بوزيد بوعبيد.. فنان مغربي نذر فرشاته لترميم اللوحات التشكيلية التالفة

استعمال التقنيات المتطورة وحده لا يكفي، لأن أساس هذه المهنة هو المعرفة الدقيقة باللوحة المعنية، فنيا وتقنيا وتاريخيا.
الجمعة 2021/06/18
بوعبيد سبق ورمم لوحات للفنان الإسباني ماريانو بيرتوتشي

قلّة هم الرسامون العرب الذين يحترفون ترميم اللوحات التشكيلية وإصلاحها، فهي موهبة تتطلب الكثير من الدقة والصبر والاطلاع الواسع على مختلف تقنيات الرسم، بالإضافة إلى حبّ غير مشروط لهذا النوع من الإبداع. والفنان المغربي المخضرم بوزيد بوعبيد واحد من بين القلة الذين نذروا حياتهم وفرشاتهم لترميم اللوحات التشكيلية التالفة وإصلاحها.

الرباط – باستثناء المهتمين وأهل الاختصاص، قلة من الناس يعرفون خبايا فن ومهنة ترميم وإصلاح اللوحات التشكيلية، المجال الذي يشكّل فيه بوزيد بوعبيد أستاذ تاريخ الفن والحضارات والرسم القديم في المعهد الوطني للفنون الجميلة بمدينة تطوان المغربية مرجعا أساسيا له بالنظر إلى تعدّد زوايا تعاطيه مع الرسم والتشكيل وشساعة نطاق اهتماماته، الأمر الذي جعل منه موسوعة حية في المجال.

وقال بوزيد بوعبيد الذي خصّه الباحث المغربي في الآداب والفنون مخلص الصغير بكتاب حمل عنوان “بوزيد بوعبيد المتعدّد والمتفرّد، حكاية فنان تشكيلي”، أن عمل المصلح أو المرمم، على اختلاف مضمون الكلمتين من حيث ممارسة الفن/ المهنة، تكمن صعوبته في الكثير من الأشياء، منها أنه قد يتطلب وقتا طويلا يمتد لسنوات لإصلاح لوحة تشكيلية واحدة، وكلفة باهظة تبعا لحجم الضرر الذي لحق بها، سواء كانت أضرارا طفيفة أو جانبية غير مرئية بالعين المجردة أو بفعل التأكسد، أو قد تكون تعرّضت لتلف كبير.

بوزيد بوعبيد: عند الترميم أنصهر في وجدان الفنان الذي تعرّضت لوحاته للتلف
بوزيد بوعبيد: عند الترميم أنصهر في وجدان الفنان الذي تعرّضت لوحاته للتلف

ويوضّح بوعبيد، وهو من مواليد مدينة تطوان سنة 1953، أن اللجوء إلى أحدث التقنيات والطرق العلمية المتبعة في ترميم وإصلاح اللوحات الفنية القديمة قد لا يكفي في أحيان كثيرة، لأن المرمم أو المصلح ملزم بالاطلاع على تقنية الرسم المستعلمة في اللوحة والتاريخ الفني السائد إبان إبداعها، وهل لجأ الرسام إلى تقنية خاصة في رسمها، فضلا عن معرفة إن كانت اللوحة قد تعرضت لإتلاف عرضي أو مقصود.

ويدقّق الخبير المغربي في ترميم اللوحات التالفة حيث أن تحديد عمق ونوع الضرر يحتم القيام بدراسة تفصيلية وشاملة للوحة قبليا، ومعرفة التقنيات المستعملة في تلك الحقبة أو التي يستعملها الفنان التشكيلي المعني، ونوع الأصباغ، وأسباب ودرجة التشققات، فضلا عن الأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن.

ويقرّ هذا المتخصّص في التراث ومؤرخ الفن أن تقنيات حديثة ومتطورة برزت منذ حوالي عقدين من الزمن في بلدان رائدة في المجال باللجوء إلى مختبرات علمية دقيقة، مذكرا بأن بداية اهتمام المختبرات بهذا المجال يعود إلى العقد الأول من القرن العشرين في متحف فوغ التابع لجامعة هارفارد الأميركية، ثم متحف اللوفر الفرنسي الشهير، قبل أن يفتتح مختبر في بريطانيا في ثلاثينات القرن الماضي لتنامي الحاجة إلى هذا التخصّص النادر.

لكنه يعقّب في المقابل بأن استعمال التقنيات المتطورة وحده لا يكفي، لأن أساس هذه المهنة هو المعرفة الدقيقة باللوحة المعنية، فنيا وتقنيا وتاريخيا، ومعرفة نوعية قماش اللوحة بأدوات يدوية دقيقة، وإعادة المنسوجات التالفة إلى حالتها الطبيعية باستخدام المجهر واليد الخبيرة المدرّبة.

ويضيف أن الأمر يحتاج كذلك، كما هو معروف عالميا، إلى استخدام مواد كيميائية لكن بحذر شديد، مثل الكروماتوغرافيا والميثانول وفورمالدهيد، وتشخيص الضرر يدويا باستعمال أدوات المطايف أو علميا عبر الأشعة السينية، وذلك لفهم اللوحة ومكوناتها بعين خبيرة تدقّق في التفاصيل ولا تهمل أية جزئية ولو بدت غير ذات أهمية.

ويبرز الفنان أن الأمر لا يحتاج فقط إلى تكوين مرممي اللوحات التشكيلية وتوسيع اطلاعهم الأكاديمي وصقل مهاراتهم فحسب، وإنما يحتاج أيضا إلى تطوير حسهم الفني الرفيع من خلال تراكم التجارب في التعامل مع اللوحات الفنية، إلى جانب التوفّر على موهبة خاصة وإبداع فطري وطول الصبر والأناة.

وهو يرى أن المغرب لم يتأخّر في الاهتمام بفن ترميم وإصلاح اللوحات وإن كان تاريخ الفنون التشكيلية بالبلد حديث العهد مقارنة بالبلدان العريقة في المجال، مشدّدا في ذات الوقت على أن الاهتمام بهذا الجانب يجب أن ينمو بخطى ثابتة مع بروز موجة اقتناء القطع الفنية، وتعرّض بعض لوحات كبار المبدعين المغاربة لأضرار مختلفة، مع ما يتطلب ذلك من الحفاظ على الموروث الثقافي المغربي.

Thumbnail

ويعتبر بوعبيد الذي سبق ورمم لوحات تشكيلية لمبدعين بارزين من قبيل الفنان الإسباني ماريانو بيرتوتشي، أنه آن الأوان لتوسيع التعاطي الأكاديمي والعلمي مع إصلاح وترميم اللوحات، داعيا إلى ضرورة إعادة النظر في طريقة تخزين اللوحات ونقلها وعرضها بشكل عام، والرقي بالذوق الفني وصقل المواهب المتفرّدة والانصهار في وجدان الفنان الذي تعرّضت لوحاته للتلف.

وخلص إلى أن عملية ترميم وإصلاح اللوحات الفنية القيمة تعدّ فنا أكثر منه علما رغم اختلاف الرؤى بهذا الصدد بين من يتعلق بالتركيز على الجانب العلمي والتقني، وبين من يدعو إلى الاتصاف بالإحساس والذوق.

وبوزيد بوعبيد من مواليد 1953 بتطوان، تخرّج من مدرسة الفنون الجميلة سنة 1975 قبل أن يكمل دراسته الأكاديمية بإسبانيا وبلجيكا، وهو من القلائل الذين خضعوا لتدريب في علم المتاحف وآخر في مجال ترميم وإصلاح الأعمال الفنية، وقام بتدريبات ميدانية وزيارات متعددة للمتاحف الحديثة والمعاصرة في عدد من البلدان الأوروبية أغنت تجاربه ومعارفه وأهلته لإدارة متحف تطوان للفن الحديث.

وهو إلى جانب ذلك رسام محترف ارتبط اسمه بالجيل الجديد لمدرسة الفنون الجميلة بتطوان، كما ارتبط اسمه ولمع في “معرض الربيع” بتطوان نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي لتتوالى معارضه الفردية والجماعية بعدها.

وتحمل أعمال بوعبيد الفنية هوية متجددة ومتفرّدة، وهي تتردّد ما بين التشخيص والتجريد، ما منحه لونه التشكيلي الخاص، وشكله الاستثنائي وظله الممتد في تجارب الأجيال اللاحقة.

كما تمكن الفنان المغربي من الخروج من ثوب التشكيلي ليلبس جلباب الباحث المؤرّخ في مجالات متعددة، وهو المهتم بالرصد والنقد الفني، حيث أصدر كتابين: الأول عن التشكيلي المغربي الراحل المكي مغارة؛ والثاني في جزأين بالعربية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية تحت عنوان “رسامون من تطوان” تضمّن سير وأعمال 67 فنانا من مختلف الأجيال والاتجاهات الفنية.

Thumbnail
17