فرانسيس كومب.. شجرة الكستناء المسافرة

الشعر حالة سفر مستمرة هذا ما تؤكده قصائد الشاعر الفرنسي فرانسيس كومب الذي أصدر مجموعة كبيرة من الدواوين الشعريّة، ويكتب منذ التسعينات “قصائد سفر”، وهو مفهوم للشعر مأخوذ من فكرة “قصائد الريبورتاج” الّتي كتبها ناظم حكمت. وهي على شكل “ريبورتاج شعريّ” يصف مكانا أو بلدا في العالم، ولكنه لا ينطلق فيها من تأملات عاطفية بقدر انطلاقه من الفكرة. وفيما يلي حوار للشاعر مع مجلة “الجديد”.
هياسانت شابير
ترجم الحوار أيمن حسن
ولد فرانسيس كومب عام 1953، وهو شاعر ومترجم وناشر. تخرج في معهد العلوم السياسية بباريس، ودرس اللغات الشرقية (الروسية والصينية والمجرية)، ترجم فلاديمير ماياكوفسكي (“اسمعوا، إن أضأنا النجوم”، 2005)، أتيلا جوزيف (“متسول الجمال”، 2014) وهنري هاين (“طبل الحرية”، 1997)، التي صدرت جميعها عن منشورات “زمن الكرز”، وهي دار نشر تشاركية أسسها كومب سنة 1993 وأدارها حتى 2020.
تتكون أعماله الشعرية من أكثر من عشرين ديوانا، وقد تُرجمت إلى لغات عدة وتم الترحيب بها في جميع أنحاء العالم.
النشر والشعر والعرب
الجديد: في عام 2020، أسستَ منشورات “Manifeste!” -وهي تعني “البيان” بالعربية – التي أصدرت على الفور ثلاثة عناوين. هل يمكن أن تحدثنا عن السياق الذي ولدت فيه هذه الدار الجديدة؟
فرانسيس كومب: أسستُ “Le Temps des Cerises” – وهي تعني “زمن الكَرَز” بالعربية – في العام 1993 مع رفيقة دربي باتريسيا لاتور وحوالي ثلاثين كاتبا صديقا، بما في ذلك الشاعر أوجين جيليفيك، والروائي البرازيلي خورخي أمادو والكاتب الفرنسي جيل بيروت.
قبل عامين، أعلنتُ عزمي على تسليم المشعل. كنت أرغب في نقل المسؤولية إلى كتاب شباب تقدميين أعرفهم وأحب صفاتهم الأدبية. عارض زملائي ذلك وأرادوا فرض خبير اقتصادي. تسبب ذلك في أزمة داخل دار النشر، مع مغادرتي ورحيل العديد من المؤلفين.
نشرتُ “البيان!” وانضم إلي حوالي أربعين مؤلفا، واعتنى بها الشاعر الشاب فيكتور بلان، وهم يعتزمون الآن أن يتابعوا بطريقتهم الخاصة روح ما كان “Le Temps des Cerises”، أي دار نشر مستقلة يديرها المؤلفون أنفسهم، دار أدبية، سياسية وشعرية.
العناوين الأولى التي صدرت هي كتاب أوليفييه بيسانسينو ومايكل لوي بمناسبة الذكرى 150 لكمونة باريس. مجموعتان شعريتان: “مسودة وطن” لشاعر الثورة التونسية محمد الصغير أولاد أحمد و”ربيع محاصر” للشاعر التركي أتاول بهرام أوغلو وكتاب رائع للمؤرخ آلان روسيو عن القصص العادية وغير العادية لثلاثمئة عام من الاستعمار.
هناك خوف غير معقول ولكنه مستمر بشكل منهجي من الخطر الذي قد يمثله الآخر، الأجنبي، الفقير، واللاجئ
الجديد: أنت واحد من الناشرين القلائل الذين ينشرون باستمرار لشعراء عرب غير معروفين أو معترف بهم بالضرورة من قبل أهل الميدان في فرنسا. كيف تختار مؤلفيك؟ كيف تعمل كناشر؟
فرانسيس كومب: لم أكن أبدا ناشرا متخصصا في العالم العربي، وقد نشرتُ أيضا لكتاب فرنسيين وروس وصينيين وأميركيين وأميركيين لاتينيين.
الشعر ليست له حدود، لكني أعتقد أن هناك عملا حقيقيا يتعيّن القيام به لتعريف القراء الفرنسيين بالكتاب الذين يكتبون بالعربية. (هناك دائما اتجاه في فرنسا، في الوسط الأدبي الصغير، للاعتراف أولا بأولئك الذين يكتبون بالفرنسية ويترددون على الحي اللاتيني).
من بين الكتاب الذين نهتم بهم، هناك كتاب يتميزون بجودة كتاباتهم ولكن أيضا بالتزامهم الاجتماعي والديمقراطي. وهذا يمكن أن يعطي العالم العربي صورة مختلفة عن تلك التي عادة ما تكون سائدة في أوروبا. وهكذا تمكنتُ في الفترة الأخيرة من نشر مختارات كبيرة لشاعرات من العالم العربي أعدتها وترجمتها الشاعرة السورية مرام المصري. وقد حقق هذا الكتاب نجاحا مستحقا.
النيران المضادة
الجديد: أنت يساري ضارب في اليسارية. ماذا يعني ذلك وما هو أفق اليسار في فرنسا ونحن نحتفل بالذكرى الأربعين لوصول فرانسوا ميتران إلى السلطة والذكرى المئة والخمسين لكمونة باريس؟
فرانسيس كومب: أنا شيوعي منذ أن كنت في الرابعة عشرة من عمري. ماذا يعني ذلك؟ الفكرة الشيوعية هي الفكرة الديمقراطية الراديكالية: سلطة الشعب، من قبل الشعب ومن أجل الشعب. هو برنامج لم يتحقق بعد في أي مكان. الوضع الحالي لليسار في فرنسا اليوم يحزنني ويقلقني كثيرا.
اليسار منقسم وضعيف أيديولوجيا. إنها عواقب خياناته وإنكاره. هذا يترك المجال مفتوحا أمام زخم الأفكار اليمينية واليمينية المتطرفة، والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي: خوف غير معقول إلى حد كبير، ولكنه مستمر بشكل منهجي من الخطر الذي قد يمثله الآخر، الأجنبي، الفقير، اللاجئ. إنها النيران المعاكسة التي أشعلتها الطبقة الحاكمة لمواجهة تفتح وعي النضالات الشعبية (من السترات الصفراء إلى الدفاع عن المستشفى العام أثناء الوباء).
وهذه النيران المضادة تجعل فرنسا وديمقراطيتها وثقافتها تتعرض إلى خطر لم يعد خياليا، هو خطر حقيقي. حسب رأيي، سيكون من الملحّ التغلب على المنطق الحزبي الصغير من أجل الانخراط في بناء ما يمكن أن أسميه “جبهة الشعب”. في الوقت نفسه، يجب أن نعيد الاتصال بالأممية. لا يمكن أن يولد الوعي الطبقي التقدمي اليوم إلا من الشعور بأننا جميعا ننتمي إلى ما أسميه “الشعب – العالم”، هؤلاء الأشخاص المتعددون الذين يقع في أيديهم مصير الكوكب. وهذا أمر عاجل.
لغة الإمبراطورية
الجديد: تنشر عمودا أسبوعيا في صحيفة “L’Humanité” (“الإنسانية”) التي أسسها جان جوريس عام 1904، والتي تعتبر جهازا صحافيا رسميا للحزب الشيوعي الفرنسي. هل يمكنك أن تصف لنا فلسفة هذا العمود؟
فرانسيس كومب: دخلت اللغة الفرنسية فترة من الاضطراب. على المستوى العالمي، الفرنكوفونية تتقدم. ولكن من المفارقات أنها مهددة في فرنسا نفسها، ولاسيما من قبل الهوس الإنجليزي السريع “للنخب” وعالم التجارة والإعلان والسياسة ووسائل الإعلام وحتى الثقافة في الكثير من الأحيان.
إنه تكبّر جماعي ينبع من الاغتراب عن الذات: التحول بقوة إلى لغة “الإمبراطورية”. فرنسا، التي كانت ولا تزال دولة استعمارية إلى حد كبير، هي أيضا دولة مُسْتَعْمَرَةٌ. لكن اللغة الفرنسية لم تمت بعد.
في العمود الذي أكتبه مع باتريسيا، نُصرُّ على حقيقة أن الفرنسية تعيش وأنها غنية في تنوعها، ولاسيما بفضل مساهمة كل من يحب هذه اللغة ويعيدها إلى الحياة خارج فرنسا. كذلك، يمكن قول الكثير عن مساهمة اللغة العربية في الفرنسية. هذا لا يعني أن الفرنسية تتفوق على اللغات الأخرى. لكن الدفاع عنها جزء من النضال من أجل عولمة تحترم تعدّدية الثقافات. نحن مع وحدة العالم في التنوع.
دفتر وقلم رصاص
الجديد: أنت شاعر ومترجم شعر. هل يمكنك أن تصف لنا طريقة عملك؟
اللغة الفرنسية دخلت فترة من الاضطراب على المستوى العالمي رغم أن الفرنكوفونية تتقدم، فالمفارقة أنها مهددة في فرنسا
فرانسيس كومب: لقد نشرتُ حوالي ثلاثين كتابا ويحتل الشعر جزءا أساسيا من أفكاري. لذلك ليس لدي أي خجل أو تواضع كاذب في تسمية نفسي شاعرا، خاصة كما أعتقد أن الشعر، الذي يُظهرُ حاجة الإنسان غير القابلة للاختزال للجمال والحرية، يستحق الدفاع عنه.
الخيال الشعري له منفعة عامة. ليس منديلا متسخا تخفيه في جيبك؛ إنه عَلَمٌ يمكننا رفعه. من ناحية أخرى، لن أصف نفسي بالمترجم المحترف. أنا أترجم فقط الشعراء الذين أحبهم، والذين هم ضروريون بالنسبة إلي والذين أتيحت لي الفرصة للتواصل مع لغتهم، سواء أكانوا بيرتولت بريشت أم فلاديمير ماياكوفسكي أم أتيلا جوزيف. في هذه الحالة الترجمة تعني دخول مخبر الشاعر.
كيف أعمل؟ لا أعرف. بين مجموعتين وحتى بين قصيدتين، أشعرُ دائما أن الشعر يهجرني. حتى تأتيني فكرة تفرض قصيدة جديدة. بالنسبة إلي، تولد القصيدة من فكرة.
أعلم أنه بالنسبة إلى الآخرين، يحدث الأمر بشكل مختلف. بالنسبة إلى العديد من الشعراء، الأسبقية للغنائية. بالنسبة إليّ، غالبا ما تأتي بعد ذلك. إنها جزء من المهنة أو الخبرة.
ما هي بالنسبة إلي؟ فكرة شعرية؟ إنها صورة تربطنا بالعالم. صورة واعية وحساسة تُنيرُ وضعنا ووجودنا اليوم على الأرض. بخلاف ذلك، أنا أعمل طوال الوقت. خاصة عندما لا أفعل أي شيء! لكي تكون شاعرا، فأنت تحتاج بالطبع إلى قلم رصاص ودفتر. ولكنك تحتاج أيضا إلى المشي كثيرا، والتجول، وتكون مفتوحا للعالم من حولك، وعلى استعداد للترحيب به بأذرع مفتوحة.
الصورة المتغيرة
الجديد: ترجمك إلى العربية الكاتب الجزائري الطاهر وطار (المتوفى سنة 2001)، ما هي علاقتك بالعالم العربي، خاصة مع المثقفين الشيوعيين والتقدميين؟
فرانسيس كومب: كتابي الأول تمّت ترجمته إلى العربية من قبل الطاهر وطار الذي كان صديقا مقرّبا، ولقد نُشر في الجزائر العاصمة. لي كذلك مجموعة مختارة من القصائد تمت ترجمتها مؤخرا من قبل الشاعرة مرام المصري ونشرتها دار الفراشة بالكويت.
لقد زرتُ الجزائر مرارا منذ سنوات حيث كنت أعرف، إلى جانب وطار ويوسف سبتي وطاهر جعوط والرسام محمد خدة وآخرين.. كنا أصدقاء مقرّبين. كانوا ينتمون إلى ذلك الجيل من المثقفين التقدميين المرتبطين بالنضال الوطني من العلمانيين والأمميين. كما ارتبطت منذ سنوات ارتباطا وثيقا بالاقتصادي الماركسي الفرنسي المصري الكبير سمير أمين، الذي نشرت كتبه في فرنسا. لقد فعل الكثير من أجل فهم متبادل أفضل.
أتيحت لي الفرصة لزيارة عدة دول عربية: مصر، المغرب، لبنان، سوريا، العراق، السعودية، فلسطين، الأراضي المحتلة، غزة بدعوة من الشعراء الفلسطينيين.. بشكل عام، لم تكن هذه الرحلات سياحية بالدرجة الأولى.
كانت شريكة حياتي باتريسيا لاتور أمينة عامة للنداء الفرنسي – العربي الذي جمع المثقفين الفرنسيين والعرب وحشدوا ضد سياسة الحصار التي كان الشعب ضحيتها الرئيسية. على سبيل المثال، استأجرنا طائرة نقلت على متنها نحو مئة من المثقفين والفنانين الفرنسيين للذهاب إلى بغداد، في انتهاك للحظر الجوي.
نشرت دار المنار للنشر مختارات من “تقاريري الشعرية” عن العالم العربي بعنوان “قارب البحار”. بالنسبة إليّ، العالم العربي هو شرق قريب منا، وفي نفس الوقت مرآة تعيد إلينا صورة مقلوبة ومألوفة وعالم آخر خارج المرآة. إنه جزء من تاريخنا وثقافتنا ولدينا مستقبل مشترك.
الجديد: من هم نماذجك ومراجعك ومفكروك، أدبيا وسياسيا؟ كيف ترى الأدب الفرنسي المعاصر؟
فرانسيس كومب: سؤال واسع. في المجال الفلسفي، بالطبع ماركس، ولكن أيضا سقراط، أبيقور، عمر الخيام، كتاب “التاو تي كينغ”، لاو تسو.. وقريبا منا: غرامشي، أرنست بلوخ، هنري لوفيفر، إريش فروم. في الشعر، هم أكثر عددا: هوغو، ويتمان، شعراء سلالة تانغ، ماياكوفسكي، بريشت، ناظم حكمت، أراغون، إيلوار، ريتسوس، نيرودا، محمود درويش، شعراء جيل “البِيتْ”.. يُرافقني العديد من الشعراء.
الأدب الفرنسي؟ بعد فترة سادت فيها نرجسية معيّنة، عادت الكتب للظهور مرة أخرى حول العالم الحقيقي والعمل والتاريخ. في الشعر على وجه الخصوص، الأشياء تتغير. بعد فترة طويلة اتسمت بالتفكك اللغوي، يبدو أن جيل الشباب يعيد الاتصال بشعر ما، رغم كونه جريئا وتجريبيا في بعض الأحيان من وجهة نظر اللغة، لديه حقا ما يقوله عن العالم الحقيقي الذي نعيش فيه. شعر شفاهي ولكن مكتوب جيدا، غالبا ما يكون ساخرا ولكنه أيضا غنائي وعاطفي ورومانسي بطريقة ما.
شجرة كستناء
الجديد: إذا كان عليك أن تبدأ من جديد، فما هي الخيارات التي ستتخذها؟ إذا كان عليك أن تتجسد في كلمة، في شجرة، في حيوان، فماذا ستكون في كل مرة؟ أخيرا، إذا كان لا بد من ترجمة واحدة من قصائدك إلى لغات أخرى، العربية مثلا، فأي واحدة ستختار ولماذا؟
فرانسيس كومب: سأفعل الشيء نفسه مرة أخرى في محاولة لتجنب بعض الأخطاء. (في الكثير من الأحيان، أدى ميلي إلى الثقة إلى خداعي وتعرضي إلى حيل قذرة، لكنني لا أعتقد أنني سأشعر بالريبة من الجنس البشري أو سأكره البشر) تجسد جديد؟ هذا ليس جزءا من خططي المباشرة.
بخصوص الشجرة، كنت أرى نفسي كشجرة كستناء، شجرة موطني السيفين. أو شجرة الكرز، لأنني كنت واحدة كذلك منذ سنوات. لكن الأشجار لا تسافر. هذا هو أكبر عيب لها!
حيوان؟ عصفور بلا شك. طائر شحرور، لأنه يمتلك أجنحة ويمكنه الغناء. كما أنشأتُ أيضا جمعية للشعراء والموسيقيين تحمل اسم “الشحرور الساخر”، وهي إشارة إلى أغنية جان باتيست كليمان “زمن الكرز”، والتي تشارك في مغامرة إصدارات منشورات “البيان”. تحت رعايتهما نُشر أولاد أحمد للتو باللغة الفرنسية بفضل الترجمة الجميلة للشاعر التونسي الناطق بالفرنسية أيمن حسن، مع مقدمة لأدونيس وخاتمة لمنصف المزغني.
لكن بشكل عام، أفضلُ التناسخ في دور فرانسيس كومب. قال رامبو إن كل رجل يستحق عدة أرواح. وهذا على وجه التحديد لأننا ممنوعون من ذلك، فنكتبُ القصائد.
أما بالنسبة إلى القصيدة التي يجب أن تُتَرْجَمَ، فهي تلك التي لم أكتبها بعد. كل شاعر يركض وراء القصيدة التي تضيء كل شيء، القصيدة التي يقول فيها الكلمة الأخيرة. لكن لن يحدث ذلك غدا!