فوضى دبلوماسية في إدارة بايدن بشأن التعامل مع أوروبا

يبدو الخوض في مسألة ترميم العلاقات بين الأميركيين والأوروبيين وتعزيزها في ظل إدارة الرئيس جو بايدن مرتبطان بشكل جوهري باستراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وليس بعلاقة الأوروبيين مع أعداء واشنطن الصين وروسيا. وتبعا لذلك يرى محللون أنه من الأجدى رؤية طبيعة ما يحدث داخل أوروبا قبل كل شيء، ثم لاحقا الانتباه إلى نمط الدبلوماسية الذي تتبعه إدارة بايدن والتي يراها أعضاء في حلف الناتو متسمة بالفوضوية.
واشنطن – استقبل الجميع الرحلة الافتتاحية لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى أوروبا الأسبوع الماضي باعتبارها استعادة لطيفة للتحالف عبر الأطلسي. وبعد مرور أربع سنوات على العلاقات المتوترة وتجاهل الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، فإن إدارة الرئيس جو بايدن مطالبة بأن تجعل استعادة العلاقات الدافئة مع الحلفاء هدفها الأعلى في أوروبا.
وهنا تكمن المشكلة، ونظراً لحجم التحدي الذي تشكله الصين، فإن تقوية التحالفات مع أوروبا وتعميق العلاقات الأميركية الأوروبية يعتبران أمراً ملحاً وضرورياً. لكن إدارة بايدن تخاطر بأن تخلط بين رؤية العلاقات المحسنة والنجاح الاستراتيجي.
والأهم من ذلك، فإنه لو تم الأخذ باعتقاد الأوربيين بأن هناك فوضى في مواقف إدارة بايدن تجاه منطقة الشرق الأوسط، فإنه من الضروري النظر لحجم الخلافات بين الأوربيين أنفسهم قبل الحكم على السياسة الجديدة للولايات المتحدة.
العبرة بالنتائج الملموسة
ما تحتاجه الولايات المتحدة في أوروبا ليس رؤية ردود فعل إيجابية، بل لا بد أن ترى نتائج محددة في سياسات الحلفاء من أجل تعزيز الموقف الاستراتيجي للغرب ككل في حقبة المنافسة الشديدة مع الصين.
ويقول أ. ويس ميتشل مدير في مبادرة ماراثون ومساعد سابق لوزيرة الخارجية لأوروبا وأوراسيا خلال إدارة ترامب في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” إن التصرف كما لو أن تقريب العلاقات عبر الأطلسي هو الهدف وليس النتائج الملموسة يمكن أن يعرض للخطر التقدم في هذا الهدف الأكبر لثلاثة أسباب.
وأولى تلك الأسباب، يفترض أن يدركه الرئيس بايدن هو سلوك الولايات المتحدة باعتباره أهم المشكلات، التي يجب حلها، مما يجعل واشنطن تظهر بمظهر المذنب الذي يحتاج إلى أن يتوب. وتدور معظم أهداف هذا النهج في أوروبا حول سلوك الولايات المتحدة التي يجب أن تعالج بعض الأخطاء المتصورة التي تسببت في حدوثها.

أ. ويس ميتشل: يجب التسلح بمفهوم محدث للناتو يطابق الحقائق الجيوسياسية
وفي الممارسة العملية، تُرجم هذا إلى سلسلة من الامتيازات، مثل إعادة الانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ، وعرض العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وإلغاء مقاومة الولايات المتحدة للضريبة الرقمية، وإلغاء التعريفات الجمركية على السلع الأوروبية، وما إلى ذلك.
وحتى لو كانت إدارة بايدن تعتزم اتخاذ هذه الخطوات على أي حال، فإن كل هذه التنازلات تمثل تبديداً للنفوذ الذي تم بناؤه في عهد ترامب، والتي كان من الممكن استخدامه بشكل مشروط لتأمين التنازلات الأوروبية في التجارة أو سياسات الطاقة أو الإنفاق الدفاعي.
أما السبب الثاني، يبدو أن نهج بايدن قائم على افتراض أن إعادة مشاركة الولايات المتحدة ستؤدي في حد ذاتها إلى إحداث تغييرات سياسية مواتية من جانب الأوروبيين. ويرى ميتشل أن هذه نتيجة منطقية لفكرة أن سلوك ترامب كان العقبة الرئيسية أمام التقارب عبر الأطلسي، وبإزالة ترامب سيأتي الحلفاء.
لكن ما تغفله هذه المقاربة أن العلاقات الثنائية للولايات المتحدة مع عدد من الحلفاء الأوروبيين بما في ذلك المملكة المتحدة وبولندا واليونان تحسنت بشكل ملحوظ في عهد ترامب. وعندما لم يتفق الأوروبيون مع الرئيس السابق، كان ذلك لنفس السبب الذي جعلهم لا يتفقون مع سلفه، باراك أوباما لأنهم لم يروا أن ذلك في مصلحتهم.
ويمكن إثبات أنه في حالات معينة مثل الإنفاق الدفاعي، أثبت نهج ترامب أنه أكثر فعالية، وقد تتفاجأ الإدارة الجديدة عندما تجد أنه بعد انتهاء هذه الزيارة الافتتاحية، أصبحت أوروبا أقرب إلى دعم أهداف الولايات المتحدة قليلاً.
ويتمحور العامل الثالث حول ما إذا كان نهج بايدن سيؤدي إلى حدوث نتائج عكسية إذا ما تم ترجمته إلى فرض ضغط أقل من قبل الولايات المتحدة على الحلفاء لإجراء التغييرات المطلوبة في السياسة.
ويؤكد ميتشل أنّ كلا الهدفين الاستراتيجيين لواشنطن في أوروبا، بشأن جعل الحلفاء أقل عرضة للضغط من روسيا والصين وجعلهم في تحالف مع الولايات المتحدة والدول الآسيوية الصديقة لموازنة القوة الصينية يتطلبان في النهاية من الأوروبيين القيام بأشياء لا يرغبون في فعلها.
مقاييس التقارب

يكمن الخطر في أن إدارة بايدن، في سعيها للتراجع عن سياسات ترامب، ستقتنع فقط بالمكاسب الظاهرة أي عقد بعض القمم بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واتفاقات مناخية واستعادة الاتفاقية النووية مع إيران، التي ستجنّبها لعب دور الشرطي السيء، ولكنها لن تترجم إلا إلى القليل من النتائج الملموسة.
ولا يعني أي من هذا أن إدارة بايدن يجب ألا تسعى إلى التقارب مع الحلفاء لأن هذا التقارب ضروري جداً، لكن يجب أن يهدف هذا التقارب إلى نتائج استراتيجية ملموسة. ماذا يجب أن تكون مقاييس هذه المقاربة؟
بينما صرح بلينكن في بروكسل أن هذا ليس اختيارا بين “نحن أو هم”، لكن الأمر في الواقع كذلك. فأعضاء الناتو الأوروبيون هم، في النهاية، حلفاء للولايات المتحدة، وليسوا للصين.
ولذلك، يجب أن يكون هدف الإدارة الأميركية بحلول 2024، هو مواجهة الصين من خلال الاختباء وراء سياسات ومنصات حلف الناتو وأن يكون لديها أجندة استراتيجية شاملة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تشمل تنسيق اللوائح الرقمية، وتشديد القيود على التكنولوجيا الصينية والاستحواذ على البنية التحتية، والمبادئ المتفق عليها مثل إصلاح منظمة التجارة العالمية.
وفي حين أن بايدن لم يذكر تقاسم الأعباء في خطابه في مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير الماضي، فإن الولايات المتحدة بحاجة ماسة إلى أوروبا لقبول مسؤولية أكبر للتعامل مع روسيا حتى تتمكن أميركا من تركيز المزيد من الاهتمام العسكري على غرب المحيط الهادئ.
الاعتقاد بأن تقريب العلاقات عبر الأطلسي هو الهدف وليس النتيجة يمكن أن يُعرض للخطر التقدم في هذه الخطوة
وسيكون من المفترض بنهاية فترة ولاية بايدن أن تكون الإدارة الأميركية أقنعت باقي الدول، وهي إيطاليا وهولندا، وقبل كل شيء ألمانيا، للامتثال التام لتعهداتها في قمة ويلز التي عقدت في 2014، بما في ذلك إنفاق ما لا يقل عن 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.
وفي هذا الجانب، يرى ميتشل أنه يجب أن يكون لدى إدارة الرئيس بايدن أيضا مفهوم استراتيجي محدث للناتو يطابق الحقائق الجيوسياسية الجديدة.
وبينما أسقطت الإدارة الجديدة معظم تعريفات ترامب الجمركية ضد الشركات الأوروبية، فإن المشكلات الأصلية التي أثارت غضب الولايات المتحدة، مثل الحواجز التنظيمية وغير الجمركية المرتفعة الخاصة بالاتحاد الأوروبي، لا تزال قائمة.
ولذلك، ينبغي للإدارة أن تنجح في إقناع الاتحاد الأوروبي بالتوقف عن الحفاظ على التعريفات الزراعية التي هي أعلى بكثير من تلك الخاصة بالولايات المتحدة، والتوقف عن التمييز ضد شركات التكنولوجيا الأميركية، بينما يوافق في الوقت نفسه على الأنشطة الاحتكارية الصينية والروسية.
وفي حين أن الإدارة الجديدة جعلت تعزيز الديمقراطية ركيزة أساسية في سياستها الخارجية، هناك عدد من الدول ذات الأهمية الاستراتيجية ولكنها ضعيفة من الناحية السياسة إذ هناك حاجة للمشاركة الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية للولايات المتحدة لمنع انتشار النفوذ الروسي والصيني.
كما ينبغي على واشنطن أن تكون قد نجحت في ثني تركيا عن طلب أنظمة صواريخ روسية من طراز أس – 400، وإخراج شركة هواوي الصينية وبنك الاستثمار الدولي الروسي من المجر، وإخراج إيطاليا من مبادرة الحزام والطريق، وإشراك جميع الدول الأوروبية كأعضاء في برنامج “الشبكة النظيفة” الأميركي.
ولا تكمن النقطة هنا في وضع معايير وحدود مستحيلة، ولا أن يمكن القول إن نهج إدارة بايدن محكوم عليه بالفشل. فكل إدارة تستحق أن تحظى بوقتها لترسخ أقدامها. ولا داعي لإنكار أن إدارة ترامب تستحق الانتقاد بسبب نهجها تجاه الحلفاء، الذي كان في بعض الأحيان يأتي بنتائج عكسية.
وبدلاً من ذلك، فإن النقطة الذي يراها ميتشل مهمة، هي أن التودد للحلفاء مهم أيضاً بقدر ما يؤدي إلى نتائج قابلة للقياس ومهمة من الناحية الاستراتيجية.
وحتى أكبر داعمي التعاون الأطلسي يجب أن يضعوا في اعتبارهم دائمًا أن جميع التحالفات، بما في ذلك تلك التي يفضلونها عن غيرها، ليست غايات في حد ذاتها ولكنها وسيلة لتعزيز المصلحة الوطنية. ولذلك يجب تقييم هذه التحالفات، وسياسات الولايات المتحدة تجاهها، من خلال النتائج، وليس من خلال التودد والنوايا الحسنة فقط.