احجز مكانك الآن.. فرصة لتغيير الحياة

هل أحدثت دروس التنمية البشرية تغييرا في طريقة تفكير الناس في المجتمعات العربية.
السبت 2020/12/12
بيع الوهم للمحبطين

تستثمر الملايين من الدولارات سنويا على الندوات التحفيزية والمحاضرات التي يعقدها خبراء التنمية البشرية وتطوير الذات، كما توجد الآلاف من الكتب التي تحمل عناوين مثيرة حول طريق النجاح المختصر، لكن لا شيء تحقق على أرض الواقع، حيث يؤكد الخبراء أن كل هذه الدروس ليست سوى استغلال للناس للتنفيس عن غضبهم من المجتمع.

تونس – “لقد غيّرت دروس التنمية البشرية حياتي فعليا”، تقول قدس المنتصر (33 عاما) أستاذة العربية التي أصبحت بدورها مدربة تنمية بشرية. وتضيف “كان العالم كئيبا في عيناي بعدما انفصلت عن خطيبي للتو بعد قصة حب دامت عشرة أعوام، عانيت البطالة لسنوات، كنت أحس أن كل شيء متوقف في حياتي حتى دعتني صديقتي لمرافقتها إلى درس تنمية بشرية يقدمه مدرب قدم من مصر خصيصا كان حقا من تلاميذ إبراهيم الفقي”.

ويتحدث مهدي مبروك الباحث والمختص في المجال الاجتماعي عن التنمية البشرية بمعناها الإنساني القريب من الاقتصاد والجغرافيا والتخطيط وإدارة البلدان والمجتمعات.

ويؤكد أن “التنمية البشرية بمعناها النفسي والسلوكي هي أحد الاختصاصات المرتبطة بعلم النفس وفيها اتجاهان: اتجاه أكاديمي يستند إلى مختلف فروع البحث العلمي الجامعي في ميادين علم النفس وهذا الاتجاه ثري جدا بالأبحاث والتجارب والنظريات”.

الكثيرون يقدسون أغلب الكلام الذي يقدمه مدربو التنمية البشرية سواء كان في الكتب أو في المحاضرات

ويضيف “أما الاتجاه الثاني فهو تجاري انطلق منذ ثمانينات القرن الماضي سريع الانتشار والإنتاج دون استناد حقيقي جدّي إلى علم النفس وفروعه، وهو ممارسة يمتهنها الكثير من المدربين في التنمية البشرية الحاصلين على شهادات من مؤسسات غير جامعية تستند في غالب الأحوال إلى منتوج صناعي تجاري. ويثير هذا الاتجاه الكثير من الجدل وينعته الكثيرون بالشعوذة والتحيّل أحيانا، غير أن هذه الصفات لا يمكن تعميمها على كل المشتغلين في هذا المجال، إذ فيهم من يمتلك الموهبة والمعلومات بفعل تكوينه الذاتي أو دراساته الجامعية أو الشخصية”.

ويعد تطوير الذات المحرك الأساسي للتنمية البشرية، ويأتي التطور من مفاوضة تتم بين العالم الموجود في أذهاننا والعالم المحيط بنا، فتنمية البشر تأتي من خلال الفهم الحقيقي لذواتنا وبنائها شيئا فشيئا إلى أن تكتمل ويتحدد إدراكنا للذات وفهمها.

وتضيف قدس أن “دورات التنمية لو أخذها الناس على محمل الجد لأخرجتهم من الاكتئاب العميق والمزمن”.

وتختلف تجربة عواطف عن تجربة قدس التي شاركت في دورتين للتنمية البشرية للتغلب على الإحباط الذي ينتابها وتؤكد “كنت الأولى على فصلي لأربع سنوات في الجامعة اخترت أصعب التخصصات وتميزت فيها ورغم ذلك لم أوفق في الحصول على عمل.. أعاني اكتئابا مزمنا وبطالة مزمنة هي الأخرى”.

وشاركت عواطف في دورة كان مضمونها “يجب أن تنجح أنت تستطيع ذلك لا يوجد مستحيل.. أخرج ما داخلك.. توماس أديسون فشل 999 مرة لا تيأس”، وتضيف “قبل أن ينتهي المدرب من الدرس يبدأ بالترويج للدورة القادمة، لأن دورة اليوم غير كافية وهي فقط بداية وهو يشير دائما داخل الدورة إلى أمور تكلم عنها في دورات قديمة أو سيتكلم عنها في دورات قادمة، كان ينظر إلينا كزبائن ولا يريد أن يفقدهم”.

وتؤكد “فرق شاسع بين شخص ناجح يعطيك نصائحه بالمجان مثل بيل غيتس الذي بت أتابع مدونته بانتظام وبين شخص ‘حافظ مش فاهم’ عبارات وحكم قال فلان وقال علان، وقصة نجاح فلان ويريدك أن تدفع وتقتنع بها”.

وتضيف “هناك شيء واحد يحق أن يتباهى به مدرب التنمية البشرية هو كيف تبيع الوهم للمحبطين وتجني الملايين”. وترى عواطف أن “دروس التنمية البشرية أشبه بالمسكّن الذي لا يعالج المشكلة ولكنه يوقف شعورنا بالألم مؤقتا وأنا شخصيا أفضل علم النفس الإيجابي لأنه في النهاية علم وله أسس وأبحاث معتمدة”.

وعلم النفس الإيجابي هو فرع من علم النفس يهدف إلى مساعدة الفرد على تحقيق النجاح والراحة النفسية انطلاقا من نظرة للواقع كما هو بما فيه من فرص وبما فيه من مشاكل وعوائق دون تجميل واعتمادا على نقاط قوة الفرد عوض التركيز على نقاط ضعفه وباعتماد ما لديه من خصال.

هراء فاخر

البعض من الأمل
البعض من الأمل

“احجز مقعدك الآن، الأماكن محدودة، فرصة لا تعوض ونحن تلاميذ الدكتور إبراهيم الفقي”.. المئات من الإعلانات والشعارات لدروس التنمية البشرية باتت معلقة على ناصية كل شارع ومنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو الناس إلى التنفيس عن غضبهم من المجتمع الذي أصابهم بالإحباط.

وهناك ثلاث خطوات فقط يتوجب قطعها في طريق النجاح المختصر أو التحول إلى مدرب تنمية بشرية، وبالتالي تحصيل الشهرة والثراء. أولها حضور “كورس” مدته 36 ساعة تدريبية فقط لتصبح مدربا معتمدا من جامعة القاهرة أيضا، بحسب ما جاء في أحد إعلانات مركز للتنمية البشرية في العاصمة المصرية القاهرة، إذ أن الشهادة ليست كل شيء، فالأهم منها هو أن تخرج بصورة من تحت الأرض ومن فوتوشوب تجمعك بالأب الروحي لعلم التنمية البشرية إبراهيم الفقي.

أما الخطوة الثانية فتتمثل في تأليف أسماء عميقة لشهادات من جامعات وهمية.

أما الخطوة الثالثة فهي تأليف مقولة غريبة أو نظرية غير عادية، ولا مشكلة في أن تكون غير مفهومة كذلك، وفجّرها كالقنبلة على مواقع التواصل الاجتماعي. ولا تنس قبلها أن تنشئ صفحة على فيسبوك باسم براق وصورة احترافية.

وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة منتشرة منذ سنوات في العالم الغربي، أين يشتهر العديد من المتحدثين المحفزين، فإن دروس التنمية البشرية بدأت تنتشر عربيا بداية من العام 2000.

وبات الكثيرون يقدسون أغلب الكلام الذي يقدمه مدربو التنمية البشرية سواء كان في الكتب أو في المحاضرات، فيما يرى آخرون أنه “هراء فاخر وفارغ”.

ويقول طالب تونسي “لكي أكون صريحا أكثر، فنحن في تونس لا نملك مدربين على مستوى عال، هناك مدربون يعدون على أصابع اليد أو حصلوا على شهادة من جامعات متخصصة، أما البقية فقد حضروا محاضرات في مصر وأتوا لتكرير الهراء الذي سمعوه في تونس”.

ويضيف “أغلب ما تعلمته عن التنمية البشرية هو من الكتب التي مرّت أمامي في معارض الكتب هنا، أو من خلال الإنترنت، فلماذا أصرف وقتي الثمين في الاستماع إلى هراء فاخر بينما يمكنني تأليف نفس الهراء والاستماع إليه؟”.

فن اللامبالاة

قدوة للنجاح
قدوة للنجاح 

يعد لاعب كرة القدم المصري محمد صلاح، أكثر المشاهير العرب الشغوفين بكتب التنمية البشرية.

ويقول صلاح إنه “يحب القراءة جدًا، وخصوصًا كتب علم النفس”، مشيرًا أن القراءة هي هوايته المفضلة أثناء أوقات فراغه.

ويحرص نجم ليفربول الإنجليزي صلاح، كل فترة على مشاركة جمهوره غلاف إحدى الكتب التي يحرص على قراءتها من حين إلى آخر.

وأصبح النجم المصري قدوة، وله تأثير كبير على فئة كبيرة من المجتمع، تقلده خاصة وأن السلوك الإنساني قابل للتقليد، وهو ما ظهر من خلال اهتمام الشباب بمثل هذه الكتب بشكل  أكبر.

لا ينسى أحد الاهتمام الزائد بكتاب ”فن اللامبالاة” لمارك مانسون، بعدما نشر صلاح صورة وهو يقرأ الكتاب في يوليو 2018، وذلك بعد أيام قليلة من انتهاء مشاركته مع المنتخب المصري في منافسات كأس العالم، كذلك نشر أفضل لاعب في أفريقيا لعامي 2017 و2018، صورة لغلاف كتاب ”فكر وازداد ثراء” لمؤلفه نابليون هيل والذي يتضمن 13 خطوة تضمن الثروات بحسب المؤف، بالإضافة إلى نصائح عن كيفية النجاح.

إبراهيم الفقي.. يعتبره كثيرون أحد أهم كُتاب التنمية البشرية في الوطن العربي
إبراهيم الفقي.. يعتبره كثيرون أحد أهم كُتاب التنمية البشرية في الوطن العربي

وفي مطلع العام الحالي، أظهر صلاح  كتاباً جديداً يقرأه عن التنمية البشرية وتطوير الذات، للمؤلف الراحل إبراهيم الفقي، الذي يعتبره كثيرون أحد أهم كُتاب التنمية البشرية في الوطن العربي، وهو كتاب ”قوة التحكم في الذات”.

وفي يونيو الماضي، شارك صلاح، متابعيه، بصورة لفقرة من كتاب يقوم بقراءته، عبر إنستغرام، والذي يتحدث عن قوة العقل الباطن للإنسان ومقارنتها بالعقل الواعي.

مفتاح النجاح

تعد دروس التنمية البشرية بشكل عام مهمّة للفرد وللمجتمع، فهي ضرورية بالفعل لتنمية قدرات الفرد الذاتية ورفع كفاءته العقلية والعلمية والاجتماعية والإنسانية، ومساعدته على تعزيز قدراته المهنية وزيادة ثقته بنفسه وتمكينه من التكيف والتواصل الاجتماعي إن كان غير قادر على ذلك وتغيير بعض عاداته السلبية وشحنه بالطاقة الإيجابية التي تدفعه إلى الانطلاق واختيار الطريق الذي يناسبه بالشكل المناسب واللائق.

لكن هذه الدروس التي من المفترض أن تكون نافعة ومفيدة للفرد وبالتالي للمجتمع تحولت في السنوات الأخيرة إلى عملية تجارية رابحة، وموضة من موضات العصر يتسارع الكثيرون ليشاركوا بها كي يكونوا مواكبين لتطورات ومستلزمات العصر الحديث، متغاضين عن التدقيق والتحقق من هوية وكفاءة المدرب الذي يعبث بحالاتهم النفسية ويتلاعب بمشاعرهم واحتياجاتهم الاجتماعية والإنسانية كيفما يشاء!

التعميم مؤذ

تطوير الذات يعد المحرك الأساسي للتنمية البشرية
تطوير الذات يعد المحرك الأساسي للتنمية البشرية

انتشرت مراكز التنمية البشرية التي تعلن نفسها كـ”فرصة ذهبية لن تعوض تقدم عروضا محدودة مع بعض الإغراءات بتغيير حياة هذا الزبون (المتدرب) تغييرا جذريا”، حيث ستتحقق أحلامه وتفتح الأبواب المغلقة وتتهافت الفرص عليه ليفوز بإحداها إلى ذلك من الشعارات التي تستغل حاجة الشباب المحبطين الذين يعانون البطالة وانعدام تكافؤ الفرص والواسطة وغيرها من المشاكل الاجتماعية، إلى جانب سوء الأحوال الاقتصادية الذي قد يدفع هؤلاء إلى اليأس والإحباط، ويجعل من هذا الإعلان المنتشر هنا وهناك القشة التي يرى فيها هذا الغريق منقذا ليتعلق به.

وردا على الانتقادات الموجهة إلى مدربي التنمية البشرية تعلق مدربة التنمية البشرية قدس المنتصر “أتفق تماما مع أن البعض من المدربين يستخدمون تقنيات للتنويم والبرمجة تعطى نتائج مذهلة مؤقتا مثل المخدرات تليها انتكاسة فادحة”.

وقالت قدس إن “الدراسة مع الخبرة والتدريب هي المعادلة التي يجب أن تتوافر في المدرب، حتى لا يخرج المتدرب دون أن يستفيد شيئا سوى بعض الحماسة والفكاهة”. وتؤكد أن “التعميم يؤذي العشرات من المدربين المحترمين”.

مدربون يستخدمون تقنيات للتنويم والبرمجة تعطي نتائج مذهلة مؤقتا مثل المخدرات تليها انتكاسة فادحة

وعن كيفية النجاح في مجال التنمية البشرية تؤكد قدس أنها درست علم النفس في الجامعة إلى جانب اختصاصها الأصلي في اللغة العربية، كما سعت إلى الاطلاع على مختلف المدارس في علم النفس والتواصل وخاصة المدارس المعاصرة والجديدة كعلم النفس الإنساني وعلم النفس العصبي وعلم النفسي الإيجابي. وأضافت أنها على اطلاع على الاختصاصات الأخرى بما في ذلك كتب الاتجاه التجاري التي تحتفي بكلمة ”إيجابي”والتي يستحسن الاطلاع عليها بنظرة ناقدة للاستفادة من الوجيه فيها دون الوقوع في ما تقدمه بعضها من معلومات خاطئة أو سطحية.

ولتبين الفرق بين الاتجاهين الأكاديمي والتجاري تبرز مدربة التنمية البشرية الفرق بين استعمالات كلمة إيجابي. وتقول إن “علم النفس الإيجابي” مثلا هو فرع من علم النفس يهدف لمساعدة الفرد على تحقيق النجاح والراحة النفسية انطلاقا من للواقع كما هو بما فيه من فرص وبما فيه من مشاكل وعوائق دون تجميل واعتمادا على نقاط قوة الفرد عوض التركيز على نقاط ضعفه وباعتماد ما لديه من خصال.

أما الأفكار الإيجابية فهو اتجاه يدعو الفرد إلى استبعاد الأفكار السلبية وإلى التفاؤل والنظر إلى الجانب المشرق من الواقع، ويتلقى هذا الاتجاه الكثير من الاحترازات لنزوعه إلى إبعاد تفكير الفرد عن حقيقة واقعه. 

وتضيف أن النزعة الإيجابية هو تيّار ساد في القرن الثامن عشر عصر التحولات الكبرى والثورات وهو يسعى لصرف تركيز الفرد على المبادئ والشعارات والرغبة في التغيير لشغله بمصلحته الخاصة وبواقعه وبضرورة تحصيل المنفعة الفردية دون بذل جهد لتغيير الواقع الاجتماعي أو السياسي. 

20