيجة لذلك هناك مجموعات من القبائل الشمالية في اليمن التي تقاتل حاليا في ضمن صفوف الحوثيين.

هم وأموالهم وأبناؤهم للحوثيين
هم وأموالهم وأبناؤهم للحوثيين

وبعد مسار طويل من التلاعب السياسي بالقبائل أصبحت حركة الحوثي تسيطر على قيادات العديد منها مثل قبائل سفيان وحاشد وبكيل وخولان وريمة. وفي مظهر على النجاح الكبير في اختراق القبائل شكل الحوثيون قيادات قبلية جديدة وأصبحوا بفعل ذلك متحكمين بالمشهد القبلي.

ولضمان استدامة استفادتهم من القبائل وتوظيف مقدّراتها لمصلحتهم شرعوا في خلخلة المنظومة القبلية التقليدية بشقيها السياسي الذي كان منخرطا في الدولة والتقليدي الذي كان مسيطرا على الوضع القبلي من خلال تعيين مشرفين من أبناء الطبقة الهاشمية في مؤسسات الدولة وكذلك على المناطق القبلية فأصبح المشرف الحوثي الهاشمي هو المسؤول الأول وسلطته أقوى من سلطة القبيلة والمؤسسات الحكومية.

وكما استفاد الحوثيون من مقدّرات الدولة وعلى رأسها القوات المسلّحة التي وضعها علي عبدالله صالح تحت تصرّفهم نكاية في خصومه الذين عملوا على الإطاحة به، فقد ورثوا إلى جانب ذلك الولاءات القبلية التي كان الرئيس السابق قد تمكنّ من تشكيلها خلال فترة حكمه الطويلة باستخدام مغريات السلطة عبر تقريب هذا الطرف القبلي أو ذلك وتمكينه من بعض المكاسب والامتيازات المادية والمعنوية.

ويلفت دشيلة إلى أنّ طبيعة العلاقة بين صالح والحوثيين كانت مرحلية وليست استراتيجية حيث كان صالح يريد استخدام الحركة الحوثية لتصفية حساباته السياسية مع القوى المعارضة لنظامه بشقيها الحزبي والقبلي، ولذلك أوعز للقبائل الموالية له بأن تساعد الجماعة الحوثية وألا تقف في وجهها خاصة خلال اقتحامها لمحافظتي عمران وصنعاء، وفعلا ساعدت بعض القبائل الموالية لصالح الحوثيين حتى تم إسقاط العاصمة.

ولإضعاف الدور السياسي للقبائل لجأ الحوثيون إلى عدّة أساليب من بينها تنصيب شيوخ قبائل خارج اللوائح والنظم القبلية المتعارف عليها والتي تفرض تنصيب شيخ القبيلة بالإجماع كما كان يحصل في حاشد وبكيل وباقي القبائل اليمنية، ثم قاموا بعد استيلائهم على صنعاء بمنح امتيازات اقتصادية للمشايخ الجدد الذين نصّبوهم على القبائل في المديريات والقرى ومنحوا لهؤلاء الشيوخ اتّخاذ قرار ممارسة القمع ضد كل من يعارض فكر الحوثي حيث يقومون بسجنه أو أخذه رهينة وفي بعض الأحيان تصفيته جسديا إذا رفض توجيهات قادة الحركة كما حصل مع وجهاء قبليين من محافظة عمران.

بين ترغيب وترهيب

Thumbnail

استخدم الحوثيون أيضا سياسة ضرب القبائل ببعضها البعض وعدم البتّ في حل القضايا القبلية حتى يجعلوا أبناء القبائل مرتبطين بالحركة الحوثية لأن حل الخلافات القبلية لا يصب في صالح الحركة. ولتنفيذ هذه الاستراتيجية، يضيف الباحث اليمني، أوكل الحوثيون قضايا القبائل إلى شخصيات قبلية محسوبة على الحركة الحوثية رغم أنّه توجد لدى تلك الشخصيات صفات القيادة القبلية الكاريزمية التي تتصف بالحنكة السياسية والفهم العميق للأعراف القبيلة التي يمكن أن تحل مختلف المشاكل عبر الحوار والتحكيم القبلي. وبهذا تمّ ضرب قدرة القبائل على التكاتف وتشكيل جبهة موحدة لمواجهة الحوثيين.

علي عبدالله صالح أورث الحوثيين جزءا من القوات المسلحة والولاءات القبلية التي كان قد تمكنّ من تشكيلها خلال فترة حكمه الطويلة

ورغم أنّ الحوثيين اتّبعوا في الكثير من الأحيان طريقة صالح الناعمة في استمالة القبائل وإغرائها بالمكاسب والامتيازات مثل مشاركة بعض أفرادها في سلطة الأمر الواقع التي يقيمونها على أجزاء واسعة من الأراضي اليمنية، فإنّهم استخدموا ما بأيديهم من فائض القوة لترهيب القبائل المتردّدة أو المشكوك في ولائها أو على الأقل ولاء البعض من أفرادها.

ففي شهر مارس الماضي أدّت مجرّد ملاسنة جرت بين مشرف من جماعة الحوثي وشيخ قبلي من محافظة عمران إلى مقتل الأخير على يد مسلّحين تابعين للجماعة. فقد اقتحم هؤلاء المسلحون منزل الشيخ محمد عسكر أبوشوارب وقتلوه بطلقة في الرأس وقاموا بإحراق جثته وذلك بعد مناوشة كلامية له مع المشرف الحوثي أبومختار خرفشة في أحد مجالس مضغ القات بالعاصمة.

وجاءت الحادثة بعد أقل من شهر على قيام الحوثيين بقتل الشيخ الموالي لجماعتهم حزام أبونشطان وثلاثة من أبنائه وشقيقته في منطقة الروضة شمال شرق صنعاء، بسبب صراع مع عناصر الجماعة حول أراض أرادوا مصادرتها من أسرته بذريعة أنّها من ممتلكات الدولة.

وكادت هذه الجريمة تؤدي إلى فتنة كبيرة بين عدد من القبائل، وذلك عندما رفعت قبائل أرحب شعار الثأر من قتلة الشيخ حزام وأفراد عائلته، متهمة قبائل بني الحارث وقبائل نهم وقبائل بني حشيش بالتواطؤ مع الحوثيين في قتل الشيخ، ومهددة إياها بالانتقام الأمر الذي استدعى تدخّل قيادات سياسية وأمنية كبيرة تنتمي إلى تلك القبائل لنزع فتيل التوتّر القبلي.

صدام مؤجّل

الحوثيون يغرون الكبير والصغير بالسلطة والقوة
الحوثيون يغرون الكبير والصغير بالسلطة والقوة

تظهر إحصائية نشرتها وسائل إعلام يمنية في وقت سابق تصفية ميليشيا الحوثي خلال عامين لأربعة وعشرين شيخا قبليا من الموالين لها وقام بعضهم بأدوار هامّة ومباشرة في مساعدة الجماعة على الاستيلاء على مناطق بشمال اليمن ودخول العاصمة صنعاء. ويقوم ذلك الرقم شاهدا على عدم استقرار العلاقة بين الحوثيين وقبائل شمال اليمن وعدم بلوغها مرتبة الثقة الكاملة والتحالف الاستراتيجي إذ تظل القبائل الواقعة ضمن مناطق سيطرة الجماعة وفقا لتصنيف الباحث دشيلة إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها عقائدي يدين بالولاء للفكر الحوثي وقدّم في سبيل ذلك تضحيات جسام خلال المعارك الحوثية المختلفة، وقسم ثانٍ مضطر إلى إرسال أبنائه للقتال في صفوف الحوثيين من أجل الحصول على بعض المكاسب من مال وسلاح وإمدادات غذائية وغيرها، وأيضا لاتّقاء اعتداءات الجماعة وتهديداتها بالخطف ومصادرة الممتلكات لمن يرفض الانصياع لأوامرها.

أما القسم الثالث فهو براغماتي يشكل فئة كبيرة من تلك القبائل ويمكن أن ينقلب على الحوثيين في أي لحظة ولا ينتظر سوى الفرصة المناسبة للتمرّد عليهم.

ويبدو أن إرهاصات لحظة الصدام المؤجّل لاحت أخيرا عندما تسرّب خبر مفاده أن حكومة الحوثيين تعتزم مصادرة أراض في المناطق القبلية القريبة من العاصمة بحجة أنها مناطق جبلية وتعود ملكيتها إلى الدولة، وهو ما رفضته قبائل طوق صنعاء مؤكّدة في بيان أنّ تلك الأراضي ملك لها ولا يحق لأي طرف الاستيلاء عليها تحت أي ذريعة. كما تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي وعيد أبناء تلك القبائل وبعض مشائخها بالتمرّد على الحوثيين في حال طبقوا قرارهم محذّرين من ثورة شعبية في مناطق الطوق ومهدّدين باستدعاء أبناء قبائلهم المتواجدين في جبهات القتال إلى جانب الحوثيين بالعودة والكف عن خوض الحرب تحت راية الجماعة في مأرب والبيضاء والجوف وغيرها من الجبهات المشتعلة في اليمن.

13