الأزهر الشريف أمل "الإسلام الحضاري" بدل "الإسلام السياسي"

الأربعاء 2014/05/28
جامع الأزهر محرار قياس مدى تحرر السلطة والشعوب ورغبتها في إبعاد السياسة عن الإسلام

ما طرأ في العصر الحديث من تغيير للخطاب الديني الوسطي إلى خطاب متطرف تكفيري هو استغلاله من قبل البعض لتحقيق أهداف سياسية مما أدى إلى تحوير غايته السامية، فجعل منه أداة للقتل والتدمير. فهناك من أخذوا يلبسون جبة الدين وعمامته لأن ذلك أقصر الطرق لتحقيق أهدافهم ووصولهم لسدة الحكم مثل ما فعل الإخوان في عدد من الدول العربية. وهذا يتطلب في نظرهم أولا تدمير الجيش، والقوة الأمنية، والسيطرة التامة على المراكز الدينية وكل ذلك يصب في تغيير فطرة الناس التي أفطر الله الخلق عليها.

تحدث الكثيرون عن نماذج ما يسمى الإسلام المعتدل مثل النموذج التركي الذي يعتبر ضربا من ضروب الإسلام السياسي المستغل للدين وقد تم ترويجه خدمة لأميركا والغرب، علما أن موطن الإسلام الأرض العربية ويجب أن يظل كذلك. فبعد ما سمعناه من المشير عبدالفتاح السيسي عن أهمية مراجعة الخطاب الديني، لماذا لا تكون مصر هي التي تستلهم روح الثورة الفكرية وذلك بتقديم أطروحة مفادها “الإسلام الحضاري” بديلا عن “الإسلام السياسي” خاصة وأن مصر تحتوي أقدم وأشهر منبر إسلام وسطي تنويري ألا وهو الأزهر الشريف.

فالأزهر نموذج وسطي تأسس منذ أكثر من 1000 عام وهو المنبر الوحيد الذي يتقبل ويضم كل المذاهب ولا يكفرها. لكن الأوضاع السياسية والحكام الذين تعاقبوا على مصر أثروا في تطوره على مر العصور.

فقد تأسس الأزهر في عهد الفاطميين، وكان في ذلك العهد لا يهتم فقط بدروس الفقه والثقافة الدينية، بل اهتم أيضا بعلوم اللغة والطب والرياضيات والمنطق والفلسفة، وظهر كبار العلماء في ذلك العهد أمثال ابن زولاق المؤرخ، وابن يونس المنجم، والحوفي النحوي، وابن الهيثم الفيلسوف وغيرهم، مما يوضح أنه كان مركزا للتيار الثقافي الحر.

ويمثل العهد العثماني (1517-1805م) أسوأ الفترات التي مرت بها المؤسسة، حيث بدأ مسار تخلفه ونضبت موارده وسلب الحكام أوقافه، فقل عدد أساتذته وطلابه، وهجر القاهرة كثير من العلماء والطلاب إلى أقاصي الصعيد فرارا من عسف الحكام، وانتشر في تلك الفترة تحريم دراسة العلوم العقلية بل كُفّر من يطالعها ويعتني بها.

استقلال الأزهر عن السلطة يؤكد حياده ويبعده عن تأثير السياسة والتدخل في أعماله

ثم استعاد قيمته في فترة حكم أسرة محمد علي (1805-1952م) التي اشتهرت ببعثات شباب الأزهر إلى أوروبا للتزود بما فيها من ثقافة ومعرفة وعاد هؤلاء كرسل نهضة ووعي في البلاد.

ومن أشهر المبتعثين كان رفاعة الطهطاوي الذي يلقب بشيخ الترجمة وإمام النهضة الحديثة وصاحب دعوة إصلاح الأزهر، فقد تعلم مبادئ اللغة العربية ثم درس بالأزهر وأكمل به دراسته ثم اختير إماما لأول بعثة إلى فرنسا سنة 1825 فانكب على تعلم اللغة الفرنسية التي أجادها وتخصص من خلالها في الترجمة.

ومن أبرز أئمة الإصلاح الديني وصاحب أثر عظيم في إصلاح الأزهر في ذلك العهد نجد الشيخ محمد عبده، الذي كان من أوائل تلامذة جمال الدين الأفغاني المتأثرين بدعوته إلى حرية الفكر ودراسة الفلسفة والعلوم الحديثة وفهم الدين فهما صحيحا.

ولما قامت الثورة العرابية اشترك فيها ونفي من مصر إلى سوريا، وتولى التدريس بمدارسها ثم سافر إلى باريس ولحق بأستاذه الأفغاني وأصدرا معا جريدة العروة الوثقى. ثم عفى عنه الخديوي توفيق وعاد إلى مصر أين عيّن مفتيا للديار وعضوا في مجلس إدارة الأزهر الذي كانت له رغبة كبرى في إصلاحه، حيث انطلق في رحابه بتدريس المنطق والبلاغة وأصدر تفسيرا للقرآن الكريم وفّق فيه بين الآيات الكريمة وما يقتضيه العقل والحكمة وروح التشريع ومسايرة أحكام الإسلام لمقتضيات الحضارة وظل كذلك إلى أن تــوفي سنة 1905.

ومواصلة لعمليّة التحديث التي انطلقت في العهد الملكي، جاءت ثورة 1952 مشجعة لهذا التوجه حيث دعم جمال عبدالناصر إصلاح الأزهر فرفع من ميزانيته وزوده بأساتذة جدد وأنشئت معاهد أزهرية جديدة وفتحت الأبواب لخريجيه ليُنتفع بهم في الداخل والخارج وكانت قاعة محمد عبده مسرحا للنشاط العلمي تناسب اسمه وأصبحت منبرا لأفضل الأبحاث الإسلامية والفكرية.

الأزهر ملهم للثورة الفكرية عبر أطروحة الإسلام الحضاري عوض السياسي

ومن أهم ما أُنجز في تلك الفترة هو دعم قسم الوعظ والإفتاء، حيث يقوم الوعاظ بنشاطهم في الميادين المختلفة وفي المدن والقرى وعلى الحدود والسواحل ومع وحدات الجيش المختلفة لكي تكون ثقافة الأزهر المتسامحة هي المنتشرة في البلاد، كما أُدخلت في كلية الشريعة مبحث الدراسات المقارنة بين الشريعة الإسلامية والشرائع السابقة، وبين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية. وزادت العناية بالدراسات القانونية وشُكلت لجنة من أساتذة القانون والشريعة لتنظيم مقررات هذه الدراسة.

أما على مدى الثلاثين السنة الماضية فقد تراجع الأزهر عما كان عليه في الستينات، وهذا ما أكده الشيـخ أحمد الطيب، في إحدى المقابلات التلفزيونيــة. حيث مرت هذه المؤسسة العريقة بحالة اضطراب فقدت فيها دوره المؤثر في المجتمع وتم تخريج طلاب بمستوى ضعيف صاروا بعد ذلك أساتذة، تتلمذ عليهم جيل من الطلاب يمتلك ثقافة هشة وويسهل اختراقه من الجهات المتطرفة.

كما أن هناك أشخاصا يستغلون الأزهر للحصول على شهادة علمية تتيح لهم إطلاق فتاوى مثيرة وشاذة وخارجة عن الإسلام. هذا إضافة إلى ضعف تواصل الأزهر الإعلامي مع المجتمع، وهنا يندرج إطلاق قناة “صوت الأزهر” لإيصال الصوت الوسطي إلى العالم، ولسد الفجوة بين الأزهر والمجتمع.

أما من ناحية دعم تعليم الدراسات الإسلامية وأصول الدين فقد اختير أفضل الطلاب من معاهد مختلفة وتم تدريبهم من قبل أساتذة مختصين بهدف إنقاذه من حالة الاضطراب التي وصل إليها، كما سيقوم بإنشاء بيت العائلة وهي مؤسسة تضم لجنة من العلماء والقساوسة، وسيتم فتح فروع لها في محافظات كثيرة وستنقل هذه الصورة في الإعلام، ولمزيد تشجيع الأفكار الإسلامية الوسطية يفترض أن يكون الأزهر نواة لاستقطاب طلاب من مختلف دول العالم، حيث يدرس فيه 17 ألف طالب وطالبة من 102 دولة من العالم. في هذا السياق الإصلاحي ستقدم للرئيس القادم فور انتخابه وثيقة تهدف لإصلاحه تتضمن جملة من المطالب المحددة، حيث كفل الدستور الحالي للأزهر أن يكون هيئة مستقلة غير تابعة للدولة، ويصبح شيخه خارج صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وهو ما يضمن استقلاله وعدم امكانية اختراقه من أية جهة.

من خلال هذا الاستعراض للمراحل التاريخية التي مر بها الأزهر يستوجب على العرب أخذ العبرة مما حصل لكي لا تتكالب عليهم الأمم وتملي عليهم الدين الذي بزغ من أراضيهم.

*أكاديمية وإعلامية سعودية

13