ألمانية تختار قلب الصحراء الكبرى في مصر للعيش والتأمل

للهجرات وجهات متعددة وأهداف مختلفة، فالمهاجرون من الجنوب إلى الشمال، وخاصة إلى القارة الأوروبية، تكون أغلب غاياتهم تحسين مستوى العيش أو الدراسة أو الهروب من الحروب،. أمّا المهاجرين من أوروبا الباردة إلى دول الجنوب فيبحثون عن اعتدال الطقس ودفء العلاقات، كما فعلت السيدة الألمانية فريدل براون حين استقرت في صحراء مصر.
الوادي الجديد (مصر) - في صحراء مصر الكبرى جنوب غرب البلاد، حيث تظلل مئات الآلاف من أشجار النخيل تلالا من الرمال الناعمة، وفي مدينة الداخلة بمحافظة الوادي الجديد جلست الألمانية فريدل براون تتناول إفطارها البسيط تحت أشعة الشمس الدافئة وسط الخلاء.
وفي حديقة منزلها قالت فريدل مدربة التأمل التي تبلغ من العمر 72 عاما، “لقد جئت إلى هنا قبل 35 عاما، حينها لم يكن هناك طريق” يوصل إلى منطقة بئر الجبل التي تبعد نحو 700 كيلومتر جنوب غرب القاهرة.
وأضافت، وهي تشير إلى الصحراء في الخلف، “أتيت حينها في سيارة خاصة عبر مدق في الصحراء إلى مخيم بئر الجبل”.
وفي هذا المخيم الكائن وسط الصحراء المحاط بحديقة خضراء كبيرة من أشجار النخيل، بنيت غرفه على الطراز البدوي من الطوب الطيني وسعف النخيل على مساحة 50 فدانا وبه عين مياه جوفية كبريتية ساخنة يستشفى بها الزائرون وتروي الأشجار.
واليوم، صار هناك طريق من الإسفلت يمكن للسيارات أن تسلكه إلى بئر الجبل، ومنزل فريدل التي أطلقت عليه اسم “شاليه حتحور”، نسبة إلى آلهة الحب والموسيقى والرقص عند الفراعنة.
وكانت الرياح الباردة تسهم في تمايل سعف النخيل وأغصان الزيتون في الحديقة التي يفوح منها عطر الياسمين والخزامى، بينما روت فريدل قصتها التي قادتها إلى امتلاك منزل في هذه المنطقة البعيدة عن الضوضاء وأجواء المدينة.
بيت السيدة فريدل براون دائري بجدران من الطوب الطيني وسعف النخيل وقباب بدوية الطراز وأبواب خشبية بزخارف نوبية
وقالت المرأة التي غطى الشيب شعرها، “لقد وقعت في حب هذا المكان.. هنا ترسم الطبيعة فنا وطبقات الجبال تحمل الآلاف من السنين، هل ترى هذا الجمال؟”، مشيرة إلى صحراء الوادي الجديد، المحافظة المصرية التي تزيد مساحتها على مساحة ألمانيا بأكثر من 80 ألف كيلومتر مربع.
وروت فريدل أنه في العام 2003، عادت إلى مخيم بئر الجبل الذي زارته في شبابها ووجدت أن حالته تحتاج إلى تطوير، ولا يمتلك صاحبه النفقات اللازمة، لذلك قررت أن تساعده.
وقالت “أعطيته بعض المال.. أنا لست ثرية على الإطلاق، ولكن من الخسارة أن نفقد مثل هذا المكان”. وترى أنه بقليل من الجهد يمكن لهذا المكان أن يكتسب بريقا ورونقا جديدين.
وفي 2004، وفي إحدى الليالي في ألمانيا، حلمت فريدل بأنها امتلكت منزلا وحديقة في بئر الجبل “بعدها بأسابيع قليلة وجدتني أعود من جديد”.
ووجدت السيدة الأجنبية المخيم في حالة أفضل، وأراد صاحبه أن يردّ المال لها، وقد روت له الحلم “فعرض عليّ حديقة المخيم.. انتابتني قشعريرة شديدة، ووافقت دون تردد”.
وقرر حاتم، وهو صديق مصري لفريدل وصاحب المخيم وابن الوادي، تخصيص جزء من مساحة ملكيته الخالية لها، لتشيّد منزلا تمتلكه بجانب الحديقة وحينها بدأ حلمها وشرعت مع زوجها في بناء البيت في 2005.
وتقول “منذ ذلك الحين، أصبح نصف قلبي في بئر الجبل والآخر في ألمانيا.. أقضي الشتاء هنا لأنه بارد جدا في أوروبا، والصيف هناك لأنه حار جدا في مصر”، وهكذا أصبحت السيدة الألمانية تنعم بطقس معتدل طوال العام.
وبَنت فريدل وزوجها المنزل الدائري بقببه بدوية الطراز من الطوب الطيني وسعف النخيل. وأضافت إليه أبوابا خشبية ذات خطوط بسيطة تعلوها كوى زجاجية وزيّنته بأوانٍ من الفخار. وعلى الجدران رسمت زخارف نوبية تعلقت بها فريدل منذ زيارتها الأولى إلى مصر.
وتتوسط المنزل ساحة تُعقد فيها حلقات تأمل في أوقات مختلفة من النهار، ورقص يتمايل خلاله المشاركون في جلسات سمر على دقات الدف الهادئة وسط رائحة البخور.
وفي منزلها الهادئ تمارس السيدة الألمانية اليوغا التي تعشقها كثيرا. وعلى الرغم من أن مصر لا توجد فيها تقاليد لهذه الرياضة الروحية كما في الدول الآسيوية، إلا أن فريدل تشارك صديقاتها وزوارها أجواء اليوغا الساحرة في الربوع الفرعونية.
وأصبح منزلها مزارا سياحيا. وتقول فريدل إنه منذ 2005 وحتى “الربيع المصري” في 2011، كان يزورها رحالة ومجموعات من النساء معظمهن من ألمانيا، لممارسة التأمل والاستشفاء بمياه العين الكبريتية، وفي الوقت نفسه يستخدمون مخيم صديقها المصري للمبيت والطعام فيحقق دخلا متواضعا.
ولكن “بعد 2011 أصبحت الأعداد التي تأتي قليلة للغاية كما في كل أنحاء مصر.. والآن لدينا كورونا التي عطلت حركة النقل الجوي والبري بين دول العالم”.
وداخل “شاليه حتحور”، قالت باربرا فريي إحدى صديقات فريدل، وهي تجلس على أريكة من الطين في أحد أركان ساحة المنزل “لقد قابلت فريدل عام 2016 في سوق للفخار بألمانيا”.
وأضافت “وجدت شخصا لا أعرفه يدعوني إلى زيارة منزله في الصحراء في مصر.. فأجبتها بالطبع وبعد 6 أسابيع، كنت هنا وداومت على المجيء كل شتاء لأنعم بدفء الشمس ومرافقة فريدل التي صارت صديقتي”.
وترى فريدل أن هذا هو الوقت المناسب الذي “يجب على الناس أن يعودوا فيه إلى الطبيعة بعد أن أثبتت أنها الأقوى”، خاصة في ظل تفشي وباء كورونا الذي ينتشر بين الناس كالنار في الهشيم، ففي مثل هذه الأماكن تكون العدوى قليلة وبطيئة إن وجدت.
وعلى أريكتها الخشبية ومن أمام منزلها، قالت “أتمنى أن يأتي أحد ويكمل بعدي هذا العمل ويحافظ على البيت”.
ويذكر أن العديد من الأوروبيين الذين زاروا دولا مثل مصر وتونس والمغرب في شبابهم، ثم اختاروها مستقرا لهم بعد حصولهم على التقاعد في بلدانهم، يساعدهم في ذلك فارق العملة الذي يمكّنهم من عيش مرفه في أجواء هادئة مع شعوب مضيافة ومنفتحة.