المستقبل أكثر أهمية للشباب الجزائري من الماضي الاستعماري

يتعامل الشباب الجزائري مع جذور الماضي الاستعماري بطريقة عملية أكثر من المسؤولين الحكوميين، ويحاول بعضهم تجاوز هذه الحقبة بمبادرات لتقريب وجهات النظر بين البلدين. في حين أن البعض الآخر لا يهتم بهذا التاريخ ويحلم بالوصول إلى الطرف الآخر من البحر المتوسط بعد يأسهم من تحقيق أهداف حراكهم.
باريس - خلف التشنج الذي لا يزال يطبع الذاكرة بين فرنسا والجزائر هناك علاقات تاريخية وصلت آثارها إلى الجيل الجديد من الجزائريين الذين ينظرون إلى أبعد من الخلافات، ويرون أن الحاضر تحكمه معايير مختلفة ومصالحهم تقتضي تجاوز آلام الماضي الاستعماري خصوصا أنهم لم يحققوا أهداف الحراك الشعبي.
وترى الشابة الجزائرية مروة أنه “يجب الخروج من هذه النظرة إلى الأمور كمستعِمرين ومستعمَرين، مذنبين وضحايا”.
وتضيف الشابة البالغة 23 سنة “ليس كل شيء أسود أو أبيض بالكامل، كان هناك ألم وأخطاء من الجانبين”. ومروى عضو في مشروع “رؤى متقاطعة” الذي أطلقته في عام 2017 الجمعية الفرنسية لمناهضة العنصرية “أس أو أس راسيزم” وشريكها الجزائري جمعية “تجمّع – عمل – شباب”.
حوار هادئ
يشارك حوالي عشرين شابًا فرنسيًا وجزائريًا تتراوح أعمارهم بين 20 و34 عامًا، إلى جانب مروى في المشروع وهم من أحفاد المحاربين الجزائريين خلال الاستعمار الفرنسي والأقدام السود أو أحفاد الحركي (وهم الجزائريون الذي قاتلوا إلى جانب الجيش الفرنسي)، في هذا “الحوار الهادئ”.
وفترة الاستعمار الفرنسي للجزائر كانت بين 1830 و1962، إذ تقول السلطات الجزائرية ومؤرخون إن هذه الفترة شهدت جرائم قتل بحق قرابة 5 ملايين شخص، إلى جانب حملات تهجير ونهب للثروات. ولطالما شكلت ملفات الذاكرة المرتبطة بهذه الحقبة نقطة الخلاف بين البلدين.
مجموعات شبابية تعمل لإثراء مقترحات تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا حول المصالحة الفرنسية – الجزائرية
ويردد المسؤولون الفرنسيون في العديد من المناسبات ضرورة طيّ الجزائر لصفحة الماضي الاستعماري وفتح صفحة جديدة، لكنّ الجزائر طالبت مراراً باعتراف رسمي من باريس بجرائم الاستعمار، وحل ملفات مرتبطة باستعادة الأرشيف وتعويض الضحايا.
ويحاول الطرفان وجود صيغة مشتركة لحل الخلافات، حيث كلّف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يوليو 2020 رسميّاً المؤرّخ بنجامان ستورا بمهمّة تتعلق بـ”ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر”، بهدف تعزيز “المصالحة بين الشعبين الفرنسي والجزائري”.
وأرسلت الجزائر بدورها إلى باريس المؤرّخ الجزائري عبدالمجيد شيخي للعمل مع الجانب الفرنسي على الملفّات المتعلّقة بالذاكرة الوطنية واسترجاع الأرشيف الوطني.
لكن بعد أن أصدر المؤرخ الفرنسي ستورا تقريره حول مصالحة الذاكرة بين البلدين رفضت المنظمة الوطنية للمجاهدين هذا التقرير، واعتبرت في تسجيل مصور أنه تغاضى عن “جرائم الاستعمار”.
وأكد الأمين العام بالنيابة للمنظمة محند واعمر بلحاج أن ستورا “تغاضى في تقريره عن الحديث عن الجرائم المتعددة التي ارتكبتها الدولة الفرنسية، باعتراف الفرنسيين أنفسهم”.
وتطالب المنظمة بـ”اعتذار” الدولة الفرنسية عن الجرائم التي ارتكبها الاستعمار طيلة 132 سنة منذ احتلال الجزائر في 1830 إلى إعلان استقلالها بعد حرب تحرير دامت من 1954 إلى 1962.
ويحاول مجموعة من الشباب المنضمين لمشروع “رؤى متقاطعة” مساندة جهود المصالحة وتقريب وجهات النظر الرسمية. وبعد متابعة دورة تدريبية حول الاستعمار والحركة الوطنية الجزائرية وحرب الجزائر والذاكرات شكلوا مجموعات عمل لإثراء مقترحات التقرير الأخير للمؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا حول المصالحة الفرنسية – الجزائرية. ومن المتوقع صدور توصياتهم، بما في ذلك إنشاء ديوان فرنسي – جزائري للشباب، خلال هذا الصيف.
وباعتراف المنظمين أنفسهم كان التحدّي صعبا، فبعد ما يقرب من ستين عامًا على استقلال الجزائر لا تزال الذكريات مؤلمة.
وسبق لكثيرين أن فشلوا في هذا الحقل المليء بالألغام حيث ظلُّ “الشهداء” ومشاعر الظلم والمرارة على الجانبين يصعب تضميدها على الرغم من إجراءات التهدئة الأخيرة التي بادرت بها فرنسا.
موروث عائلي
أوضحت مروى التي شارك والدها في حرب التحرير بنقل الأسلحة والرسائل لحساب جيش التحرير الوطني و”استشهد” اثنان من أعمامها، “إنه حزن وألم ينتقلان من جيل إلى جيل".
واعترفت الشابة المقيمة في وهران أنها “تغذت” من القصص العائلية حول الحرب، حتى نشأت في طفولتها وهي تحمل “نوعا من الكراهية تجاه فرنسا والفرنسيين”.
وحصلت نقطة التحول في خريف 2019 بمناسبة زيارة سجن في مونلوك في ليون (وسط فرنسا) وهي إحدى محطات “جولة في فرنسا لأماكن الذاكرة” في إطار مشروع “رؤى متقاطعة”.
وتتذكر الشابة أنه ذات مرة قرأ أحدهم “رسالة من محارب جزائري محكوم عليه بالإعدام وبدأت أبكي” و“عندما استدرت، أدركت أن أعضاء آخرين في المجموعة يبكون أيضًا، أدركت في هذه المرحلة أنه لم يعد هناك مستعمر ومُستَعمَر، بل مجرد بشر لديهم حساسية تجاه هذه القضية مثلنا”.
والوعي نفسه حصل خلال هذه الرحلة للشابة ليا البالغة 22 سنة، وهي حفيدة حركي. وتتذكر لحظة “ودية للغاية وسلمية”، بعيدة كل البعد عن “الانتقادات المعتادة” التي استهدفت أحفاد الجزائريين الذين اختاروا الانضمام إلى الجيش الفرنسي أثناء حرب التحرير الجزائرية (1954 – 1962) وكانوا هدفًا لتصفية دموية بعد إعلان الاستقلال.
والجيل الجديد متعطش للتعلم ويبحث عن تفسيرات، كما عبر بفرح حكيم عداد العضو المؤسس لجمعية “تجمّع – عمل – شباب”، وهي جمعية مواطنة في طليعة الحراك المؤيد للديمقراطية في الجزائر.
وأضاف عداد وهو سجين رأي سابق أنه “مستعد لكسر جدار الصمت الذي أحاط به الجيل الأول نفسه في حين أن جيل ما بعد الاستقلال لم يجرؤ بعد على كسره بالكامل”.
الجيل الجديد متعطش للتعلم ويبحث عن تفسيرات ومستعد لكسر جدار الصمت الذي أحاط به الجيل الأول نفسه عن حقبة الاستعمار
وقالت ليا، القاطنة في مرسيليا (جنوب شرق فرنسا) “بالنسبة إلينا الأمور أحسن لأننا عندما نتحدث لا نذرف الدموع مثل آبائنا وأجدادنا”، وأضافت ”من المستحيل التحدث إليهم لأن الشفقة تدخل في الاعتبار على الفور، فلا يمكن للمرء أن يناقض شخصًا في نهاية حياته”.
أما نبيل (تم تغيير الاسم) طالب الكيمياء في وهران والبالغ 25 سنة فقال “لا ننسى ما حدث، فرنسا قامت بأشياء حقيرة في الجزائر وارتكبت جرائم مروعة، لكن هذا لا يمنعنا من التواصل”.
وحتى الشباب الذين لم ينخرطوا في مبادرات مصالحة من هذا النوع، فإن غالبيتهم لا يهتمون كثيرا بمسألة الخلاف، وأصبح حلمهم الوصول إلى فرنسا لتجاوز حالة اليأس التي تسيطر عليهم لبقاء الأمور على ما هي عليه بعد انطلاق الحراك الشعبي منذ عامين دون أن يحققوا أهدافهم.
وبينما تراجع عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى السواحل الإسبانية في المجمل إلى النصف خلال الأشهر الثمانية الأولى لعام 2020، فإن الجزائريين باتوا يمثلون ثلثي الواصلين، بحسب وكالة فرانتكس الحدودية الأوروبية.
وبحسب الأرقام الواردة في نتائج استطلاع عالمي قامت به الشركة الاستشارية الرائدة في مجال الإدارة الاستراتيجية “مجموعة بوسطن للاستشارات” فإن 84 في المئة من الجزائريين دون سن الثلاثين يرغبون في مغادرة بلادهم إلى الفردوس الأوروبي بغية الحصول على وظيفة مناسبة لخبراتهم العلمية والمهنية.
ويسعى 86 في المئة من الطلبة الجامعيين للخروج من بلادهم رغبة في الحصول على فرص أفضل للتعلم والتطوير الوظيفي وتحقيق الاستقرار المالي.

موجات الهجرة
بالرغم من أن الجزائر تزخر بالعديد من الثروات الطبيعية من بترول وغاز وطاقة متجددة، إضافة إلى الثروة الحيوانية والبشرية، و معدل الشباب فيها يشكل حوالي 70 في المئة، فإن حكوماتها المتعاقبة لم تنجح في استثمار تلك الثروات لتحسين واقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية لسكانها، فما كان منهم إلا البدء بموجات هجرة باحثين عن الخلاص من البطالة، التي تجاوزت معدلاتها في بعض الأحيان الـ35 في المئة.
ويغادر عشرات الآلاف من الكوادر والباحثين والمهندسين والأطباء المدربين بجهد الدولة الجزائرية وإمكانياتها البلاد كل سنة بحثا عن مستقبل أفضل في الخارج، ما يُشكل نزيفا حقيقيا لاقتصاد الجزائر ولمستقبل التنمية فيها.
ولا يزال إلى اليوم ماثلا مشهد تجمهر وتدافع الآلاف من الطلاب الجامعيين أمام المركز الثقافي الفرنسي من أجل إجراء اختبار في اللغة الفرنسية والحصول على تأشيرة السفر لفرنسا في أكتوبر 2017، وانتشرت الصور في مواقع التواصل الاجتماعي وأحرجت النخب السياسية الحاكمة في البلاد.
وكتبت صحيفة “ريفليكسيون” الجزائرية الناطقة بالفرنسية في 2019 وتحت عنوان “هروب العقول متواصل باطّراد في الجزائر” أن “الجزائر فقدت ما لا يقل عن مائة ألف شخص من حاملي الشهادات العليا منذ عام 1990، وهو ما يعادل عشر مليارات دولار يتعين استعادتها من البلدان التي تشغل الجالية الجزائرية”.
وترجع أسباب الرغبة في الهجرة للخارج لاعتبار فرص التعليم والتطوير المهني وكذلك لأن مستويات الأجور أفضل في أوروبا. بالإضافة أحيانا إلى دوافع شخصية أخرى كالبحث عن ثقافة أخرى وأسلوب حياة جديد. وفي فرنسا وحدها يعمل ما لا يقل عن خمسة آلاف طبيب جزائري.

ويقول متابعون إنه نتيجة للوجود الفرنسي الاستعماري في الجزائر ترسّبت علاقات لا يمكن القفز عليها، فوجود جالية جزائرية كبيرة في فرنسا أمر أدى حتما إلى وجود علاقات اجتماعية وروابط قوية ساهمت في ارتفاع مستوى حركة الأشخاص بين الجزائر وفرنسا.
ويظهر هذا جليا من خلال حجم إقبال الشباب الجزائري على طلب تأشيرات السفر إلى فرنسا تحديدًا، لأن فرنسا هي البلد الذي يملكون معه علاقات تاريخية، ولسهولة التبادلات الثقافية والاقتصادية، بفعل عامل اللغة حيث لا يجد الجزائري مشكلة في التواصل بالفرنسية.
ويشكل الطلاب جزءا هاما من طالبي التأشيرة إلى فرنسا لأن لديهم طموحات في صناعة مستقبلهم والحصول على شهادات معترف بها دوليا، إضافة إلى العمل في البحث العلمي بفرنسا، أو في بلد أوروبي آخر.
ويرجع ذلك أيضا إلى ضعف مستوى التعليم في الجزائر بكل أطواره بما في ذلك التعليم العالي، وانتشار الفساد وغياب الحلول الناجعة للمشاكل الاجتماعية.
وحتى في حال عدم الهجرة فإن الكثير من الشباب يوثقون الصلة مع فرنسا بطرق أخرى، فقد صرح غريغور تروميل مستشار مصلحة التعاون والنشاط الثقافي بسفارة فرنسا في الجزائر أن “أكثر من 100 ألف جزائري يشاركون سنويا في النشاطات المقامة بالمراكز الثقافية الفرنسية في الجزائر، والموجودة بالعاصمة وعنابة وقسنطينة ووهران وتلمسان، سواء في مجالات الموسيقى أو السينما أو الأدب أو الفن أو غيرها”.
والسؤال الذي يطرح: ماذا بعد الآن، إذا كان قد تم إرساء الأسس، فهل يتفق الجميع على أنه لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به والقليل يتغذى على الأوهام في ضوء الأزمة السياسية الحالية في الجزائر؟
وفصّلت مروى المسألة بأنه لا يمكن الاعتماد على “الإرادة الحسنة للحكومات لأن ذلك لن يحصل أبدا” واقترحت الاعتماد بدلاً من ذلك على النشطاء والمؤرخين والمجتمع المدني.
من جهته أكد ماتياس الشاب الفرنسي البالغ 22 عامًا والذي كان جده يعمل في الجزائر “نحتاج إلى هذه الأمثلة من لحظات الأخوة لكن علينا الانتقال إلى شيء أكبر. يجب أن نبعث الرغبة والأمل في مصالحة تنتقل بعد ذلك إلى الأجيال الأخرى”.