ذكرى النزوح من سايغون تخيم على كابول

ذهبت الولايات المتحدة إلى أكثر من حرب لتمحو من ذاكرتها تلك الصور المهينة يوم سقطت سايغون بأيدي الشيوعيين. مروحيات تخلي المدنيين ثم ترمى بهم من سطح حاملات الطائرات في البحر. ها هي الصور تعود لتطاردها كالأشباح، ولكن هذه المرة من كابول وعلى يد طالبان.
واشنطن - أعادت عمليات الإجلاء التي ستنفذها الولايات المتحدة للمدنيين والدبلوماسيين من العاصمة الأفغانية كابول مشهد السقوط المهين للعاصمة السابقة لجمهورية فيتنام الجنوبية سايغون عام 1975.
وعلى الرغم من محاولة الرئيس الأميركي جو بايدن التقليل من إمكانية المقارنة بين الانسحاب من أفغانستان والنهاية البائسة للحرب في فيتنام، إلا أن مشهد إرسال الآلاف من الجنود الأميركيين لإجلاء الموظفين والدبلوماسيين من سفارة واشنطن في كابول، بالإضافة إلى إجلاء المتعاونين الأفغان، لم تمنع من المقارنة مع ما حدث في فيتنام قبل نحو 46 عاما.
وتعيش أفغانستان على وقع تقدم عسكري كبير لحركة طالبان بعد سيطرتها على ولايات أفغانية رئيسية والتقدم المتسارع نحو العاصمة كابول، التي باتت تبعد عنها نحو 50 كيلومترا فقط بعد سيطرتها الجمعة على مدينة بولي علم عاصمة ولاية لوغار وسط البلاد.
ومع إعلان وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” الخميس إرسال جنود مجددا إلى أفغانستان، انتشرت الصورة التي خلدت في الولايات المتحدة الهزيمة الأميركية في فيتنام ويظهر فيها لاجئون يستقلون مروحية على سطح أحد المباني.
وتقول الإدارة الأميركية إن “تسارع الهجمات العسكرية لطالبان وتصاعد العنف وعدم الاستقرار الناتج عن ذلك في كل أنحاء أفغانستان” دفع واشنطن إلى “تقليص وجودها الدبلوماسي في كابول بشكل أكبر في ضوء التطورات الأمنية”، حسب ما أكد الناطق باسم وزارة الخارجية نيد برايس. وأوضح برايس أن إرسال الجنود الأميركيين إلى كابول “ليس إعادة التزام عسكري في النزاع في أفغانستان”.
وستنشر الولايات المتحدة لتحقيق هذا الهدف ثلاثة آلاف جندي في مطار كابول، وألفا آخرين في قطر للدعم التقني واللوجستي، بينما سيتمركز بين 3500 و4000 جندي في الكويت لمواجهة أيّ تدهور للوضع في المنطقة.
ووجه زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأميركي ميتش ماكونيل انتقادات لاذعة لسياسة الإدارة الديمقراطية للرئيس جو بايدن. وقال ماكونيل في بيان إن “أفغانستان تتّجه نحو كارثة هائلة ومتوقّعة كان يمكن تفاديها”، معتبرا أن “المحاولات غير الواقعية للإدارة للدفاع عن السياسات الخطرة التي يتبعها الرئيس بايدن مهينة”.
ووجّهت طوال الأشهر الأخيرة انتقادات لإدارة الرئيس بايدن بعد قراره الانسحاب السريع من أفغانستان، وسط مخاوف من عودة شبح تنظيمي القاعدة وداعش والتهديدات المباشرة لأمن دول الجوار الأفغاني، بالإضافة إلى وجود مخاوف من السيطرة الكاملة لحركة طالبان على مقاليد السلطة في أفغانستان.
رفض المقارنة
يقول زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ إن “قرارات الرئيس بايدن تدفعنا إلى نتيجة أسوأ حتى من السقوط المهين لسايغون في 1975” في نهاية حرب فيتنام.
وعملت إدارة بايدن على بذل جهودا كبيرة لتجنب أيّ مقارنة مع حرب فيتنام منذ الإعلان في منتصف أبريل الماضي عن الانسحاب الكامل للقوات الأجنبية من أفغانستان بحلول الحادي عشر من سبتمبر.
وكان بايدن قد أكد مؤخرا أن إمكانية المقارنة معدومة بين الرحيل من أفغانستان والنهاية البائسة للحرب في فيتنام. وأضاف “لن يكون هناك من يجب إجلاؤه جوا من على سطح سفارة أميركية في أفغانستان. لا تمكن المقارنة على الإطلاق”.
كما قال رئيس الأركان الأميركي الجنرال مارك مايلي بعد يومين من تصريحات بايدن “قد أكون مخطئا. لا يمكننا التنبؤ بالمستقبل لكنني لا أرى سايغون 1975 في أفغانستان”. وأضاف حينها أن مقاتلي “طالبان ليسوا جيش فيتنام الشمالية”.
ورفض المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية جون كيربي، بعد تلقي أسئلة الخميس حول المهمة العسكرية الأميركية الجديدة في كابول، اعتبارها “عملية إجلاء لغير المقاتلين”، يرمز إليها بـ”إن أو أي” في المصطلحات العسكرية الأميركية. وأكد أن هذه العملية لا اسم لها وتجنب الحديث عن إجلاء.
وأشهر مهمة من هذا النوع كانت عملية “الرياح المتكررة” التي تم في إطارها إجلاء أكثر من 7000 آلاف مدني فيتنامي من سايغون في التاسع والعشرين والثلاثين من أبريل 1975 بمروحيات.
وردا على سؤال عن الصورة التي سيعكسها رحيل الدبلوماسيين الأميركيين تحت الحماية العسكرية والمقارنة الحتمية مع سقوط سايغون، حاول كيربي التأكيد على الخلافات مع فيتنام في 1975.
وقال “نحن لا نخذل القوات الأفغانية. نحن لا ننهي وجودنا الدبلوماسي على الأرض بالكامل. لا أحد يتخلى عن أفغانستان”. وأضاف أن ذلك “ليس تخليا عنهم بل القيام بما يجب لحماية أنفسنا”.
وواصلت حركة طالبان تقدّمها الجمعة في أفغانستان في الوقت الذي قررت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا إجلاء رعاياهما ودبلوماسييهما بسرعة في مواجهة الخطر الذي يهدد العاصمة كابول.
وأعلنت بريطانيا أنها سترسل 600 عسكري لمساعدة الرعايا البريطانيين على مغادرة الأراضي الأفغانية. وسيطر المتمردون الجمعة على لشكركاه عاصمة ولاية هلمند في جنوب البلاد بعد ساعات قليلة على سقوط قندهار ثاني مدن البلاد على بعد 150 كيلومترا إلى الشرق منها.
وكتبت صحيفة “ذا تلغراف” البريطانية في مايو الماضي أن المملكة المتحدة تستعد لإجلاء المئات من موظفي سفارتها مع عائلاتهم في كابول رغبة في ألا تتكرّر مأساة سقوط سايغون في 1975 التي أدت إلى عمليات إجلاء فوضوية بمروحية.
تقدم طالبان
سيطرت حركة طالبان من دون أن تواجه مقاومة الجمعة على شغشران عاصمة ولاية غور في الوسط. وقد صارت عواصم نصف الولايات تقريبا تحت سلطتها بعدما سقطت كلها خلال ثمانية أيام.
وأصبح الجزء الأكبر من شمال البلاد وغربها وجنوبها تحت سيطرة مقاتلي الحركة. وكابول ومزار شريف كبرى مدن الشمال، وجلال أباد (شرق) هي المدن الكبرى الثلاث الوحيدة التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة.
وبدأت حركة طالبان هجومها في مايو الماضي عندما أكد الرئيس الأميركي رحيل آخر القوات الأجنبية من البلاد بعد عشرين عاما من تدخلها للإطاحة بطالبان من السلطة في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. ويفترض أن ينتهي هذا الانسحاب بحلول الحادي والثلاثين من أغسطس الجاري.
ومنذ ذلك الحين، أكد بايدن أنه ليس نادما على قراره على الرغم من السرعة التي تفكك بها الجيش الأفغاني في مواجهة تقدم طالبان الذي فاجأ الأميركيين وخيب أملهم بعدما أنفقوا أكثر من ألف مليار دولار خلال عشرين عاما لتدريبه وتجهيزه.
وأدى تقدم طالبان إلى خسائر بشرية كبيرة. فقد قتل 183 مدنيا على الأقل، بينهم أطفال في شهر واحد في لشكركاه وقندهار وهرات وقندوز حسب أرقام الأمم المتحدة التي تشير أيضا إلى أن نحو 390 ألف شخص نزحوا بسبب النزاع منذ بداية العام. وتسارع نزوح السكان في الأسابيع الأخيرة مع فرار المدنيين من المناطق التي احتلتها طالبان.
وتوافد العديد من المدنيين في الأيام الأخيرة على كابول التي باتت مهددة بأزمة إنسانية خطيرة أيضا. ويحاول هؤلاء البقاء على قيد الحياة في حدائق أو أماكن خالية، في حالة شديدة من البؤس.
وتحولت الهزائم إلى وقود للقلق والمخاوف من سقوط حكومة كابول على أيدي المتمردين في الوقت الذي تضع فيه القوات الدولية اللمسات الأخيرة على عملية الانسحاب بعد حرب دامت 20 عاما. ويقول تومسون فيري من برنامج الأغذية العالمي «الموقف يحمل كل السمات المميزة لكارثة إنسانية»، مضيفا أن البرنامج يشعر بالقلق من حدوث «موجة جوع كبرى».