قطريون يكتشفون مع أول انتخابات لمجلس الشورى أنهم مواطنون من درجة ثانية

قطر وهي تسعى لتمكين مجتمعها من جرعة محدودة من “الديمقراطية” حتّمتها ضرورات تلميع الصورة وتحسين السمعة لدى المجتمع الدولي، قفزت على أهم مقوّم لحداثة الدول وديمقراطيتها وهو حقوق المُواطَنة الكاملة والمتساوية من دون فوارق وتصنيفات كتلك التي اعتمدت في القانون الانتخابي القطري وتضمنت تمييزا ضدّ أبناء قبيلة آل مرّة.
الدوحة - لم يُبق قانون انتخابات مجلس الشورى الذي أصدره أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني آخر شهر يوليو الماضي مجالا للشكّ في اعتبار أبناء قبيلة آل مرّة الذين يشكّلون قسما كبيرا من المجتمع القطري مواطنين من درجة ثانية.
فقد تمّ بموجب ذلك القانون توزيع الحق في الترشّح والانتخاب على ثلاث فئات يحقّ لإحداها ممارسة الأَمْرَين معا نظرا لكونها حاملة لجنسية قطرية “أصلية” يعود اكتسابها إلى ما قبل سنة 1930، ويحقّ للثانية الانتخاب دون الترشّح كون أفرادها من المجنسين المولودين في قطر وجدّ كل منهم حاصل على الجنسية القطرية، أما فئة المجنّسين حديثا فلا يحق لهم لا الترشّح ولا الانتخاب.
ووجدت القبيلة التي تذهب بعض التقديرات إلى أنّ عدد أفرادها يتجاوز الأربعين في المئة من حَمَلة الجنسية القطرية أنّ مواصفات الفئة الثانية من التصنيف تنطبق عليها، إن لم تكن أصلا قد صمّمت لإقصائها ومنعها من ممارسة دور ولو محدود في عملية اتّخاذ القرار عبر إغلاق الطريق أمامها للوصول إلى مجلس الشورى الذي سيتمّ انتخاب ثلثي أعضائه (30 عضوا) آخر شهر أكتوبر القادم على أن يتمّ تعيين الثلث الباقي (15 عضوا) من قبل أمير البلاد.
ورأت نخب من قبيلة آل مرةّ في التصنيف الذي تضمّنه قانون انتخابات مجلس الشورى نقلة نوعية في محاولات قديمة لإقصاء القبيلة ودفع أبنائها إلى مغادرة البلاد كانت قد بدأت قبل عقود بدافع رغبة لدى الطبقة الحاكمة في إحداث نوع من التوازن القبلي في قطر، لكن تلك الرغبة تعزّزت بعد منتصف تسعينات القرن الماضي بدافع سياسي وهو اعتراض عدد من شيوخ آل مرّة على الانقلاب الذي نفّذه أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني على والده الشيخ خليفة جدّ الأمير الحالي الشيخ تميم.
إقصاء مقنّن
منذ تلك الفترة تعرّض أبناء قبيلة آل مرّة ومن ضمنهم أبناء فخذ الغفران التابع للقبيلة لتضييقات وصلت حدّ ممارسة العقاب الجماعي ضدّهم بسحب جنسية أعداد كبيرة منهم بدعوى أنّهم حاملون لجنسية بلد آخر.
ويثير مقرّبون من السلطة القطرية ومدافعون عن مواقفها شبهة أن أفراد قبيلة آل مرّة ومن ضمنها فخذ الغفران المتواجدون في قطر غير قطريين وأنّهم وافدون إلى البلد وذلك بالاعتماد على أنّ القبيلة موزّعة على أكثر من قُطر ومنطقة في شبه الجزيرة العربية، وهي حجّة يردّ عليها حقوقيون وقانونيون بأن الأصول المناطقية وحتّى العرقية لا تُؤخذ بعين الاعتبار في تحديد منزلة مواطني أي بلد وضبط ما يجب أن يتمتّعوا به من حقوق وأن يضطلعوا به من واجبات باعتبارهم مواطنين فقط ما داموا حاملين للجنسية ودون أي اعتبارات أخرى، علما أنّ المجنّس في قوانين كل دول العالم هو من غيّر جنسيته واكتسب جنسية بلد آخر. أما أبناؤه وجميع من يتحدّرون منه فلا يعتبرون مجنّسين.
أما قانون الجنسية القطري الذي يعود إقراره إلى سنة 2005 “فلا نظير له في العالم”، بحسب وصف الأكاديمي القطري نايف بن نهار “فالمتجنس في دول العالم هو من كان يحمل جنسية ثم استبدلها بجنسية أخرى، أما ابنه الذي ولد بعد ذلك فلا يكون مجنسا لأنه لم يحمل جنسية ثم تخلّى عنها، لكن القانون القطري يجعل الشخص متجنسا هو وأولاده وأبناء أبنائه إلى يوم القيامة”.
ويسوق منتقدو المنظور القطري لقضيّة المواطنَة أمثلة كثيرة عن مسؤولين كبار يحتلّون مواقع حساسة في عدّة دول بينما توجد الكثير من الدلائل على أنّ أصولهم القريبة ليست من تلك الدول، حتى أن رؤساء دول ووزراء في بلدان أميركا اللاتينية كانوا يحملون أسماء عربية، بينما لا يكاد يشك من يرى صورة أو مشهدا لوزير الدفاع الكندي هارجيت ساجان لأول مرّة عبر وسائل الإعلام في أنّه مسؤول هندي وأنّ الأمر يتعلّق بخطأ في إدراج الصورة وذلك لملامحه الهندية البارزة وظهوره بزيه التقليدي في المناسبات الرسمية، فضلا عن كونه مولودا في الهند مطلع سبعينات القرن الماضي ولم تطأ قدماه أرض كندا إلا أواسط عقد الثمانينات.
قانون جنسية قطري معيب ينفرد عن سائر قوانين الجنسية في العالم بأن يجعل أبناء المتجنّس وأحفاده متجنّسين إلى ما لانهاية
ورغم صرامة السلطات القطرية في لجم أي صوت ناقد أو معارض فقد كانت صدمة قبيلة آل مرّة من القانون الانتخابي قوية ما جعل شخصيات بارزة في القبيلة تجاهر برفضها له وتجرّ وراءها احتجاجات نادرة من قبل أبناء القبيلة الذين تجمهرت أعداد منهم في قرية أم الزبار شرقي العاصمة القطرية الدوحة مطالبين بحقهم في المطالبة بالمُوَاطنة الأصلية المتساوية مع سائر المواطنين وتمكينهم من وثائق الجنسية وإطلاق سراح معتقلي الرأي من أبناء قبيلتهم.
وقاد الاحتجاجات المحامي والخبير القانوني هزاع بن علي المري الذي تمّ توقيفه لاحقا وتوجيه تهمة الإساءة إلى الذات الأميرية بسبب مخاطبته أمير قطر في مقطع فيديو بُثّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي وقال فيه “أناشدك أن تنجد نفسك وشعبك من فتنة عظيمة. لن نعيش كالأنعام نأكل ونشرب وأمرنا بيد غيرنا. وسنطالب بحقوقنا حتى لو كتب الموت لنا في السجون”.
وأطلق نشطاء من القبيلة هاشتاغ على تويتر يشير عنوانه إلى أنّ آل مرّة موجودون في قطر قبل حكومتها.
رجّة قَبَلية

بلغت أصداء هذا التململ والاحتجاج القويين أسرة آل ثاني الحاكمة التي ردّت على لسان الشيخة مريم آل ثاني بتغريدات عبر تويتر قالت فيها متوجّهة بالخطاب للمحامي المرّي “معركتك القانونية تكسبها بالقانون. والقانون له أبوابه. ونحن لسنا في غابة”. وأضافت “قبل القانون هناك حق عام يجب ألا تتجاوزه وهو أن تتحدث للعامة بأدب وأن تتحدث مع رأس الدولة وحماة وطنها بأدب”.
أمّا رئيس الوزراء وزير الخارجية الأسبق الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني فندّد عبر تويتر بما سمّاه محاولات زعزعة الاستقرار في قطر وتحويل نقاش عام حول ملاحظات بشأن قانون الانتخاب وشحن الأجواء بين أبناء الشعب.
وانهالت الردود على الشيخ حمد عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مذكّرة إيّاه بأنّه كان لدى اندلاع اضطرابات ما يعرف بالربيع العربي من أكثر المحمّسين لها والمدافعين عنها حتى في أقرب الدول إلى بلاده مملكة البحرين التي عانت مطلع العشرية الماضية من تلك الاضطرابات التي حرّض عليها الإعلام القطري بشدّة وسوّقها لحركة لدَمَقْرطة العالم العربي.
ولتطويق احتجاجات قبيلة آل مرّة تحرّكت وزارة الداخلية القطرية للجم حالة التململ، معلنة إحالة سبعة أشخاص من أبناء القبيلة المحتجين إلى النيابة العامّة بتهمة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في “نشر أخبار غير صحيحة وإثارة النعرات العنصرية والقبلية”.
الأصول المناطقية والعرقية لا يجب أن تتخذ وسيلة لتصنيف مواطني أي بلد وتحديد حقوقهم وواجباتهم
ورأت جهات حقوقية في تلك الإجراءات إيذانا باستئناف حملة القمع والعقاب الجماعي التي سبق أن شنتها ضد قبيلة آل مرّة وتحديدا عشيرة الغفران التي سحبت السلطات القطرية الجنسية من أعداد كبيرة من أبنائها وقطعت رواتبهم ومنعت الجمعيات الخيرية وصندوق الزكاة القطري الممول من التبرعات من تقديم المساعدات لهم، بعد أن ادّعت حملهم للجنسية السعودية وهو ما ينفيه أبناء العشيرة المذكورة بشدّة.
وكان اضطهاد نظام الدوحة للعشيرة قد تجدّد قبل نحو أربع سنوات عندما تفجّرت الأزمة الخليجية التي أدت إلى قطع علاقات قطر مع عدد من دول الخليج ومصر حيث لمست الدوحة آنذاك ملامح معارضة داخل قبيلة آل مرّة للسياسات القطرية تجاه بلدان الإقليم.
وعشيرة الغفران هي أحد الفروع الأساسية لقبيلة آل مرة وهي من القبائل الكبرى. وسنة 2018 قامت السلطات القطرية بإسقاط الجنسية عن طالب بن لاهوم بن شريم المري شيخ عشيرة آل مرة و50 من أفراد أسرته وقبيلته ومصادرة أموالهم. ويقول وجهاء الغفران إن أسباب اضطهاد السلطات القطرية لهم تعود إلى عقد التسعينات من القرن الماضي حين سيطر الشيخ حمد على الحكم بعد انقلاب على والده. وأيد عدد من أبناء الغفران الأب في مساعيه لاسترداد الحكم دون جدوى، ما أدى إلى أن اتهمت السلطات، كما يقول وجهاء الغفران، عشيرتهم بالتحريض والتخطيط لمحاولة الانقلاب على الحكم الجديد آنذاك.
كسر حاجز التعتيم

رغم التوقّعات بأن تنجح السلطات القطرية سريعا في إخماد حراك قبيلة آل مرّة بعدّة طرق، إلاّ أنّ مراقبين يعتبرون أنّ الحراك نجح فعلا في إعادة تسليط الأضواء على قضية هذه الفئة من المجتمع القطري في اللحظة المناسبة حيث لم يعد بإمكان السلطات القطرية تطبيق أسلوبها في التعتيم الكامل على ما يجري داخل البلاد بسبب تسلّط الأضواء الدولية عليها بالمناسبة الانتخابية الاستثنائية التي تستعد لتنظيمها وأيضا مع الاقتراب النسبي لموعد تنظيم نهائيات كأس العالم في كرة القدم.
ومع الضجّة المثارة حول قضية إقصاء قبيلة آل مرّة من حق الترشّح للانتخابات تبدو قطر بصدد الحصول على نتائج عكسية تماما مما كانت ترجوه من تحديد موعد المناسبة في هذه الفترة بالذات، حيث كان الهدف المنشود هو إضفاء مسحة من الديمقراطية على الوضع المغلق في البلاد أمام مختلف أشكال المشاركة السياسية والتعبير عن الرأي في امتداد لحملة أشمل لتحسين صورة البلد وتنظيف سمعته مما علق به من اضطهاد للعمال الوافدين خلال عملية بناء منشآت كأس العالم التي عانى خلالها هؤلاء العمال صنوفا من الاستغلال وواجهوا ظروفا قاسية أودت بحياة الآلاف منهم.
وقد تم تأجيل انتخابات مجلس الشورى التي نص عليها دستور العام 2004 ويبدو أنّ اختيار موعدها في أكتوبر القادم لم يكن منفصلا عن اقتراب موعد المناسبة الرياضية العالمية التي سيكون من المعيب أن يحتضنها بلد يفتقر لأي مظهر للديمقراطية وتغيب فيه الهيئات والمؤسسات المنتخبة، باستثناء المجالس البلدية.
وترى الباحثة في معهد المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية تشينزيا بيانكو أنّ في قضية قبيلة آل مرّة ما يستحقّ الاهتمام فعلا باعتبار أن هذه القبيلة الكبيرة مهدّدة بالاستبعاد من المناسبة الانتخابية النادرة في قطر، قائلة لوكالة فرانس برس “هذه قضية يواجهها القطريون منذ عقد من الزمن، بينما يقومون بتثقيف مواطنيهم حول الديمقراطية”.
وأشارت إلى السجال الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي وإلى ما يثيره البعض من شكوك في وجود تدخل خارجي لتضخيم المعارضة لأسباب سياسية، لكنّها تستدرك بالقول إنّه “لا ينبغي أن نختبئ وراء هؤلاء لتفتيت السخط الموجود في قطر”.