صناعة "الكاليس" في تونس يطويها النسيان

رغم تقلص أعداد مستعمليها يحافظ "ملك صناعة الكاليس" على هذه المهنة التي تكاد تندثر بعد أن توفي أغلب العاملين فيها ولم يعد شباب اليوم يقبل على توارثها.
الأربعاء 2021/04/07
فسحة  على عجلة التاريخ

هل علينا أن نتخلى عن وسائل النقل التقليدية البطيئة في ظل عصر السرعة الذي لم يعد يحتمل تضييع الوقت ؟ نعم لكن علينا ألا نتخلى عمّا يميز البلاد من هذا الوسائل. فـ”الكاليس” في تونس باعتباره عربة فخمة تجرها الخيول قد بدأت صناعتها تندثر.

صفاقس (تونس)- رغم صعوبة صناعة “الكاليس” (العربة المجرورة بالخيول) وقساوة ظروف العمل في هذا المجال، لا يزال التونسي محمد الشرفي أو “ملك صناعة الكاليس” كما يسميه أهالي صفاقس، محافظا على حرفة صناعة الأجداد.

و”الكاليس” عربة البايات والأغنياء في القديم تجرها الخيول وتقابلها “الكريطة” التي تجرها الحمير للفقراء والفلاحين وتستعمل لنقل الأشخاص والأمتعة وغيرها من الأثقال.

في ورشة صغيرة تقليدية تقع على أطراف مدينة صفاقس جنوبي تونس، استطاع الخمسيني محمد الشرفي بتفانٍ تطويع الحديد وصهره بالنار وتقطيع ألواح للحصول على عربات وبيعها لزبائن يستخدمونها إما لنقل الأشخاص أو كوسيلة نقل تروق للسياح في مدن عديدة أخرى مثل قابس وتوزر وسوسة وبنزرت ونابل والحمامات.

ولا تزال ذكريات عقود خلت عالقة بمخيلة الحرفي التونسي عندما كانت ولاية صفاقس تعج بالعشرات من محترفي صناعة هذا الصنف من العربات، حين كانوا يشكلون خلية نشاط ويتفننون في صناعة المجرورات بمختلف ألوانها وأشكالها. ويعد الشرفي أحد القلائل الذين لا يزالون يمارسون هذه المهنة التي تكاد تندثر، بعد أن توفي أغلب العاملين فيها مع ما حفظته أناملهم من حرفة جميلة نادرة.

ويعود أصل كلمة “كاليس” إلى اللغة الإسبانية “كاليزا”، وقد انتشر استخدامه مع هجرة الأندلسيين للبلاد التونسية (سنة 1609)، وراج بكثرة في صفاقس صناعة واستعمالا باعتباره وسيلة النقل الوحيدة آنذاك.

واحتفظ الشرفي بطرق النقل التقليدي التي كانت متداولة في ولاية صفاقس خلال خمسينات القرن الماضي، فاقتبس المشاهد والروايات وحافظ على صناعة الأجداد للمجرورات بالخيول، رغم تقلص أعداد مستعمليها.

كاليس كاليس
كاليس كاليس
كاليس كاليس

تختلف مسميات وأشكال المجرورات حسب المهمة التي صنعت لأجلها، فمنها ما يسميه التونسيون بلهجتهم العامية “الكرّيطة الكبيرة” أو “الكارو” أو “البطاح” التي تستعمل لنقل البضائع الثقيلة والمنتجات الفلاحية، ومنها “الكاليس” الذي غالبا ما نجده حاضرا في أغلب المنازل كوسيلة أساسية للنقل، وكذلك “الجرادن” وهي بمثابة مجرورة تحمل إسطوانة صغرى تستعمل لجلب المياه.

وبحسب الشرفي، فإن مراحل تصنيع المجرورات تتطلب تفاعل مختلف الحرف في ما بينها كالنجارة والحدادة، كما تتطلب خبرة ودراية هامة حتى تستقيم مراحلها، والتي تأخذ من الحرفيين حيزا كبيرا من الوقت والجهد، حيث تتطلب صناعتها من أسبوع إلى أسبوعين.

ومن أهم هذه المراحل، تقطيع الخشب بعد أن يتم قياسه ومن ثم ثقبه بطريقة دقيقة حتى يتوافق مع طول وهيكل المجرورة المقترح إنجازها، وفقا للحرفي. ولفت إلى أنه بعد ذلك تأتي مرحلة تحضير الحديد يدويا، وهي أن يقوم الحرفي بتدويره والتحكم في أشكاله واتجاهاته بواسطة التسخين بالنار تحت درجة عالية، سرعان ما تغير لونه إلى الأحمر القاتم، ثم وضعه بين المطرقة والسندان للتحكم في أشكاله ومقاساته ورسم زواياه.

تأتي إثرها مرحلة التركيب، وهي أن يثبت الخشب بالحديد من خلال الجمع بين الثقوب التي في كليهما بواسطة المسامير والبراغي الحديدية السميكة، ثم وضع الكرسي وتثبيته جيدا على الحديد. إضافة إلى تثبيت العجلات المطاطية بالنسبة إلى المجرورة التي تحمل البضائع الثقيلة كالمسماة “الكريطة الكبرى” و”الجردينة”، أما العجلات الحديدية فهي مخصصة لـ”الكاليس” كونه لا يحمل سوى الركاب والأشياء الخفيفة.

وينتقل بعدها الحرفي إلى مرحلة الطلاء، وهي أن تزخرف المجرورة بالألوان من أجل المحافظة على سلامتها وجمالها حتى تضفي رونقا وطابعا مميزا وجذابا. ويستعمل “الكاليس” اليوم للتجول أو لحمل المتاع خلال الفسحة في الأراضي الفلاحية أو للأغراض السياحية بعد زخرفتها وتزيينها بالنواقيس في صورة تحاكي الأساطير والحكايات والقصص الخيالية، حيث لم يعد من الضروريات بحلول السيارات والدراجات النارية.

ومن الشباب اليوم من يتخذ من “الكاليس” وسيلة نقل له في ليلة زفافه بدل السيارات الفخمة ليتجول مع عروسه في شوارع المدينة ليجعل هذا الحدث السعيد في حياته مختلفا عن بقية حفلات الزفاف، فيضفي عليه مناخا أسطوريا ليظل عالقا بالذاكرة.

"الكاليس" عُرف مع هجرة الأندلسيين إلى البلاد التونسية في بداية القرن السابع عشر وراج استعماله كوسيلة النقل الوحيدة

ومن عادات سكان بعض المدن خلال حفلات الختان أن تطوف العائلة بابنها في شوارع المدينة وهو مزهوّ في جبته المطرزة وشاشيته الحمراء، وكأنه باي صغير في ذلك اليوم، لكن مثل هذه العادات بدت اليوم نادرة. ويتراوح سعر المجرورة بين 2 و15 ألف دينار تونسي (بين 730 دولارا و5.5 آلاف دولار)، ويتغير السعر حسب حجمها ومميزاتها واستعمالاتها.

ويخشى الشرفي على هذه الحرفة من الاندثار، إذ أن الشباب لم يعد يقبل البتة على توارثها، مما دفعه إلى تلقين ابنه خريج المعهد العالي للرياضة أصول الحرفة وتفاصيلها، وحثه على عدم تركها للحفاظ على استمرار حرفة الأجداد.

ومن بين أبرز مشكلات هذه الحرفة أن عدد المقبلين على شرائها في تقلص، مقابل ارتفاع كلفتها وأسعار المواد الأولية المكونة لها، خاصة وأن الحركة السياحية قلت في السنوات الأخيرة وباتت شبه منعدمة مع تفشي فايروس كورونا في أنحاء العالم وشل حركة السياح القادمين إلى البلاد التونسية. وكان السياح يفضلونها في مدينة سوسة والحمامات على السيارات العصرية للقيام بجولة قبل الغروب في الشوارع الرئيسية و”الكورنيش”.

إضافة إلى هذه العوامل، فإن السلطات المعنية بالصناعة التقليدية والسياحة لا تبدي أي نوع من الإحاطة بمثل هؤلاء الحرفيين، لذلك عزف عنها الشباب مما يعني أنها في مسار الاندثار، وفق الشرفي.
وتعد صناعة العربات المجرورة بالخيول إحدى أبرز الصناعات التقليدية اليدوية الكثيرة التي تواجه خطر الاندثار والتلاشي، إذا لم تقابلها وقفة حازمة من السلطات المعنية، فبناء المستقبل يبقى رهين المحافظة على التاريخ.

20