استرضاء الشارع واستمالة المعارضة معركة أخرى في انتظار ديبي الابن

نجامينا (تشاد) – تمكن الجيش التشادي من هزيمة المتمردين في الشمال، لكن معركة أخرى مختلفة تماما تنتظر المجلس العسكري الانتقالي بقيادة ابن الرئيس الراحل محمد إدريس ديبي، في العاصمة نجامينا ومدن الجنوب، وتتمثل في مدى قدرته على استرضاء الشارع واستمالة الأحزاب المعارضة لإنجاح المرحلة الانتقالية.
إذ تُصر أحزاب المعارضة والنقابات العمالية على أن المجلس العسكري قام بـ”انقلاب مؤسساتي”، عندما تولى السلطة وحلّ البرلمان وأقال الحكومة وجمّد العمل بالدستور.
وترفض المعارضة تشكيلة الحكومة الجديدة التي عيّنها المجلس العسكري الانتقالي، وتقول إنها لم تأت عبر حوار وتوافق بين الأحزاب.
وسادت حالة من عدم اليقين بشأن مصير البلد المحوري في وسط القارة الأفريقية عقب مقتل الرئيس ديبي، إثر هجوم متمردين من الشمال، ورفض 30 حزبا معارضا الاعتراف بسلطة المجلس العسكري الانتقالي.
وقادت المعارضة السياسية عدة مظاهرات مطالبة باستقالة المجلس العسكري، رافضة ما تعتبره “توريثا للحكم” من الأب إلى الابن، وشكلت تنسيقة مشتركة تحت اسم حركة “واكيت تاما” (حان الوقت).
ديبي الابن اقتنع تحت ضغوط داخلية وخارجية، أن الجيش لا يمكنه لوحده قيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية
لكن بعض هذه المظاهرات شهدت سقوط قتلى وإصابات واعتقال المئات من المحتجين. ففي مظاهرات أبريل الماضي، سقط على الأقل 6 قتلى بين المتظاهرين، وتم اعتقال 600 شخص، بحسب وسائل إعلام.
ورغم حظر السلطات العسكرية لأي مظاهرات قبل الحصول على إذن مسبق، إلا أن العشرات من المحتجين خرجوا في الثامن من مايو الجاري في احتجاجات بعدة مدن.
وبحسب موقع “تشاد انفو”، يخطط تحالف المعارضة “وكيت تاما” لمظاهرات ثالثة الأربعاء، لزيادة الضغط على المجلس العسكري.
ويكتسب ديبي الابن، يوما بعد يوم ثقة في النفس، بعد حصوله على دعم كبار قادة الجيش الذين حاربوا لسنوات مع والده، وكذلك الحليف الإستراتيجي لبلاده فرنسا ومعها دول الساحل الأربع (النيجر ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو).
وعقب إعلانه هزيمته للتمرد الذي قادته “جبهة التناوق والوفاق”، وعودة جنوده إلى الثكنات، لم يبق أمام ديبي الابن سوى المعارضة السياسية في نجامينا، وأيضا مدن الجنوب.
وتمكن المجلس العسكري من تحقيق اختراق مهم في صفوف المعارضة، عندما ضم صالح كبزابو، أحد أبرز قادة المعارضة، إلى الحكومة، ما أدى إلى إضعاف حركة “واكيت تاما” بعد انسحاب أنصاره منها.
ويوصف كبزابو بـ”المعارض التاريخي” للرئيس الراحل ديبي (1990 – 2021)، وقد حلّ ثانيا في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 2016، وحصل على 13 في المئة من الأصوات مقابل 60 في المئة لديبي.
وفي رئاسيات أبريل الماضي انسحب كبزابو منها احتجاجا على العنف الذي سبقها ودعا إلى مقاطعتها، ما مهد لديبي الأب الفوز بنحو 80 في المئة من الأصوات أمام منافسين مغمورين، وهي النتيجة التي أعلن عنها في نفس اليوم الذي قُتل فيه.
لكن كبزابو، الذي يترأس حزب الاتحاد الوطني للديمقراطية والتجديد، اعترف أخيرا بالمجلس العسكري الانتقالي، وقَبِل المشاركة في الحكومة، وحصل حزبه على حقيبة التربية بالإضافة إلى منصب نائب الأمين العام للحكومة.
لذلك فاستمالة المجلس العسكري الانتقالي لكبزابو، وسحبه من تحالف المعارضة، من شأنه إضعافها رغم استمرار حالة الغضب الشعبي سواء في عهد نظام ديبي الأب أو في المرحلة الانتقالية التي تلت مقتله، والتي يعتبرها المعارضون امتدادا لحكم عائلة ديبي، الذي امتد لأكثر من 30 سنة.
وليس كبزابو الوحيد من المعارضة من اعترف بالمجلس العسكري، فالمعارض البارز محمد أحمد الحبو الأمين العام لحزب الحريات والتنمية انضم هو الآخر إلى الحكومة وأصبح وزيرا للعدل.
وبعد أن حلّ المجلس العسكري الانتقالي، الحكومة، واستفرد بجميع الصلاحيات التنفيذية العليا، رضخ للضغوط الفرنسية بضرورة إشراك المدنيين في الحكم.
فديبي الابن، الذي يترأس المجلس العسكري المشكل من 14 جنرالا، اقتنع تحت ضغوط داخلية وخارجية أن الجيش لا يمكنه لوحده قيادة البلاد خلال المرحلة الانتقالية.

ولجأ ديبي الابن لتعيين رئيس الوزراء السابق ألبرت باهيمي باداكي، الذي جاء ثانيا في الرئاسيات الأخيرة، رئيسا للحكومة الانتقالية في 26 أبريل.
لكن هذا التعيين لم يقنع المجتمع المدني وشطر من المعارضة، التي تُصر على توصيف ما حدث على أنه “انقلاب”، حتى ولو تم وضع واجهة مدنية له.
فبعد يوم واحد فقط من تعيين باداكي رئيسا للحكومة الانتقالية خرجت مظاهرات اتسمت بالعنف المفرط سقط خلالها العديد من القتلى واعتقل المئات.
فباداكي ليس محسوبا على المعارضة حتى وإن كان المنافس الرئيسي لديبي في الانتخابات الأخيرة، حيث كان آخر رئيس للوزراء، إلى أن ألغى ديبي الأب هذا المنصب في 2018.
والملاحظ على الحكومة الجديدة العدد الكبير للحقائب الوزارية التي يصل إلى 40 حقيبة بالإضافة إلى سكرتير دولة، والتي حاول فيها المجلس العسكري استرضاء الحرس القديم في حكومة والده، وبعض قادة المعارضة.
فمعظم الوزارات السيادية في الحكومة الانتقالية كانت من نصيب أعضاء حركة الإنقاذ الوطني، التي أسسها الرئيس الراحل.
وتم استحداث وزارة جديدة للحوار والمصالحة، ووضع على رأسها زعيم متمرد سابق يدعى أشيك بن عمر، الذي عُين مستشارا دبلوماسيا للرئيس ديبي في 2019.
ويؤكد متابعون أن أخطر تهديد يواجه تشاد في المرحلة الحالية انفراط عقد وحدتها، بالنظر إلى المخاطر المتعددة التي تحيط بها، وتنوع تركيبتها الإثنية والدينية.
فالولايات الشمالية ذات الطبيعة الصحراوية القاسية تقطنها قبائل من أصول عربية يدين أغلبها بالإسلام وتمتهن الرعي على غرار قبيلة الزغاوة التي ينحدر منها الرئيس الراحل، والمهيمنة على الحكم خلال العقود الأخيرة.
أما الولايات الجنوبية فتقطنها قبائل أفريقية يدين معظمها بالوثنية والمسيحية وتمتهن الزراعة، لكنها تحظى بفرص تعليمية أفضل من الشمال، وسيطرت على الحكم خلال العقدين الأولين بعد استقلال البلاد عن فرنسا في 1960.
ويدين بالإسلام نحو 54 في المئة من السكان البالغ عددهم 16.4 مليون نسمة، بينما ثلث السكان مسيحيون، والباقي وثنيون أو لا دينيون.
وكان يُخشى من انشقاق كتائب من الجيش بعد مقتل الرئيس الراحل، واحتمال ظهور صراع بين ديبي الابن (37 عاما) وكبار قادة الجيش المخضرمين الذين حاربوا مع ديبي الأب منذ السنوات الأولى لتمرده قبل وصوله للحكم.
بينما تطالب الأحزاب والمجتمع المدني خاصة في المناطق الجنوبية بالديمقراطية والتناوب على السلطة التي يحتكرها الشمال منذ الثمانينات.
وهذا ما دفع ديبي الابن مؤخرا لتقديم بعض التنازلات عبر التعهد بإجراء “حوار شامل”، وتشكيل وزارة جديدة للحوار والمصالحة، وضم أسماء بارزة في المعارضة للحكومة، وتعيين رئيس وزراء مدني، وإطلاق سراح المئات من المعتقلين في المظاهرات الأخيرة.
كما تفقد ديبي الابن 1200 جندي من قوات بلاده المنتشرة بمدينة تايرا (180 كلم غرب نيامي) في منطقة الحدود الثلاثة، خلال زيارته الأولى خارج البلاد، التي التقى فيها برئيس النيجر محمد بازوم، وشكره على دعمه في مواجهة تمرد الشمال.
فديبي الابن، بعد أن أحكم سيطرته على الجيش، وحظي بدعم فرنسي وإقليمي، تمكن من هزيمة تمرد الشمال، واستقطب رموز المعارضة في حكومة ذات واجهة مدنية، وفتح قنوات الحوار حتى مع حركات التمرد، ما قد ينقذ البلاد من الوقوع في مستنقع الدولة الفاشلة، لكن ليس بالضرورة أن يقودها ذلك نحو الديمقراطية.