الانتحار في المجتمع العراقي اسمه مخدر "الشبو"

لم يعد العراق مجرد نقطة عبور للمخدرات، بل أصبح مقصداً في حد ذاته على مدى السنوات القليلة الماضية مع تصاعد العنف وتزايد الفقر. وتفاقمت ظاهرة تعاطي مخدرات “الكريستال ميث” في المجتمع العراقي خاصة حتى أصبحت وباء يدمر البلاد وضاعف الإنكار في خطورته.
بغداد - وصل الحال بعلي وهو شاب عراقي يبلغ من العمر 27 عاما لبيع أنبوبة غاز طهي سرقها من موقد والديه، ويقول علي “حين فعلت ذلك أدركت متأخراً أنَّ الشبّو هي التي تستهلكني، وليس العكس”. كان علي قد باع بالفعل هاتفه النقّال وكراسي المنزل والسرير وحتى المرتبة التي كان ينام عليها لشراء بضعة غرامات إضافية من مخدر الميثامفيتامين البلّوري المعروف باسم “كريستال ميث”.
أُلقى القبض على علي مصاباً بالحمى عند نقطة تفتيش في أحد الأحياء المتهدمة بمدينة بغداد. قال علي من مركز شرطة القناة في شرق بغداد، حيث يقضي عقوبة مدتها 4 أشهر لحيازته مادة مخدرة، “كنت في عالم آخر، نريد جميعاً الهروب من حياتنا البائسة”.
يُعد علي، وهو اسم مستعار، واحداً من الآلاف من مدمني مخدر الميثامفيتامين البلّوري في العراق، البلد الذي لم يكن حتى وقت قريب يعاني من انتشار إدمان المخدرات حتى عندما اجتاح الأفيون والهيروين دولاً مثل إيران وأفغانستان.
وتدمر هذه المادة المنشطة المسبّبة للإدمان، التي اخترعتها اليابان واستخدمتها خلال الحرب العالمية الثانية لإبقاء الجنود مستيقظين، جهاز المناعة وينتج عنها العديد من الآثار الجانبية المهددة للحياة، ومن ضمنها فشل وظائف القلب والكلى وفقدان كبير للوزن.
صنفت العراق قبل سبع سنوات على أنه بلد عبور للمخدرات بشكل أساسي، ما يعني أن المخدرات تعبر من خلاله إلى مناطق أخرى. لكن هذا تغير الآن، إذ أصبح العراق ينتج مخدر الكريستال ميث
ومع ذلك، لا تردع المخاطر الإضافية لفايروس كورونا متعاطي هذه المادة المخدرة.
وقبل سبع سنوات صنفت الأمم المتحدة العراق على أنه بلد عبور للمخدرات بشكل أساسي، ما يعني أن المخدرات تعبر من خلالها إلى مناطق أخرى. لكن هذا تغير الآن، إذ يمكن الآن شراء مجموعة من المخدرات التي تسبب الإدمان في العراق بالإضافة إلى الحشيش.
ويقول راينر بونغس خبير الكيميائيات الطليعية المستخدمة في صناعة المواد غير المشروعة بوكالة المخدرات التابعة للأمم المتحدة إنّه “من المحتمل أنّ العراق ينتج الكريستال ميث الآن، نظراً لأنّه استورد أطناناً من السودوإفدرين، بحسب تقرير الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات العام 2018. إذ يمكن استخدام المادة التي تزيل احتقان الأنف والموجودة في أدوية الحساسية والبرد لصناعة الكريستال ميث”. ومدة الانتشاء بالكريستال تطول لنحو ثلاثة أيام ويصاب الفرد في هذه الفترة بهلوسة شديدة ويبقى محدقاً في نقطة معينة للعديد من الساعات فضلاً عن سلوك لاشعوري قد يقوم به كالاعتداء على الناس أو الانتحار، وبالإضافة إلى الكبتاغون يتم تهريب الحشيشة والحبوب المخدرة إلى العراق.
وفي السابق كان العراق يفرض عقوبة الإعدام على متعاطي المخدرات وتجارها ما أثمر رعباً في صفوفهم. غير أن بول بريمر الحاكم المدني من قبل سلطة الاحتلال الأميركية للعراق أبدلها بالسجن المؤبد. وجاء هذا التغيير في ظل فساد كبير عمّ القضاء ووزارتي الداخلية والعدل، ما أفضى إلى إطلاق سراح حيتان الكريستال ميث وغيرها من الأصناف. وسن قانون جديد في 2017 يمكن بمقتضاه أن يأمر القضاة بعلاج المتعاطين في مراكز التأهيل أو الحكم بسجنهم فترة تصل إلى ثلاث سنوات.
وذكر عالم الاجتماع العراقي خالد حنتوش رئيس اللجنة الحكومية المكلفة بمتابعة ملف المخدرات في الجنوب أنّ “سبب تفشي ظاهرة الإدمان والاتجار بالمخدرات هو التساهل القانوني بعد العام 2003، إذ تغيرت العقوبة الرادعة من الإعدام والسجن المؤبد إلى العلاج الصحي والنفسي في المصحات بالنسبة إلى متعاطي المخدرات والسجن من (5- 15) سنة بالنسبة إلى مروّجيها”.
واقع صعب
يعاني المجتمع العراقي من أزمات اجتماعية واقتصادية طاحنة، بالرغم من أنّ العراق عضو في منظمة أوبك التي تضم كبار منتجي النفط في العالم، لكن يبدو أنّ ثمار تلك الوفرة لم تصل بعد إلى الملايين من العراقيين ويتّجه عدد متزايد من العراقيين إلى الميثامفيتامين البلوري للهروب من الواقع الصعب المتمثّل في معدلات البطالة المرتفعة والفساد المستشرٍي في جميع مناحي الاقتصاد وبنية تحتية متهالكة لبلد ينتقل من صراع إلى صراع منذ الغزو الأميركي عام 2003.
ووفقاً لتقرير أصدرته مؤسسة “المجلس الأطلسي” في فبراير الماضي فإنَّ حوالي 60 في المئة من سكان العراق تقل أعمارهم عن 25 عاماً في حين تشير التقديرات إلى أنَّ نسبة البطالة بين الشباب تبلغ 36 في المئة.
ويتم استعمال بلورات الكريستال ميث مراراً عبر تعريضها للحرارة وشم الدخان المتصاعد منها، ويأتي تكرار حرقها أكثر من مرة ليزيد من سُمّيتها بالإضافة إلى استثمارها حتى أقصى حد، ويحمل المتعاطي أنبوباً زجاجياً وقداحة كمستلزمات ضرورية لاستنشاق “الشبّو” وهو الاسم المحلي للكريستال.
وهناك جانب آخر لا يتم الالتفات إليه وهو سهولة تصنيع الكريستال حتى في المنزل وبمكونات متاحة في الغالب، فهو في النهاية مركب كيميائي وليس مستخلصاً من شجرة الكوكا كالكوكايين.
وتزداد الصورة قتامة في العشوائيات والأحياء الفقيرة حيث تنساب خيوط الدخان المنبعثة من يأس المعدمين المخلوط بالكريستال ميث، وتتكثف في الصدور المرارة شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى لحظة الانزلاق نحو الهاوية.
ولا يبدو المجتمع والحكومة العراقية مستعدين للتعامل مع الأزمة نظرا لأنها لا زالت جديدة عليهما، باستثناء الحل المتمثل في وضع المتورطين في السجون.
وقال الرائد شاكر عزيز من قسم مكافحة المخدرات في شرطة البصرة “انتشار المخدرات سببه البطالة. شبابنا تائهون، ليس عندهم مال، أصبحوا كارهين للحياة فلذلك يهربون من هذه الحياة”.
دول الجوار سبب البلاء

ويسلط الوضع في السجون الذي يفاقمه عدم وجود مراكز لعلاج المدمنين الضوء على التناقض بين الثروة التي تنتجها محافظة البصرة، إذ يمثل إنتاجها من النفط 90 في المئة من إيرادات الدولة، وسوء الأوضاع المعيشية فيها.
فمدينة البصرة التي يبلغ عدد سكانها أربعة ملايين نسمة كانت تشتهر في فترة من الفترات بأنها فينيسيا الشرق أما الآن فهي تفتقر إلى المياه النقية ولا تكفي الكهرباء فيها لتشغيل أجهزة تكييف الهواء خلال الحر القائظ في فصل الصيف. وقال رشيد فليح قائد شرطة البصرة السابق في نوفمبر إن 80 في المئة من المخدرات التي تدخل المدينة مصدرها إيران، إلا أن طهران نفت ذلك لكنّ مسؤولين مازالوا يشيرون بأصابع الاتهام بشكل غير مباشر إلى إيران مستخدمين عبارات مثل “دول الجوار”.
وتمثّل المحافظات الحدودية الجنوبية، مثل البصرة وميسان، المركز الرئيسي لعصابات ترويج هذا المخدر. ويقول أحد السكان المحليين في البصرة “ثمة عصابات قوية دأبت منذ فترة طويلة على تهريب الكريستال ميث إلى داخل البلاد”، وكثيرا ما يتم استخدام النساء لنقل هذا المخدر لأنهن لا يتعرضن لكثير من عمليات التفتيش. ويقول أحد سكان البصرة “لا يوجد أيّ مكان يذهب إليه الشباب هنا في البصرة أو أيّ شيء يفعلونه. لا يوجد عمل، لا توجد متنزهات، ولا حتى دور سينما”. وأضاف “عاش الشباب حروباً متعددة. المدمنون الذين تحدثت إليهم ليس لديهم عمل أو هوايات، ولا سبيل آخر لديهم للهروب سوى المخدرات”.
ظاهرة تعاطي مخدر الكريستال ميث وباء تتفاقم خطورته منذ تفشي جائحة فايروس كورونا في العراق
وأدّى إدمان الكريستال ميث إلى إرهاق نظام العدالة الجنائي العراقي المُثقل فعلياً بالأعباء والمشكلات. وقالت فرق مكافحة المخدرات في سجن القناة العراقي، حيث يقضي علي عقوبته، إنَّ زنزانات السجن باتت مكتظة بكامل طاقتها الاستيعابية.
وأفاد ضباط أنَّ الأرقام ارتفعت بصورة كبيرة منذ عام 2017 مع تدهور الحالة الاقتصادية في البلاد وانخفاض سعر الكريستال ميث نظراً لانتشاره وسهولة الوصول إليه. وقال الرائد يابار حيدر “سجّلنا زيادة في أعداد المدمنين بنسبة 40 في المئة منذ عام 2017، وزيادة في عدد سماسرة المخدرات بنسبة 30 في المئة”.
وقال عباس ماهر السعيدي قائم مقام مدينة الزبير بمحافظة البصرة، والتي يسكنها 750 ألف نسمة، إن “السلطات الحكومية خجولة للغاية في التعامل مع هذا الوضع”. وأضاف السعيدي “هم لا يعترفون بالمشكلة بسبب التقاليد الاجتماعية، كما أن وسائل الإعلام لا تناقش المشكلة”.
وأفادت وزارة الصحة العراقية أنَّ تعاطي الكريستال ميث بات الأكثر شيوعاً في العراق بعد الكحول. وأظهرت أحدث البيانات أنَّ 813 شخصاً يتعافون من إدمان الكريستال ميث في مراكز إعادة التأهيل التابعة للحكومة، وهو ما يفوق بكثير نسبة تعاطي أيّ مادة مخدرة أخرى.
وقال عاملون في القطاع الصحي إن ظاهرة تعاطي الكريستال ميث وباء تتفاقم خطورته منذ تفشي جائحة فايروس كورونا في العراق.
وأشار قاسم ورش كبير الممرضين في مستشفى “ابن راشد” للطب النفسي، وهي الوجهة الرئيسية لعلاج الإدمان وإعادة التأهيل النفسي في العراق، “يدمر مخدر الكريستال ميث النظام المناعي لجسم الإنسان، الأمر الذي يجعل المدمن عرضة للإصابة بجميع الأمراض، ومن بينها فايروس كورونا”.
عقوبة السجن ليست حلا
أكد الطبيب أرجان طوقاتلي “نحن في حاجة إلى الآلاف من الأسرّة في جميع أنحاء البلاد لكنّنا لا نملكها. على سبيل المثال لا يوجد في مسقط رأسي كركوك سوى 8 أسرة فقط”.
ويشير أحمد الذي يتعافى في المركز من إدمان المخدرات أنَّ مروّجي المخدرات يستخدمون طرقاً مبتكرة على نحو متزايد لجذب عملاء جدد. على سبيل المثال، بدلاً من بيع بضاعتهم بأنفسهم في الشارع والمخاطرة بدخول السجن، بدأ مروجو المخدرات إعطاء كميات صغيرة من الكريستال ميث مجاناً لمن يعيشون داخل مجتمعات مهمشة أو فئات ضعيفة غير مستقرة نفسياً، بهدف جذب أعداد جديدة من المدمنين تتوسل فيما بعد من أجل الحصول على المزيد.
وقال أحمد من سريره في المستشفى “يدفعك الإدمان إلى سرقة أيّ شيء لتدفع ثمن الحصول على جرعة المخدر. وبذلك يتحول بعض المدمنين إلى العمل كمروجي مخدرات لتأمين ثمن الجرعات الخاصة بهم”. وأضاف “كنت سأكون متزوجاً ولديّ عائلة وعمل لولا إدمان الكريستال ميث. لقد استنزف حياتي وسلبها مني”. وباع أحمد كل ما يملكه بسبب الإدمان، وسرعان ما ابتعد عن عائلته وأصدقائه الذين أخبروه أنَّه لا يستطيع العودة إلى المنزل حتى يشفى تماماً.
وأوضح أحمد أنَّه وصل إلى مرحلة عانى فيها من هلوسة مرعبة قائلاً “تسبّب الإدمان في تدمير جهازي الهضمي وتضررت ذاكرتي. أصبحت مثل رجل يبلغ من العمر 90 عاماً”.
كما أكَّد عاملون في مستشفى “ابن راشد” أنَّ ثمة حاجة إلى بناء المزيد من المراكز والمستشفيات المُخصّصة لعلاج الإدمان في جميع أنحاء البلاد لأنَّ عدد المدمنين يتزايد ودخولهم السجن ليس حلاً مناسباً.
ولم يكن إدمان مخدر الكريستال ميث مشكلة مصيرية بالنسبة إلى علي وأحمد فحسب، بل لجيلهما بأكمله. وقال أحمد “أدّى هذا المخدر إلى تدمير حياة الشباب العراقي، وقضى علينا بالفعل وسيقضي على جيل بأكمله”.