"الجنة تحت أقدامي".. حكاية أخرى عن أوجاع النساء

تحاول السينما الوثائقية الغوص في عمق المجتمعات لنبش قضاياها الإنسانية، وخاصة المسكوت عنها وهي حين تفعل ذلك لا تقدّم حلولا بقدر ما تسلط الضوء وتلفت النظر، ويأتي الفيلم الوثائقي اللبناني الطويل “الجنة تحد أقدامي” كواحد من تلك الأفلام التي سلطت الضوء على قضية نسائية إنسانية ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في دورته الخامسة.
توّج فيلم “الجنة تحت أقدامي” للمخرجة ساندرا ماضي بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة الأخير، وهو من إنتاج لبناني فرنسي أردني مشترك، وتدور أحداث الفيلم حول قضية إنسانية هامة تعاني منها المرأة اللبنانية المنتمية للطائفة الشيعية بشكل خاص، وتتعلق بحق حضانة الأطفال.
والمخرجة إذ تخوض في هذا الموضوع فإنها تختاره من منطلق أن قضية الحضانة بات مسكوتا عنها، رغم أنها جد كارثية ومؤلمة وظالمة لفئة كبيرة من النساء وحتى الأطفال.
قضية معقدة

الفيلم يسرد قصة أربع لبنانيات ينتمين إلى الطائفة الشيعية ويشتركن في معاناتهنّ بشدة من قانون الحضانة التعسفي
اختارت مخرجة الفيلم ساندرا ماضي، أربع سيدات لبنانيات ينتمين إلى الطائفة الشيعية ويشتركن في أنهنّ يعانين بشدة من قانون الحضانة التعسفي الذي يفرض على الأم التخلي عن طفلها الذكر في سن مبكرة جدا (عمر السنتين)، أي بعد فترة الرضاعة مباشرة أو ما بعدها بقليل.
وكانت اللبنانية عبير هاشم، وهي واحدة من المنتجين الثلاثة للفيلم قد عانت بنفسها من موضوع الطلاق ومن عدم وجود قانون للأحوال الشخصية يحكم وينصف المرأة الشيعية في بلد أقل ما يقال عنه أنه متحضر ومتطوّر مقارنه بدول الجوار، وربما تكون هاشم هي بالذات صاحبة فكرة الفيلم، لكنها ليست صاحب النصيب الأكبر من العمل، لأنه حين انطلق تصوير الفيلم كانت مشكلتها قد حلت تماما لذلك لم تعد قصتها هي الهامة، الأمر الذي دفع المخرجة للبحث عن قضايا مشابهة ومشتركة.
قامت المخرجة بالبحث عن قضايا مشابهة، لكنها التقت بسيدات عانين من قضايا متعلقة بموضوع أهم من الطلاق ألا وهو حضانة الأطفال، فالتقت بلينا التي انتقلت للعيش في ألمانيا تحديدا في مدينة ريفية صغيرة، بهدف الحصول على إقامة وجنسية ألمانية لتتمكن من خلالها من استعادة طفلها عبر لمّ الشمل، طفلها الذي سبق واختطفه زوجها، لكنها وحتى نهاية الفيلم لم تتمكّن من الحصول على الإقامة.
وتبدو شخصية لينا للمشاهد أقرب إلى الجنون منها إلى الاتزان، وربما بدت كذلك بسبب الظرف اللاإنساني الذي عاشته سابقا وتعيشه اليوم، فتبدو شخصيتها استعراضية مبالغ فيها، ولا يفوت المخرجة أن تشير ولو بطريقة عابرة مستغلة الصورة المعلقة لها ولابنها على جدار غرفتها المتواضعة وهي ترتدي الحجاب، إلى أن لينا التي أمام الكاميرا باتت اليوم سيدة حرة ومتحرّرة إلى أبعد الحدود وكأنها تقوم بردة فعل عنيفة ورافضة ومخالفة لكل تعاليم طائفتها الشيعية التي ظلمتها وحرمتها من طفلها.
أما السيدة الثالثة، فهي فاطمة حمزة التي ما زالت تعيش في لبنان في الضاحية الجنوبية من البلد، المنطقة التي عرفت على أنها مكان لتجمع الطائفة الشيعية، لكنها رغم ذلك ما زالت تخالف قانون الطائفة وتتحداها علنا فتحتفظ بطفلها معرضة نفسها للاعتقال، إنها تعيش الحياة المثالية والمشتهاة من جميع الأمهات برفقة طفلها وتظهر حين تفعل ذلك بمظهر المرأة القوية الثابتة صاحبة الحق.
أما السيدة الرابعة، فهي زينب زعيتر التي فقدت طفلها أيضا بعد طلاقها، ولكنها تبدو من أكثر نساء الفيلم خسارة، فهي لم تستطع أن تكسب أي قضية حتى الآن ولو كانت في حدود رؤية طفلها من وقت لآخر.
أسئلة عالقة

مأساة تتكرّر دون حلول في الأفق
لا يكتفي الفيلم بعرض قضايا تلك النسوة وشرح المعاناة النفسية والعائلية والاجتماعية المجحفة التي يعانين منها أثناء المطالبة بالحضانة، وخاصة في ظل قوانين طائفية جائرة، بل إنه يشكّك أيضا في مرجعية رجل الدين نفسه الذي يفرض تلك القوانين دون أي مراعاة إنسانية عادلة، وتختار المخرجة للتعبير عن ذلك شخصية عابرة في الفيلم تسأل كيف يمكن أن تكون الجنة تحت أقدام الأمهات في ظل هذا الفراق القسري الظالم، هل ستكون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أم ماذا؟
أما إخراجيا فلقد اختارت المخرجة في البداية الطريقة التقليدية لعرض فيلمها وخاصة حين استخدمت صوتها لشرح ما هو واضح، فظهر الفيلم وكأنه عمل وثائقي صالح للتلفزيون أكثر منه لشاشات السينما، الأمر الذي وضع المشاهد في حيرة، فهل يتابع الفيلم حتى نهايته أو ينسحب منه سريعا؟
لكن الاختيارات الموفقة للمدير الفني لمهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة أندرو محسن، والذي عرف بحرفيته، كانت السبب المباشر وربما الجيد لاستمرار بقاء الجمهور داخل القاعة، ليكتشف لاحقا أنه وعلى الرغم من طريقة العرض التقليدية إلاّ أن العمل يحمل في طياته هما وموضوعا إنسانيا جديدا ومختلفا، ويسلّط الضوء على قضايا مسكوت عنها في المجتمع اللبناني لم يكن للإعلام اللبناني يوما دور في إبرازها أو حتى إلقاء الضوء عليها وربما يعود السبب في ذلك إلى حساسية الموضوع ولاعتبارات سياسية وأخلاقية تتعلق بحرمانه المساس بالطائفة وقضاياها الداخلية.
ورغم أن الفيلم لا يقدّم حلولا ولا يشير إلى النهايات التي رافقت مشوار تلك الأمهات، وهو أمر قد يشكّل نقطة اختلاف معه، إلاّ أنه يحاول أن يرصد حياة تلك السيدات عن قرب سواء المتبقيات منهنّ في لبنان أو اللواتي غادرن البلد.
الفيلم يسلّط الضوء على قضايا مسكوت عنها لم يتطرّق لها الإعلام اللبناني نتيجة حساسية الموضوع ولاعتبارات سياسية وأخلاقية
ويبقى السؤال بعد مشاهدة الفيلم، هل يمكن للفيلم على الرغم من أثره النفسي على المشاهدين أن يحرّك ساكنا في تلك القضية؟ وأن يكون صورة موازية لبعض الأفلام التي استطاعت أن تغيّر في قوانين الأحوال الشخصية؟ كما حصل على سبيل المثال مع فيلم الفنانة المصرية الراحلة فاتن حمامة “أريد حلا” الذي أحلّ للمرأة الخلع من الرجل بعد الذلّ الذي كانت تعانيه لسنوات ما بين بيت الطاعة وغيره.
ولكن في ظل عدم إمكانية عرض الفيلم في لبنان ضمن صالات السينما أو حتى على الفضائيات، لأنه ما من قناة متخصّصة في لبنان يمكنها عرض الأعمال الوثائقية كما تذكر المنتجة، فالمتوقع أن الفيلم لن يحرّك ساكنا وسيقتصر دوره على عرض المشكلة لجمهور المهرجانات في حال كان محظوظا بالتواجد ضمنها وهو جمهور سلبي بطبعه.
وساندرا ماضي مخرجة وكاتبة وممثلة فلسطينية الأصل، لكنها ولدت في الأردن وتخرّجت من المعهد العالي للسينما، بدأت مشوارها الفني بمجال المسرح، حيث قدّمت 18 عملا مسرحيا، وأعمالا عديدة لمسرح الطفل وعدة أعمال تلفزيونية، شاركت في العديد من المهرجانات العربية والدولية وورش تدريب عالمية، وحصدت العديد من الجوائز كأفضل ممثلة، عملت في الإذاعة كمعدة ومقدمة برامج على الهواء مباشرة كما عملت في مجال التدريب على فنون التمثيل والارتجال في العديد من البلدان العربية والأوروبية.
وقدّمت العديد من الورشات في مجال إعداد مختصين لتربية مسرحية في المدارس والمراكز الثقافية، وأنتجت برامج تلفزيونية ووثائقية لصالح العديد من المحطات الفضائية، وهي تعمل كمخرجة أفلام تسجيلية مستقلة وفي رصيدها من الأفلام “بعيدا عن هنا”، “قمر 14”، “ذاكرة مثقوبة”، وآخرها فيلم “الجنة تحت أقدامي” الذي تصادف عرضه مع انتشار فايروس كورونا، لكن هذا الأمر لم يؤثّر على سعة انتشاره في العديد من المهرجانات العربية والدولية.