مشاريع إدماج السجناء في المجتمع تمنح الشباب حياة جديدة

تأهيل السجناء مهنيا يحميهم من الانتكاس والعودة إلى الجريمة.
الأحد 2021/01/31
مهن بسيطة تفتح أبواب المجتمع

تمنح برامج التأهيل وإدماج السجناء السابقين فرصة جديدة للشباب الذين ضلوا طريقهم ودفعوا حريتهم ثمنا لأخطائهم. ويؤكد خبراء الاجتماع أن توفير العمل الهادف للسجناء والتكوين والتدريب على تقنيات العمل التي تتناسب مع مؤهلاتهم وميولاتهم، كلها أمور تؤدي إلى ظهور قيم جديدة لديهم تساير الضوابط والمعايير الاجتماعية.

تونس – يؤكد جيمس جيليجان، أستاذ الطب النفسي وأستاذ القانون المساعد في جامعة نيويورك، أن ثلثي السجناء يعاودون ارتكاب الجرم في غضون ثلاث سنوات من مغادرتهم السجن. وغالبا ما يكون ذلك بجرائم أكثر خطورة وعنفا، غير أن هذه ليست قاعدة ثابتة ويمكن تأهيل الشباب المساجين ليبدأوا حياتهم مجددا في المجتمع.

ويدخل الشباب السجن دون شهادة الثانوية العامة في أغلب الأحيان، حيث منعتهم ظروفهم السابقة من مواصلة تعليمهم وربما يكون هذا أحد الأسباب التي أدت إلى حبسهم، لهذا فإن مواصلة التعليم في السجن هو بمثابة فرصة جديدة للحياة.

وقد أثبت جيليجان وزميله باندي لي، أن برنامج إعادة التثقيف المكثف للمدانين العنيفين، خفض مستوى العنف في السجن إلى الصفر لمدة عام. فالحصول على شهادة جامعية في أثناء فترة السجن هو البرنامج الوحيد الذي أثبت أنه فعال بنسبة 100 في المئة، على مر السنوات أو العقود، في منع العودة إلى الإجرام.

والأهم من ذلك، أن المشاركة في هذا البرنامج لمدة أقل من أربعة أشهر قللت من تكرار إعادة الإجرام العنيف بعد مغادرة السجن بنسبة 83 في المئة، مقارنة بمجموعة مماثلة في سجن تقليدي.

تأثير الدومينو

نظرة الرفض المجتمعي للسجناء المفرج عنهم تسبب لهم أزمات نفسية متعددة، لذلك يجب تعزيز مبدأ التسامح والعفو

أكدت العديد من الدراسات أنه حين يعود السجناء السابقون خصوصا الشباب إلى المجتمع مجردين من المهارات التي يحتاجها سوق العمل يحدث “تأثير الدومينو”، أي أن سلوكا واحدا سلبا أو إيجابا يؤدي بالضرورة إلى سلسلة من السلوكيات المماثلة المتتالية، نتيجة اليأس من الوضع الذي يعيشونه الذي يؤدي في الكثير من الأحيان إلى ارتكاب جرائم جديدة. لذلك فإن تأهيل السجناء الشباب مهنيًّا يحميهم من الانتكاس، فالذين ينضمون إلى التأهيل الوظيفي داخل السجن تزيد فرص حصولهم على عمل في الخارج بعد إطلاق سراحهم.

وبالنسبة إلى الشخص الذي عاد حديثا إلى المجتمع، يكون لتقدير الذات والشعور بالإنجاز المستَمَدَّيْن من العمل الجاد دور كبير في تقليل السلوك الإجرامي.

وتأسست مبادرات في غالبية الدول العربية، وبعضها بدعم من الحكومات، بهدف مساعدة المساجين الشباب على الانفتاح على المحيط الخارجي لقناعتها بأن انحرافهم هو نتيجة ظروف اجتماعية وتربوية معينة، يتحمل فيها المجتمع نصيبه من المسؤولية، وبالتالي لا بد له أن يعمل على مساعدة الإدارة في مجال رعاية وتأهيل الشباب السجناء.

معاول بناء

تأهيل السجناء في مهن لا تتطلب في الغالب مستويات تعليمية كبرى
تأهيل السجناء في مهن لا تتطلب في الغالب مستويات تعليمية كبرى

تتبنى هذه الجمعيات مشاريع للأخذ بأيدي المفرج عنهم الشباب وعدم نبذهم من المجتمع حتى لا يعودوا إلى الجريمة مرة أخرى ويصبحوا معاولَ للهدم بدلا من البناء، فيجب تأهيلهم نفسيا ومهنيا وإيجاد الوظائف المناسبة لهم وتشجيعهم على الاستمرار في تلك الوظائف، ويمكن للمؤسسات وأفراد المجتمع المدني مساعدة هذه الفئة بدعمها ماديا ومعنويا.

وفي المغرب انطلق في العام 2019 البرنامج الوطني لدعم المشاريع الصغرى والتشغيل الذاتي لمساعدة السجناء السابقين.

ويقوم البرنامج بتقديم دعم مالي أو توفير التجهيزات للسجناء السابقين الذين لديهم مشروع فردي، يتعلق بقطاعات التجارة، والصناعة والخدمات، والصناعة التقليدية، والمطاعم، والفلاحة، والبناء.

ولا يقتصر الاهتمام على المحكومين بفترات قصيرة أو متوسطة بل كذلك الذين تمت إدانتهم في قضايا التطرف والإرهاب وشاركوا في برنامج “مصالحة” الذي يهدف إلى إعادة إدماج السجناء، ومصالحتهم مع المجتمع.

ويتيح تأهيل السجناء في مهن لا تتطلب في الغالب مستويات تعليمية كبرى، وتساعدهم على اكتساب مهارات في مجالات إنتاجية تأهلهم للاندماج في سوق الشغل بعد الإفراج، لكن الإشكال القائم لتشغيل السجناء الشباب يشمل ملاءمة ضوابط تشغيلهم مع شروط قانون الشغل المعمول به وطنيا، وتحديد علاقة المشغّل بالسجين.

الحصول على شهادة جامعية أثناء فترة السجن هو البرنامج الوحيد الذي أثبت أنه فعال بنسبة 100 في المئة في منع العودة إلى الإجرام

وأوضح محمد صالح التامك، المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج، أن تشغيل السجناء الشباب يبقى “مكونا مهما من مكونات الاستراتيجية الجديدة للمندوبية العامة في مجال تهيئة السجناء للإدماج”، ويتيح أمامهم “فرص التكوين والعمل والإنتاج”.

ويقول حقوقيون إن استراتيجية إعادة تأهيل السجناء الشباب تتطلب إحداث برامج تدريب حديثة في الحرف والمهن الواعدة والمتنوعة داخل المؤسسة السجنية ومواكبة السجين حتى بعد خروجه.

ولفت لحسن الداودي، الوزير المنتدب المكلف بالشؤون العامة والحكامة، إلى أن إعادة الإدماج يجب أن تتم بجلب تخصصات جديدة ومستقبلية مطلوبة في سوق الشغل لصالح السجناء الشبان، لأنه إذا لم ينفعهم التكوين، يمكن أن يعودوا إلى الجرائم.

ولإتاحة فرصة للسجناء الشباب لاكتساب مهارات في مجالات اقتصادية تستجيب لمتطلبات سوق العمل، وتحافظ على حقوقهم ومصالحهم الاجتماعية، تم إعداد برنامج دعم الاستثمارات الصغرى والتشغيل الذاتي لصالح السجناء السابقين في إطار استراتيجية إعادة الإدماج لجعل السجن مدرسة للفرصة الثانية، ووسطا لإعادة الإدماج والتعلم واكتساب الخبرات وتغيير نمط العيش.

وأكد مدير العمل الاجتماعي والثقافي لفائدة السجناء وإعادة إدماجهم بالمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، مولاي إدريس أكلمام، أن “المقاربة المغربية في إعادة الإدماج ترتكز على التشخيص الأوّلي للفرد المعتقل، من أجل ملاءمة برامج التأهيل مع حاجيات السجين”.

وأوضح أكلمام، في مداخلة له خلال الجلسة العامة الأولى المنظمة في إطار المنتدى الأفريقي الأول لإدارات السجون وإعادة الإدماج، حول موضوع “أي مقاربة تشاركية ناجعة في تجهيز السجناء للإدماج؟”، أن “هناك اختلافا كبيرا بين فئات وحاجيات السجناء، لذلك تم ترتكز جميع البرامج التأهيلية التي تنتهجها المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج على التشخيص الأولي للفرد المعتقل، وعلى التوجيه والمواكبة، من أجل تيسير إدماجه في المجتمع بعد الإفراج عنه”.

واعتمدت الحكومة مجموعة من البرامج البنيوية في هذا المجال، لاسيما في مجالات التعليم والتكوين ومحو الأمية، والتشغيل، والدعم التربوي والروحي، وتوثيق إبداعات السجناء وتسويقها، وكذلك تنظيم أنشطة ثقافية ورياضية، مما يؤكد الأهمية التي توليها المديرية للسجناء الجدد من أجل أن يستفيدوا من هذه البرامج بشكل أمثل.

ويؤكد الخبراء على أهمية الأخذ بعين الاعتبار كل فئة من السجناء على حدة، ومعاملتهم حسب شخصياتهم وظروفهم، مع ملاءمة برامج التأهيل مع حاجياتهم الفردية، إضافة إلى ضرورة رفع عدد العاملين في المؤسسات السجنية، والتركيز على النهج القائم على احترام حقوق الإنسان، لإنجاح إدماج السجناء بعد الإفراج عنهم.

تعزيز التسامح

تعزيز مبدأ التسامح والعفو للسجناء
تعزيز مبدأ التسامح والعفو للسجناء

لا يمكن استثناء دور منظمات المجتمع المدني في هذا الشأن، للتوعية والمساعدة على تقبل السجناء الشباب بمنحهم فرصة ثانية، لأن نظرة الرفض المجتمعي للسجناء المفرج عنهم تسبب لهم أزمات نفسية متعددة. فالسجين ارتكب جريمة وطبّقت بحقه عقوبة وهي وسيلة تأديبية وإصلاحية، فلا يجب أن يكون المجتمع قاسيا عليه فيرفضه بشكل دائم، بل الواجب تعزيز مبدأ التسامح والعفو ومساعدته عبر الأخذ بيده إلى الطريق القويم ومنحه فرصة العمل بعد تأهيله نفسيا ومهنيا وتوظيفه وتشجيعه على الاستمرار بالعمل. وحين يُمنَح الشاب الذي عاش تجربة السجن فرصة للمشاركة في برامج العمل، يكتسب مهارات الالتزام بالمواعيد وتحمل المسؤولية، ما يجهزه للعمل في المجتمع. وهنا يأتي دور القطاع الخاص بالمؤسسات والشركات والبنوك وكذلك الأجهزة الحكومية.

ويؤكد المختصون الاجتماعيون أن توفير العمل الهادف للسجناء والتكوين والتدريب على تقنيات العمل التي تتناسب مع مؤهلاتهم وميولاتهم، كلها عوامل تؤدي إلى تأهيلهم وبالتالي تبرز لديهم قيما جديدة تساير الضوابط والمعايير الاجتماعية، ليتسنى لهم تحمل المسؤولية وسد حاجياتهم الضرورية وإشباع رغباتهم عن طريق العمل المشروع والكسب الشريف.

وفي تونس ظهرت بعض المشاريع في هذا الجانب، ورغم محدودية إمكانياتها إلا أنها تمثل نموذجا جيدا يمكن تطويره إذا ما وجد الرعاية الكافية. فقد أخذت جمعية “كشاف بلا حدود” المبادرة منذ عامين وأطلقت برامج التأهيل والإدماج في إطار مشروع الوقاية من التطرف العنيف والعنف من خلال.

وباشرت الجمعية مشروعها في مرحلة أولى مع الإدارة العامة للسجون والإصلاح، وانطلق البرنامج من داخل السجن ثم تابعت المشروع مع وزارة الشؤون الاجتماعية لتكوين مراكز التأهيل  والدفاع الاجتماعي في مجالات إدارة الخلاف والنزاع.

حقوقيون:

استراتيجية إعادة تأهيل السجناء الشباب تتطلب إحداث برامج تدريب حديثة في الحرف والمهن الواعدة والمتنوعة داخل المؤسسة السجنية ومواكبة السجين حتى بعد خروجه

وفي المرحلة الأولى، يكون هناك تأهيل نفسي، ثم تكوين مهني وعمل مع مراكز الدفاع، وتأهيل اجتماعي. وتمت عملية الدمج بين مجهود المراكز وأفكار الجمعيات المشاركة في البرنامج للدفع نحو مشاريع ملموسة في التأهيل والإدماج الاقتصادي والاجتماعي.

وكانت النتائج إيجابية، فمن ضمن السجناء السابقين الذين شاركوا في برنامج التأهيل والاندماج، هناك من استثمر في إنتاج إكسسوارات للزينة الخشبية أو الحلاقة والبستنة إلى جانب افتتاح مشاريع صغرى لإنتاج الحلويات وتهيئة حديقة عمومية وغيرها.

ويطمح القائمون على البرنامج إلى أن يكون التأهيل والتكوين جزءا من السياسة الاجتماعية لتونس.

وهناك العديد من التجارب العالمية الرائدة في هذا الخصوص، حيث أشاد البعض بالتجربة الإسبانية الخاصة بتحويل سنة العقوبة النهائية أو التنفيذية إلى سنة تأهيلية يقضيها السجين خارج السجن، بحيث يتحول إلى موظف صباحا يذهب إلى السجن وبالليل يعود إلى منزله.

وخلال هذه السنة يتم تأهيله للعودة إلى المجتمع، وتوفير فرصة عمل له وتدريبه عليه بهدف تحويله إلى شخص مفيد، بعد وضع خارطة طريق له.

وفي الولايات المتحدة تقوم برامج مثل “ريادة الأعمال داخل السجون”، وهي منظمة أميركية غير ربحية، بربط السجناء المفرج عنهم بالمسؤولين التنفيذيين ورجال الأعمال. ويركز البرنامج على تعليم المساجين الشباب مهارات القيادة والابتكار.

وساعد البرنامج المئات من المشاركين في بدء حياتهم المهنية بأجور أعلى بنسبة 60 في المئة من الحد الأدنى للأجور، وجميعهم ظلوا مستمرين في عملهم بعد مرور 12 شهرا من إطلاق سراحهم، وهي الفترة الأولى الأصعب بالنسبة إلى السجين السابق.

وكانت النتيجة انخفاض معدل العودة إلى السجن إلى أقل من 7 في المئة، وهي نسبة أقل بكثير من المعدل الوطني في عموم الولايات المتحدة، بحسب ما ذكر موقع البرنامج على الإنترنت.

تثقيف وتهذيب
تثقيف وتهذيب

 

19