الاتحاد الأوروبي احتفظ بتماسكه وبقيت بريطانيا تتشاجر مع نفسها

المملكة المتحدة معرضة لتكون أمة فقيرة ومعزولة تحت وطأة الحواجز والتكاليف.
الخميس 2020/12/31
انتصار لجونسون وخسارة كبيرة لبريطانيا

مهما كان الشكل الذي ستكون عليه المملكة المتحدة في المستقبل، لا أحد يستطيع أن يقول إن الأعوام التي تلت استفتاء 2016 أظهرت دولة واثقة ومستقلة. فعلت الاضطرابات الكثير لتهدئة خطوات مماثلة في دول أخرى في الاتحاد الأوروبي. ومن وجهة نظر الاتحاد الأوروبي، لا يمكن أن يكون “بريكست” أفضل بكثير مما هو عليه الآن.

لندن - بعد 47 عاما من تكامل أوروبي وأربع سنوات من التجاذبات إثر الاستفتاء حول بريكست، ستتوقف بريطانيا التي غادرت الاتحاد الأوروبي رسميا في يناير الماضي، عن تطبيق القواعد الأوروبية. وستخرج من السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي وبرنامج “إيراسموس” للتبادل على صعيد الدراسة الجامعية، بعد توقيع مسؤولي الاتحاد الاتفاق المبرم مع لندن لمرحلة ما بعد بريكست رسميا، الأربعاء.

وخلال مراسم قصيرة في بروكسل، وقعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال الاتفاق الذي سيدخل حيّز التنفيذ الخميس.

وفيما لم ينشر نص الاتفاق بعد، إلا أن إطاره العام بات معروفا ويشمل استمرار التجارة عبر الحدود البريطانية مع التكتل دون أي رسوم جمركية أو حصص؛ ما يعني استمرار تجارة بحوالي 950 مليار دولار، هو حجم التجارة بين بريطانيا والدول الـ26 المتبقية في التكتل.

وكتبت فون دير لايين في تغريدة “كان الطريق طويلا وحان الوقت الآن لترك بريكست وراءنا. مستقبلنا يبنى في أوروبا”. ورحب ميشال بـ”اتفاق عادل ومتوازن”، مشيدا بـ”الوحدة غير المسبوقة” التي أبدتها الدول الأعضاء في المفاوضات.

ووقع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الاتفاق في وقت لاحق في لندن، الأربعاء، بعد نقل الوثائق الموقعة من جانب المسؤولين الأوروبيين جوا بطائرة تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني.

فون دير لايين: الطريق كان طويلا وحان الوقت الآن لترك بريكست وراءنا

ويأتي ذلك في أعقاب تأييد مجلس العموم البريطاني بأغلبية ساحقة اتفاق التجارة مع الاتحاد الأوروبي، وصوت 521 من المشرعين البريطانيين لصالح إحالة مشروع القانون إلى مراحله النهائية في مجلس العموم مقابل 73 صوتوا ضده.

وقال جونسون أمام مجلس العموم البريطاني الذي اجتمع لمناقشة الاتفاق إن بريطانيا ستصبح “جارة ودية وأفضل صديق وحليف يمكن للاتحاد الأوروبي الحصول عليه وسنعمل يدا بيد عندما تكون قيمنا ومصالحنا على تناغم مع احترام رغبة الشعب البريطاني السيد بالعيش في ظل قوانينه الخاصة”. وأضاف “سنفتح فصلا جديدا في حياة أمتنا وسنبرم اتفاقات تجارية مع أطراف مختلفة في العالم (..) وسنؤكد أن المملكة المتحدة هي قوة تعمل للخير العام ومنفتحة على الخارج وليبرالية”.

وبرأي المتابعين، فإن توقيع الاتفاق ومغادرة بريطانيا التكتل رسميا يشكلان انتصارا كبيرا وتاريخيا لجونسون، الذي يرى في هذه الخطوة انتقاما من رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي التي اختلف معها على كيفية إدارتها للملف حين كان وزيرا للخارجية في حكومتها واضطر حينها إلى الاستقالة.

وفي أقل من عام ونصف بعد توليه رئاسة الوزراء حقق ما عجزت عنه هي خلال ثلاثة أعوام تقريبا. ويعد جونسون من المعادين للاتحاد الأوروبي منذ أن كان مراسلا صحافيا في بروكسل يراسل إحدى الصحف البريطانية. ولديه قناعة بأن تاريخ المملكة المتحدة، وهوية شعوبها تختلف عن شركائهم في القارة الأوروبية. لكنه في الوقت ذاته لا يمكنه إحداث قطيعة تامة مع الاتحاد لأن هذا الأخير هو أكبر زبون للمنتجات البريطانية وأكبر مزوّد لأسواقه. كما لا يمكنه إخراج بريطانيا من بيئتها الأوروبية والصلات العميقة التي تجمع شعبها مع بقية شعوب أوروبا.

وتوقع روبرت شريمزلي الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز أن “تشهد الأيام المقبلة تصريحات جامحة حول مهارات جونسون التفاوضية وكيف حصل على الكثير لبريطانيا”.

لكن، كما هي الحال مع اتفاقية الانسحاب، اضطرت المملكة المتحدة إلى القتال حتى من أجل الأساسيات ولم تجرجر بروكسل إلى ما هو أبعد من حيث كانت بروكسل مستعدة للذهاب إليه.

وبرأي شريمزلي فإن “الحديث الشجاع والفارغ عن الإيقاع بين دول الاتحاد الأوروبي لم يحقق شيئا يذكر، وفي حين كانت المملكة المتحدة تتشاجر مع نفسها، احتفظت الكتلة بجبهة موحدة إلى حد ما، وهو ما ينبغي أن يكون هذا تحذيرا مفيدا للسياسيين البريطانيين في المستقبل”، على  حسب تعبيره.

انتصار ولكن..

بريطانيا خارج الاتحاد
بريطانيا خارج الاتحاد

تعد بريطانيا المستفيد الأكبر من الاتفاق بين الجانبين بالتجارة دون رسوم أو حصص، إذ تمكن المنتجون البريطانيون من الاحتفاظ بسوق غني وضخم يبلغ حوالي 400 مليون مستهلك. لكنه في المقابل يمنح أوروبا القدرة على فرض تدابير تعويضية على الأعمال التجارية البريطانية إذا تراجعت لندن عن معايير مساعدات الدولة والبيئة وقانون العمل والضرائب.

ويساور البريطانيون قلق كبير بشأن تداعيات الاتفاق على اقتصادهم الوطني، وعلى الرغم من النقاط الإيجابية، حيث ستكون للندن حرية إبرام اتفاقيات تجارية أو عسكرية مع أي شركاء يريدون دون أن ينتظروا التمحيص والتدقيق من دول الاتحاد، إلا أنها ستحرم من العديد من التسهيلات. فعلى سبيل المثال، ستخضع السلع البريطانية للتدقيق الجمركي مثلما تخضع له أي دولة من خارج الاتحاد.

وترى كارولين لوكاس أن “صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيجعل المملكة المتحدة أمة فقيرة وأكثر عزلة”.

وتشير لوكاس في تقريرها لها في صحيفة الإندبندنت إلى أن “هذه الاتفاقية هي الأولى في التاريخ التي تزيد من الحواجز والتكاليف بدلا من خفضها، وستقلل الوظائف البريطانية، وتهمش قطاع الخدمات البريطاني، وتقوض الحماية التي تم الحصول عليها بشق الأنفس للبيئة والعمال والمستهلكين”.

كارولين لوكاس: خروج بريطانيا من الاتحاد مشروع أطلق مع أنصاف الحقائق

وتعتقد أن “خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مشروع أطلق مع أنصاف الحقائق وأسوأ من ذلك، وانتهى بنفس الطريقة”.

وعلى الرغم من الاتفاق، ستتغير العلاقة التجارية بشكل أساسي بين لندن والسوق الموحدة مع وجود ضوابط جمركية والمزيد من البيروقراطية وربما تأخير في سلسلة الإنتاج في القطاعات شديدة التشابك، مثل السيارات أو الصناعة الكيميائية. وبرأي الخبراء ستكون الصدمة الاقتصادية أقوى على المملكة المتحدة، في حين سيستوعبها الاتحاد الأوروبي على نحو أفضل.

ويلفت شريمزلي إلى أنه “لا بد من القول إنه على الرغم من أن هذه الصفقة، في حين أنها أفضل بكثير من لا شيء، إلا أنها أدنى بكثير مما يجب أن ترغب فيه دولة تجارية عالمية عظيمة، الحد الأدنى الذي كان يمكن الاتفاق عليه في ظل التعنت الأيديولوجي للحكومة”.

وعلى مستوى السياسة الخارجية، فإن بريطانيا لن تتمكن بعد الآن من استخدام مكانتها كواحدة من أكثر الدول الأعضاء نفوذا في الاتحاد الأوروبي لإقناع الآخرين بمحاربة الفقر، وتعظيم الإجراءات العالمية ضد تغيّر المناخ والإرهاب الدولي، أو احتواء طموحات إيران النووية.

ومن شأن الانفصال عن أوروبا أن يضعف موقف بريطانيا في بعض المحافل الدولية لأنها ستدافع عن مواقفها وحيدة، بينما في السابق كانت مسنودة بـ27 دولة أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي. وقد يؤدي الخروج من الاتحاد إلى تنامي النزعة الانفصالية لدى الاسكتلنديين الذين أعلنت رئيسة حكومتهم أنها تريد الاستقلال.

وتشهد وحدة المملكة المتحدة تصدعا أيضا. ففي اسكتلندا التي صوتت بنسبة 62 في المئة ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي في 2016، تظهر نتائج استطلاعات الرأي أن غالبية من السكان باتت تؤيد الاستقلال الذي رفض العام 2015 في استفتاء أول.

وفيما يمثل رحيل المملكة المتحدة خسارة لا يمكن إنكارها للاتحاد الأوروبي، لكن هذا الانفصال عن شريك عبَّر تاريخيا عن مواقف مشككة، قد يكون فرصة للمضي قدما بالنسبة إلى الكتلة التي تضم 27 عضوا، حسب المتابعين، ما يعني أن  بريطانيا ستكون أضعف في المستقبل حتى لو حاولت الانفتاح على قوى أخرى مثل الولايات المتحدة .

وأردفت  لوكاس “نحن محكومون بالعيش في بريطانيا أكثر فقرا، وأكثر انعداما للمساواة، وأكثر عزلة”.

وحدة مهددة

تتمتع الحكومة المحافظة بغالبية واسعة في البرلمان فيما دعا زعيم المعارضة العمالية كير ستارمر نوابه إلى إقرار الاتفاق رغم رفض جزء من حزب العمال له خوفا من تبعاته الاقتصادية والاجتماعية.

وستكون لمغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي تداعيات على الداخل، حيث من شأن هذه الخطوة أن تعزز الانقسامات بين المجتمع البريطاني الذي يعارض طيف واسع منه الانفصال عن أوروبا.

وفي معسكر المحافظين، بات نواب “يوربيين ريسرتش غروب” الأكثر تأييدا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يؤيدون الاتفاق معتبرين أنه “يحفظ السيادة البريطانية”.

ويعارض الاتفاق الحزب الوحدوي الديمقراطي الأيرلندي الشمالي المؤيد لبريكست، لكنه يرفض الإجراءات الجمركية بين محافظة أيرلندا الشمالية البريطانية وبقية أرجاء المملكة المتحدة، فضلا عن الحزب الليبرالي الديمقراطي المؤيد للوحدة الأوروبية والحزب القومي الاسكتلندي المؤيد للاستقلال.

وعلى الصعيد الأوروبي، أعطت دول الاتحاد الضوء الأخضر لتطبيق مؤقت للاتفاق بانتظار أن يوافق عليه النواب الأوروبيون في الربع الأول من العام 2021.

كاتي بولز: لا يوجد ما يوحي بأن مشاكل جونسون قد تنحسر قريبا

وبعد خروجها من الاتحاد الأوربي في 31 يناير الماضي، باشرت بريطانيا مرحلة انتقالية استمرت خلالها في تطبيق القواعد الأوروبية. واعتبارا من مساء الخميس ستكون بحل من كل هذه القواعد.

وبتوصلهما إلى اتفاق للتبادل الحر، تجنبت بروكسل ولندن تبعات صدمة كانت لتسجل لو لم يحصل ذلك مع اعتماد حواجز تجارية كانت لتكلف الطرفين ثمنا باهظا على صعيد الاقتصاد المتضرر أساسا جراء جائحة كوفيد – 19.

فبوريس جونسون بات يصارع مع بروز أزمة جديدة، إذ باتت المستشفيات البريطانية شبه عاجزة عن استيعاب المزيد من المرضى فيما الإصابات تتسارع رغم الحجر المفروض على جزء كبير من السكان منذ اكتشاف سلاسة جديدة من الفايروس تنتشر عدواها بسرعة أكبر.

لكنّ المتابعين يؤكدون أن متاعب جنسون لن تتوقف، والتي تفاقمت بعد فشله في إدارة الأزمة الصحية. وترى الكاتبة كاتي بولز أنه “لا يوجد الكثير مما يوحي بأن مشاكل جونسون قد تنحسر في أي وقت قريب”. وعلى العكس من ذلك “إذا كان هناك أي شيء، فهي على وشك أن تسوء”.

وتتوجس أوساط بريطانية من أن تفقد لندن مكانتها كعاصمة مالية وسياسية لصالح دول أخرى مثل فرنسا وألمانيا.

 
7