خطاب بصدى الحضارة

أول إشارة نلتقطها من خلال خطاب العاهل المغربي الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لعيد العرش، أن المغرب بلد المؤسسات الحقيقية، حيث لكل حدث مقامه ومقاله وما يستحقه من تأكيد. إنه خطاب الحكمة والتبصّر والوفاء للتاريخ والجغرافيا.
عبّر الملك محمد السادس بلغة صريحة ومباشرة عن البعد الحضاري الذي ينهل من ماضٍ عريق وحاضر مزدهر ويستشرف مستقبلا وحدويا. فلم يكن تشبيه الملك للعلاقة بين البلدين، المغرب الجزائر، بالتوأم من باب البلاغة اللغوية، وإنما من باب الصدق والوضوح المعهودين في خطاب يؤكد استمرار سياسة اليد الممدودة للمملكة المغربية نحو الجزائر.
ثلاثة مصطلحات حيوية تسترعي الانتباه في خطاب الملك محمد السادس وتحفّز المواطنين في كلا البلدين على استشراف غد أفضل، بفضل هذه الإرادة القوية للعاهل المغربي بدعوته الجزائر إلى تجاوز خلافات الماضي والدفاع عن مصالح الشعبين الجارين وفتح الحدود.
ثلاثة مصطلحات كبرى نُجملها في: العراقة المتجذرة في التاريخ، الأمن الصحي الذي هو امتداد للأمن الاستراتيجي. ثم استخدامه لعبارة توأمين متكاملين.
لا يمكن للحضارات العريقة إلا أن تكون ممتثلة ومنتسبة لأصولها وجذورها حتى في أحلك الظروف. فها هو يوسف بن تاشفين يعود منتصرا من معركة الزلاقة، ليَردَ إلى مسامعه أن قبائل من الحماديين (الجزائر حاليا) تسببت في قلاقل في شرق المغرب، آنذاك، الذي كان ممتدا حتى مدينة تلمسان الحالية، في الوقت الذي يخوض فيه المسلمون حربا شرسة. يقول ابن الأثير في “الكامل في التاريخ” إنه عندما سَمِعَ مشايخ قرطبة بما جرى، ورأوا قوة القشتاليين، وضعف المسلمين، واستعانة بعض ملوكهم بالإفرنج على بعض، اجتمعوا وقالوا: هذه بلاد الأندلس لن يخلصها إلا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين. ورغم تفوق بن تاشفين قام بجبر خواطر الحماديين واستبدل حاكم تلمسان من أجل إرضائهم. نحن هنا نتحدث عن بداية القرن الثاني عشر.
الملك محمد السادس أفرد حيّزا هاما في خطاب العرش لمصطلح التوأمين المتكاملين المغرب والجزائر والجميع مدعو لالتقاط هذه الإشارة القوية لإنضاج العلاقات الثنائية الفريدة والانتقال بها نحو آفاق الثقة والتفاهم
هذه العراقة المتجذرة هي التي بدأ بها الملك محمد السادس خطابه. وهي رأسمال لامادي لن تمنحه الموارد ولا الأموال، ولن تستطيع امتلاكه دولة فاقدة لهويتها.
عن التراكمات التاريخية نتحدث هنا.
الأمن الصحي أصبح اليوم امتدادا للأمن الاستراتيجي للمغرب. جيوسياسة تأمين سلاسل التوريد والعدالة التلقيحية مفاهيم جديدة تجاوزت المفهوم التقليدي للأمن. حيث يضع الأمن الصحي العنصر البشري في صلب العملية الأمنية. وما التنويه بالقوى الأمنية والعمومية في إنجاح عملية التلقيح وتدشين مشروع السيادة الصحية عبر مختبر اللقاحات الجديد، إلا تأكيد على متانة المؤسسة الأمنية ورجالاتها المخلصين، وهي مؤسسة تضع المغرب في مرتبة جد متقدمة، ليس فقط على المستوى الإقليمي أو المحلي، بل أيضا على مستوى دول ذات إمكانيات عالية. وهذا باعتراف دولي بالمؤسسات الأمنية المغربية ودورها الإقليمي والعالمي.
حين استشعر المغرب الحيف الذي يمارس في ظل غياب عدالة تلقي اللقاح، باشر مباشرة في تدشين مختبر لصناعة اللقاحات، في خطوة تجعل الرباط اليوم عنوانا للأمن والتنمية والاستقرار السياسي، بينما تعيش دول تتوفر على موارد طبيعية كبيرة في خضم مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية عويصة وانهيار للمنظومات الصحية.
أفرد الملك محمد السادس حيّزا هاما في خطاب العرش لمصطلح التوأمين المتكاملين: المغرب والجزائر. الجميع مدعو إلى التقاط الإشارة القوية لإنضاج العلاقات الثنائية الفريدة والانتقال بها نحو آفاق الثقة والتفاهم.
هذه ليست المرة الأولى التي يمد فيها المغرب يده للجزائر على مستوى خطابات العرش. سبق للملك محمد السادس أن اقترح أواخر العام 2018 إحداث آلية للحوار الثنائي بين البلدين. واليوم يطرح في خطابه دعوة لقادة الدولتين للدفع بمسار تثبيت هذه التوأمة المتكاملة على أرض الواقع.