شاكر عبدالحميد ناقد ووزير مصري حفر في ظاهرة التطرّف ومشكلات العرب

غيّب وباء كورونا شاكر عبدالحميد وزير الثقافة الأسبق في مصر وأحد أبرز النقاد العرب وأغزرهم إنتاجا عن عمر يقارب التسعة والستين عاما. وبدا غياب الرجل الخميس موجعا للوسط الثقافي الذي احتشد فور تناقل خبر إصابته بفايروس كورونا للتضامن معه والدعاء له والكتابة عن قيمته وأفضاله على الثقافة المصرية والعربية.
وإذا كان من النادر في بلداننا العربية أن نجد كاتبا أو ناقدا محل اتفاق، فكل مثقف محبوب لدى البعض هو بالضرورة مرجوم ومرفوض لدى آخرين، لكن هناك مَن يمثلون كسرا لذلك القانون، إذ تجد اتفاقا واحتشادا من الجميع على محبتهم وتقديرهم، وعبدالحميد واحد من هؤلاء.
يمثل عبدالحميد نموذجا فذاً للمثقف الموضوعي، الراصد للجمال، الباحث عن المواهب، المكتشف للإبداع، والمنصف لها (المواهب) بغض النظر عن الجيل الذي تنتمي إليه. تجاوز كونه وزير ثقافة سابق أو حتى أمين عام للمجلس الأعلى للثقافة. كان مسؤولا عن إدارة منظومة الإبداع في هذا البلد الكبير، كما تجاوز كونه ناقدا مُتمرسا قادرا على تفكيك وتحليل مدارس الأدب القائمة والمستحدثة وقراءة تطورها. وتجاوز أيضا كونه كاتبا ومترجما ومؤلفا للعشرات من الكتب والدراسات والمقالات في كبريات الصحف والمجلات.
سر اتفاق المثقفين
من هُنا لم يكن غريبا أن يطلّ إبراهيم عبدالمجيد شيخ الروائيين المصريين حاليا، ببكائية موجعة يودّع فيها صديق عمره الذي اعتبره هدية الله له. ومنذ نقله إلى المستشفى حتى وفاته كان يُكرّر كل يوم تغريدة يدعو الله فيها أن يُعيد الرجل سالما إلى أهله، بل للناس جميعا، لأنه أجمل ثروة لمَن يعرفه ومَن يقرأه، وهو طاقة النور للمبدعين من مختلف الأجيال.
في الوقت ذاته، نقرأ على الفضاء الافتراضي كلمات تحيّة ووفاء للرجل من كافة تلامذته وزملائه، منها مثلا قول سيد محمود الناقد الأدبي المنتمي إلى جيل الوسط عن عبدالحميد “هو قطعة من قلبي، وقطعة من عقلي، وهو أكرم الناس وأطيبهم وأكثرهم علما وتواضعا. بل هو رفيق هوّن علي غربتي القصيرة فكان عائلة بأكملها..”.
ولم تخل الصحافة التقليدية من التذكير بقيمة الرجل، حيث كتب الروائي والصحافي أحمد الشريف مقالا في موقع “اليوم السابع” حمل عنوان “في محبة شاكر عبدالحميد” عبّر فيه عن قيمة الرجل وسرّ اتفاق جميع المثقفين على محبته وتقديره، لما يتّسم به من علوم وتواضع.
التواضع سمة غالبة على الرجل لم تفارقه حتى عندما اختير في ديسمبر 2011 لنحو خمسة أشهر وزيرا للثقافة في مصر، كما لم تفارقه من قبل وهو ينتقل من موقع أكاديمي إلى آخر، ويباشر أعمالا تنفيذية متنوعة في حقول الثقافة ويحصد جوائز متعددة في الكتابة.
وقال أحمد سالم أستاذ الفلسفة بجامعة طنطا شمال القاهرة لـ”العرب”، إن قيمته على الثقافة العربية عظيمة لأن ما تركه من دراسات وكُتب يمثل مدرسة متكاملة لنقد النص الأدبي واستقراء لما ورائه.
ولد عبدالحميد في 20 يوليو سنة 1952 بمحافظة أسيوط جنوب مصر، ودرس علم النفس بكلية الآداب جامعة القاهرة، ليتخرج فيها عام 1974، ثم يحصل على الماجستير في علم نفس الإبداع من جامعة القاهرة عام 1980، ثم الدكتوراه في التخصص ذاته بعد أربعة أعوام، ليصبح واحدا من أوائل النقاد المصريين المتخصصين في الربط بين علم النفس والإبداع، ويحاضر في أكاديمية الفنون المصرية قبل أن يتنقل بين عدد من الجامعات العربية في البحرين والكويت والأردن وغيرها من الدول العربية، مع الإشراف على سلاسل متنوعة من الإصدارات الفكرية والأدبية والنقدية.
رحلة علم
رغم أنه قدم من أسرة أقل من متوسطة، فقيرة على حد وصفه، إلا أنه تربى على قراءة أصناف مختلفة من الآداب العالمية والعربية على السواء. فمنذ الصغر تعرّف على روايات الجيب العالمية والقصص البوليسية وحكايات طرزان قبل أن ينتقل بعدها إلى قراءة كتب مصطفى المنفلوطي، طه حسين، عباس العقاد، صادق الرافعي، ونجيب محفوظ. ثم تعرّف على الأدب العالمي المتاح مترجما خلال حقبة الستينات، وهي فترة كانت ـ في تصوّره ـ مشتعلة بالمعرفة والصخب الثقافي.
في إحدى محاوراته الصحافية قال “نحن جيل تعلم في إطار مجانية تعليم حقيقية، حين كان الطالب يذهب إلى المدرسة فيحصل على كتبه مجانا، وعلى وجبة مُشبعة مجانا، ويتعلم من أساتذة كبار؛ فأذكر مثلا أن مُدرس اللغة الفرنسية كان قادما من فرنسا، وأن الأستاذ يعقوب مدرس التاريخ قد درس في السوربون، ولا أنسى الأستاذ رشدي إسكاروس مدرس اللغة الإنجليزية الذي كان يحدّثنا عن أعمال شكسبير وكأنه عاشها، وأعمال السير رايدر هاجارد وكأنه شاركه الرحلة إلى جزيرة الكنز”.
ورغم ذلك فإن الرجل لم يكن يحب في ثورة يوليو المصرية 1952 قمعها للحريات ووأدها للصوت الآخر ورفضها للتعددية الفكرية والسياسية.
مستقبل العرب
مع الإنتاج الغزير كانت لعبدالحميد تصورات ورؤى عديدة تخص الفكر العربي، ربما كان أبرزها أن العالم العربي يواجه في الوقت الحالي أزمات مجتمعية حادة، ولا بد أن تصبح الثقافة مكونا أساسيا في خطط النجاة من الهلاك، وعلينا أن نفهمها بمعناها الشامل، لأنها الطريقة الكلية في الحياة، وهي مفهوم مركب وليس بالبساطة التي يعتقدها البعض.
رأى عبدالحميد أن هناك حروبا ثقافية شرسة تدور، وما حدث خلال العقدين الماضيين أثبت أن الثقافة في قلب الأحداث على نحو غير مسبوق في تاريخ العالم، بل هي “المحرك الأساسي الصانع للسياسات في العالم الآن”.
ومشكلة العرب أنهم ينظرون إلى المستقبل باعتباره صورة من الماضي، ويتصورون ذلك الماضي هو المثالي والأفضل والأكمل، نتيجة هيمنة العقل التكراري على الابتكاري.
العالم العربي يواجه في الوقت الآني وفقا لعبدالحميد أزمات مجتمعية حادة، ولهذا لا بد أن تصبح الثقافة مكونا أساسيا في خطط النجاة من الهلاك
ووفقا لمحاورة شاملة أجراها محمد الحمامصي مع عبدالحميد قبل بضعة شهور ونشرتها مجلة “الجديد”، فإن سيادة روح القوقعة في المجتمعات العربية تمثل خلخلة واضحة لبُنى المجتمعات. وذكر أن ذلك جرى نتيجة التغيرات الطارئة التي حدثت في المنطقة خلال السنوات الماضية، والتي كانت أبرز معالمها سقوط أنظمة وقيام أنظمة بديلة لم تكن أفضل في معظم الأحوال، مع تشريد للملايين من المواطنين العرب في مختلف أقطار العالم.
من هنا، فإن نظرة السلطة للمثقف تحدّدت في تصورها بضرورة أن يكون تابعا ومؤيدا لها في كافة مواقفها، وهي نظرة قاصرة لكنها نشأت من اعتبار المثقف شخصا منشغلا بالترفيه والفنون، بينما تهتم السلطة بالشؤون الأمنية والعسكرية، ومنها أيضا مبالغة بعض المثقفين وتلوّنهم وتأييدهم لكل الأنظمة مهما كان بينها من اختلاف، فضلا عما يكون عليه المثقفون غالبا من نرجسية وتمركز حول الذات، وتفكك، وغياب للحضور الجماعي في شكل جبهة موحدة ذات مبادئ متماسكة ومتناغمة.
من الآراء اللافتة للمثقف والأكاديمي الراحل أن الشخصية المصرية لا تزال غامضة وسديمية بالفعل، وأنها شهدت تطورات تاريخية مذهلة، وفي ظنّه أن تصور عالم الجغرافيا الراحل جمال حمدان بأن الشخصية المصرية سلبية قد جافى الحقيقة، والرجل عنده تأثر بآراء المستشرقين خاصة المشاركين في كتاب وصف مصر، والصحيح في نظره أن هناك جوانب إيجابية وأخرى سلبية والشخصية المصرية متغيّرة من آن إلى آخر.
البحث عميقا في التحليل
لديه تفسير موضوعي بشأن نمو التيارات الدينية في المجتمع المصري، إذ يرجع الأمر إلى سيادة ثقافة الانهزام، ففي مثل هذه الأجواء يجد العامة ملاذهم في الوعود الزائفة، وبالتالي فإن مقولة أن الشعب متدين بطبعه غير صحيحة، والأمر لا يعدو أن يكون سوى “تربية الإنسان في سياق انهزامي متشدد يستدعي الماضي ولا يقبل بالآخر”.
وأوضح أن جماعة الإخوان المسلمين وما شابهها من تنظيمات دينية، أسهمت في انكماش العقلية المعرفية للوطن، وهذا يتفق مع طبيعتها الاتباعية التي تعتمد على السمع والطاعة وأسلوب القطيع الذي يتلقى التكليفات ويُنفذها حرفيا دون تفكير، وهذا معناه أنك غير موجود، أنك نسخة مُكررة، دُمية متحركة تُردد ما يُقال لك دون تفكير نقدي.
أما تجربته في الوزارة عقب احتجاجات يناير 2011 في مصر، فكان يقول إنها كانت تجربة لافتة ومثيرة، أبرز ما فيها أنها مثلت فترة صعبة، وكان واضحا خلالها عدم فهم الناس لمفهوم الثورة، إذ عنت الكلمة لدى البعض البذاءة والتشرذم والفوضى وتصور أن الصوت الأعلى هو الأنجح.
لقد واجه في اليوم الأول لتوليه لافتات لا حصر لها تطالبه بإقالة 16 مسؤولا في الوزارة دون تحقيق أو محاكمة، ما يعني سيادة الفوضى.
رغم ذلك هو ممتن لتظاهرات يناير 2011، بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات، لكنه يرى أنه لو تولى المهمة في ظروف اعتيادية، أكثر استقرارا، لكان أداؤه في الوزارة مختلفا، لأن هناك أمورا عديدة تتطلب حزما حقيقيا من المسؤول.
إن تحديث بيئة الثقافة يتطلب وضع رؤية متكاملة مبنية على تجارب دول أخرى قريبة قامت بدعم وتفعيل برامج واستراتيجيات اقتصاديات المعرفة للاستفادة من إمكانياتها وطاقاتها ومواهب أبنائها، فالصين على سبيل المثال، يشكّل دخلها الإبداعي والثقافي 5 في المئة من دخلها القومي نموذجا يمكن الاستفادة منه.
حصل عبدالحميد على عدة جوائز ثقافية، كان أبرزها جائزة عبدالحميد شومان للعلماء العرب في العلوم الإنسانية من الأردن عام 1990، وجائزة الدولة المصرية للتفوق في العلوم الاجتماعية، كما حاز جائزة الشيخ زايد للكتاب في مجال الفنون عن كتابه “الفن والغرابة”.
كان شاكر عبدالحميد حقا في نظر الكثيرين مثالا للمثقف المستقل، الموصول بعلاقات متينة مع الجميع باختلاف رؤاهم وتوجهاتهم وأجيالهم.