شرعنة الزواج الثاني لغياب الرغبة في الزوجة الأولى يحدث شقاقا مجتمعيا في مصر

جهود المؤسسات الرسمية الساعية للتقليص من محاولات الجماعات المتشددة أسلمة المجتمع على طريقتها تقابل بفتاوى تزيد من انقسام المجتمع، آخرها فتوى تشرعن زواج الرجل بامرأة أخرى إذا انعدمت رغبته في الأولى.
القاهرة - تبذل الحكومة المصرية جهودا مضنية لضبط مؤسسة الزواج وتقليل المشكلات الناجمة عن الخلافات التقليدية، وتأتي جهة إفتاء رسمية تضع حلا لعدم رغبة الرجل في زوجته بمنحه صكا وتفسيرا شرعيا للزواج من أخرى، ما يعني أن كل جهود المؤسسات الساعية لتجسير الفجوة والتقليص من محاولات الجماعات المتشددة أسلمة المجتمع على طريقتها تذهب هباء، لأن هناك من يستغلون بعض الفتاوى لصالح رغباتهم، بصرف النظر عن تداعياتها المجتمعية.
وتتجاهل هذه النوعية من الفتاوى الإسلامية الشق الثاني في المعادلة، فماذا يحدث إذا فقدت الزوجة رغبتها في زوجها أو كرهته؟ هل تخبره بذلك وتطلب الطلاق منه فورا؟ وهي زاوية يبدو أن الجهة صاحبة الفتوى لم تنتبه إليها، ما يشي بأن ليس كل فتوى يمكن الالتزام بها أو تطبيقها، فالتنقيح والتروّي والتمهل من القوام الرئيس في المجتمع.
لكن هذا السؤال المحرج لم يطرح صراحة، مع أنه يعتمل في نفوس الكثيرات بما يؤدي إلى المزيد من المشكلات في المجتمع، وقد يتحول الخلاف العابر إلى أزمة، لأن الفتوى لم تراع ظروف المجتمع المصري ونواميسه وتغافلت عن روافدها المثيرة، فلم يعد “مجتمع سي السيد” كما صوره الأديب الراحل نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة: بين القصرين، قصر الشوق والسكرية.
إذاً المسألة غير مرتبطة بإباحة الزواج من ثانية، حسب الشريعة الإسلامية، بقدر ما أصبحت تثير مشكلات عديدة في بيئة يعاني فيها الشباب والفتيات أصلا من فقر وصعوبة إتمام الزواج نتيجة الندرة الاقتصادية لدى شريحة كبيرة منهم.
كان من المفترض حض الشباب على المودة والرحمة والتفاهم بدل الدفع بهم نحو الارتباط بأخرى، فضلا عن التدقيق في الاختيار والحرص على أن تكون هناك جملة من الأطر المشتركة بين الزوجين كي لا يتم تقديم حلول غير منتجة بل مؤذية للطرفين، وتتفاقم القضية عندما يكون الزواج الأول قد نجم عنه أطفال أبرياء.
استنكار وتذمر
استقبلت سماح محمد، وهي زوجة مصرية تعيش في حي شعبي بالقاهرة، فتوى دار الإفتاء التي منحت قبل أيام الحق للرجل في الزواج من امرأة ثانية إذا تراجعت رغبته في الأولى باستنكار وتذمر، لأن حياتها الزوجية متقلبة وكثيرا ما يبلغها زوجها بأنه يفكر في الزواج عليها انتقاما منها، فلم يعد يرغب في العيش معها وما يربطه بها هم الأبناء فقط.
تعتقد الزوجة، وهي مُعلمة في إحدى المدارس المتوسطة، أن التحريض الديني للرجال على الزواج من امرأة ثانية يكرس الشقاق بين شركاء الحياة، ويحمل دعوة صريحة إلى تعدد الزوجات بذريعة حق الرجل في الاستمتاع وإشباع شهواته، والبحث عن راحة البال بعيدا عن الأضرار النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تترتب عن الزواج الثاني، وكيف يمكن أن يتسبب في انهيار الكثير من الأسر، وبالتالي زيادة نسبة الضرر الواقعة على المجتمع كله.
وقالت سماح لـ”العرب” إن تدخل رجال الدين في حياة الأزواج تسبب في الكثير من الأزمات، والمعضلة أن فتوى مثل الحث على الزواج الثاني لمجرد تراجع الرغبة في الزوجة الأولى جاءت عامة وبلا ضوابط محكمة وتستهدف كل الرجال ومن دون مراعاة لخصوصية المستفتى والمشكلة التي يعاني منها مع زوجته، ما قد يستثمره الكثير من الأزواج في التعدد بذريعة الحصول على موافقة دينية.
وتعاني بعض المجتمعات العربية من إسراف في الفتاوى الدينية وقلة الاكتراث بانعكاساتها على المجتمع وما يمكن أن تحدثه من أزمات، فالمفتي هنا يتصور أنه يطبق تعاليم الشريعة التي أباحت التعدد في الزواج ولا يقترب من الضوابط اللازمة لذلك، والتي إذا جرى إمعان النظر فيها وفقا لمقتضيات المجتمع يمكن أن تهدم الفكرة.
وما يثير حفيظة الكثير من الزوجات أن دار الإفتاء المصرية عندما تعرضت إلى سؤال مماثل من إحدى النساء حول تصرف المرأة التي تنعدم رغبتها في زوجها، جاء الرد بأنها لا يجوز لها طلب الطلاق إلا إذا وقع عليها ضرر بالغ، أما دون ذلك فلا يحق لها الانفصال عن الزوج، ما أوحى للكثيرين بأن جهة الفتوى تكيل بمكيالين، فهي تنصف الرجل وتكرس قهر الزوجة، وهذه واحدة من المشكلات التي تحدث فتنة في المجتمع وتفاقم من الحساسيات بين عدد ليس هينا من مكوناته.
صدام مع المجتمع
تتناقض فتوى التحريض على تعدد الزوجات بشكل كلي مع توجهات الحكومة للقضاء على ظاهرة “مثنى وثلاث ورباع”، حيث شرعت في إقرار قانون يمنع الرجل من الزواج الثاني إلا إذا حصل على موافقة كتابية من زوجته الأولى كنوع من الاعتراف بمكانتها قبل أن تنخدع وتعرف بالصدفة بأنها زوجة ثانية أو تكون رافضة لهذا الوضع ويتم فرضه عليها في غيابها.
وطورت الحكومة المصرية منظومتها الإلكترونية ويصعب الآن تمرير الزواج الثاني الموثق بدون علم الأسرة، فكل المعلومات تصب في بوتقة واحدة، وأحدث ذلك مفارقات كثيرة في المجتمع، منها شاب مصري ذهب للحصول على إعفاء نهائي من التجنيد في الجيش باعتباره وحيد والديه من الذكور، حيث يعفى الوحيد من التجنيد، وإذا بالكشف عن هويته المجتمعية في السجلات الرسمية يجد أن له أخا ثانيا من امرأة ثانية تزوجها والده بدون علم أمه، ما فرض عليه أداء الخدمة العسكرية إلزاميا.
وترى الحكومة أن تحجيم التعددية الزوجية يقود إلى الاستقرار الأسري في ظل استسهال البعض من الرجال الزواج من ثانية وثالثة بدعوى أن الشرع يبيح ذلك، ولا يبالون بأن التعدد مشروط بالقدرة الاقتصادية والعدل بين الزوجات والأبناء، وهو ما يفشل الكثير من الرجال في تحقيقه، فدائما ما تتعرض الزوجة الأولى للظلم والإهمال.
وما يثير امتعاض منظمات نسوية أبدت اعتراضها على فتوى التعدد، أن دار الإفتاء أباحت الزواج الثاني للرجل الذي يفقد الرغبة في الزوجة الأولى من غير مراعاة اعتبارات كثيرة، أهمها أن تراجع رغبة الزوج في شريكة حياته قد يكون لأسباب نفسية خاصة به، أو أن أفعاله وتصرفاته السيئة قادت العلاقة بينهما إلى مربع متدهور من الجمود العاطفي.
فتوى التحريض على تعدد الزوجات تتناقض بشكل كلي مع توجهات الحكومة للقضاء على ظاهرة «مثنى وثلاث ورباع»
وإذا كانت المرأة هي السبب فليس مطلوبا من جهة الفتوى أن تبيح التعدد لإرضاء نزوات الرجل جنسيا وعاطفيا على حساب شريكة حياته، كما أن التحريض على الزواج الثاني لتراجع الرغبة في الأولى يعني أن الاهتمام كله سيكون موجها إلى الزوجة الثانية كعقوبة للأولى، لأنها كانت سببا في أن تغضب زوجها إلى هذا الحد، ما يفضي إلى طلاق الأولى، الأمر الذي يقود إلى مشكلات متعددة تصطحب معها أزمات أكبر.
والمعضلة أنه عندما أبيح الزواج الثاني من جانب جهة الفتوى لم يتم التطرق إلى خلفيات المشكلات القائمة بين الزوجين التي تتسبب في وصول العلاقة بينهما إلى هذه المرحلة أو دعوتهما إلى عقد جلسة ودية تصالحية يتم خلالها تقريب وجهات النظر، وحثهما على التفاهم ومنحهما فرصة ثانية وثالثة قبل منح الرجل رخصة الانتقام من زوجته بأن تكون لها “ضُرّة”.
وقد تنجم الكثير من المشكلات لدى الأزواج عن أسباب نفسية أو اقتصادية، أو اختلاف في الطباع ووجهات النظر، وهو ما ترصده محاكم الأسرة بحكم دعاوى الطلاق والخلع التي يرفعها بعض الأزواج، أي أنه يمكن بسهولة ترميم العلاقة والحيلولة دون انهيارها بشكل كامل لأن الزواج الثاني ليس سهلا على الزوجة الأولى أن تتقبله، وهو ما يسفر عنه طلب الطلاق، وتتزايد الأزمات في مجتمع يشكو من ارتفاع معدل الطلاق.
وجاءت فتوى إباحة الزواج الثاني متناغمة مع قناعات لدى الكثير من أفراد المجتمع الذين يعتبرونها عقوبة للزوجة التي لا ترضي زوجها وترفض التعامل معه وفق مكانته ورمزيته في المجتمع، فأغلب الأهالي يتعاملون مع التعدد باعتباره مشروعا ومحللا للرجل مهما كانت إمكانياته المادية، ولو طلبت المرأة الطلاق لأي سبب فقد تصبح منبوذة وعاصية ويمكن وصمها بأبشع التوصيفات السائدة في المجتمع.
وقد تتخذ شريحة كبيرة من الرجال الزواج الثاني كسلاح ضد الزوجة الأولى لإرغامها على طلب الطلاق، لأنها لن تتحمل أن تكون لزوجها شريكة أخرى، وعندما تبادر هي بطلب الانفصال تخسر كل حقوقها، مثل النفقة وسكن الزوجية وقيمة المؤخر، وبذلك يرتاح الرجل من الضغوط الواقعة عليه إذا قرر من تلقاء نفسه تطليق زوجته.
تناغم وقناعات
إذا كان الزواج الثاني حقا شرعيا للرجل بالمعنى المباشر للفتوى، فتداعياته خطيرة على المرأة وأولادها، ومهما بلغت سلبيات الزوجة الأولى فالسماح للزوج بأن تكون له شريكة ثانية يمثل نوعا من الإهانة والانتقاص من شأن زوجته، وكأنه يقوم بتأديبها على تصرفاتها من دون مراعاة لمخاطر هذه الخطوة مستقبلا، خاصة لو كانت أسرتها متشددة في تطبيق الشرع بلا هوادة أو عقلانية.
وأوضحت عبير سليمان الناشطة الحقوقية في مجال المرأة والباحثة في الشؤون الأسرية أن تدخل رجال الدين في حياة الأزواج ضرره أكثر من نفعه، ولا يصح تحريض الزوج على الارتباط بامرأة ثانية لمجرد أن رغبته تراجعت تجاه الأولى، لأن ذلك يحمل إهانة بالغة لها وللمجتمع العصري المنشود، فهو ينتقص من كرامتها ويجعلها مجرد سلعة إذا فقدت قيمتها المعنوية يتم إهمالها وهذا تصرف غير إنساني.
وأضافت لـ”العرب” أن أزمة فتوى التعددية في تحويلها إلى ذريعة لأي رجل يشعر بأنه صار ممتعضا من زوجته فيقوم بتهديدها بالزواج الثاني بحكم أنه يمتلك رخصة دينية تبيح له ذلك، ولأن المجتمع المصري معروف عنه التدين فقد يتعامل البعض مع الفتوى باعتبارها دعوة جديدة لتأديب الزوجة بالزواج عليها.
وبغض النظر عن تماهي الرجال مع الفتوى والاحتماء خلفها لتبرير الزواج الثاني، فقد صار مطلوبا من جهات الفتوى الكف عن التدخل في تفاصيل المجتمع، وتقرير مصير عناصره بالطريقة التي ترضي مصدر الفتوى الذي يتحدث بقناعاته الشخصية التي لا يجب أن يفرضها على الآخرين، ومن الضروري أن يميز أفراد المجتمع بين الفتوى الصالحة والفتوى الهدامة لمكوناته وأركانه الأساسية.