السعودية تسد منافذ عودة الإخوان المسلمين بتصحيح مسار عمليتها التعليمية

السعودية التي فتحت معركة محاصرة الأفكار المتشدّدة والجماعات الإرهابية، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين، تدرك أن مناهج التعليم ومؤسساته أرضية ضرورية لتلك المعركة وبوابة لكسبها بطريقة غير قابلة للانتكاس والتراجع، ذلك أن قيادات الإخوان ومنظّريهم الذين لم يعد لهم مكان على أرض المملكة فغادروا نحو حواضن جديدة لهم مثل تركيا وقطر وعدد من البلدان الغربية، خلّفوا وراءهم إرثا ثقيلا في مناهج التعليم السعودي ونظمه شَرَعت المملكة في كنسه والتخلّص منه ضمن حملتها الأشمل ضدّ التطرّف والإرهاب بمختلف أشكاله.
الرياض – تكتسي المعركة الشاملة التي تخوضها المملكة العربية السعودية لتجاوز إرث التشدّد الديني والتصدّي لجماعاته سِمَةَ تجفيف المنابع وقطع الجذور عندما يمتد جزء من تلك المعركة إلى ميدان التربية والتعليم بهدف تخليصه من ترسّبات حقبة سيطرة الإخوان المسلمين عليه واستخدامه لنشر أيديولوجيتهم المتطرفة عبر تخريج أجيال مؤمنة بأفكارهم ومتبنية لمخطّطاتهم العابرة لحدود الدول وتكوين كادر من خريجي العملية التعليمية المؤدلجة والموجّهة ونشرهم تاليا في مفاصل الدولة أملا في السيطرة على سلطة قرارها وتوجيه سياساتها الوجهة التي تخدم مصالح التنظيم الدولي للإخوان وبرامجه طويلة الأمد.
وخلال قمّة مجموعة العشرين التي احتضنتها السعودية مؤخّرا عبر تقنية الفيديو، حرصت المملكة على توصيل رسالتها إلى العالم مطمئنة كبار شركائها الدوليين بشأن جديتها في تعقّب نوازع التشدّد ومحو آثاره في مختلف المجالات بما في ذلك المجال التعليمي، وذلك على لسان وزير التربية حمد بن محمد آل الشيخ الذي قال متحدّثا في إحدى الفعاليات المصاحبة للقمّة إنّ بلاده أجرت مراجعات للمناهج التعليمية لضمان خلوّها من أفكار التطرّف.
ويختصر هذا التعليق المقتضب للوزير ضمن حديث أشمل له بشأن أوضاع التعليم في بلاده في ظل جائحة كورونا وأساليب معالجة تلك الأوضاع بالوسائل المتاحة، جهدا حقيقيا بذلته الرياض خلال السنوات الأخيرة لتخليص عمليتها التعليمية من نوازع التشدّد التي من شأنها أن تمثّل أرضية للعنف والإرهاب، وهو جهد يصفه مختصون في علوم التربية والبيداغوجيا بأنّه مثمر، مشيرين في الوقت نفسه إلى حاجة ذلك المجهود إلى الدعم والتسريع حتى يساير عملية التغيير الجارية في المملكة، وحتى تتلاءم مخرجات العملية التعليمية مع الأهداف المرسومة في مجالات الاقتصاد والثقافة وغيرهما، وكي تؤدّي دورها في تخريج أجيال منفتحة ومتحرّرة من سطوة رجال الدين المتشدّدين الذين طبعوا على مدى عشريات متواصلة من الزمن بعض سياسات المملكة بطابعهم غير الملائم لروح العصر.
إرث ثقيل
يلخّص الدارسون لشؤون الجماعات المتشدّدة أهداف جماعة الإخوان المسلمين من التغلغل في قطاع التعليم في السعودية ومحاولتهم السيطرة عليه بخمسة أهداف رئيسية هي “الترويج لفكر جماعتهم، والترويج لمؤلفات مفكري الجماعة مثل سيد قطب ويوسف القرضاوي، ونشر مؤلفات الإخوان في المكتبات المدرسية والجامعية ووسط الطلاب والطالبات، وتوجيه التربية المجتمعية وفقا لمنهج الإخوان، والسيطرة على المنح والبعثات الدراسية ومحاولة اقتصارها على الجماعة”.
ولذلك كان لا بدّ للسعودية وهي توسّع مجال الإصلاحات التي باشرتها في العديد من المجالات لتشمل مجال التعليم، التخلّص من تراكمات ثقيلة مترتّبة على حقبة سيطرة الإخوان على هذا القطاع الحسّاس والأثير لدى الجماعة كوسيلة فعّالة في تربية الأجيال على تعاليمها المتشدّدة.
وقد أطلق دخول السعودية في سباق ضدّ الساعة لتدارك حالة الضعف التي تميّز نظامها التعليمي وتجعله بعيدا عن خدمة أهدافها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتوجّهها العام نحو التغيير والإصلاح، عملية نقد عميقة للنظم التعليمية والبحث عن جذور المشكلة التي يعود الجزء الأهم منها إلى تغلغل عناصر تابعة لجماعة الإخوان في القطاع والسيطرة عليه من الداخل.
ويقرّ الوزير آل الشيخ نفسه بتلك السيطرة الإخوانية السابقة على التعليم في بلاده بالقول في تصريحات صحافية سابقة “كان هناك أثر واضح لسيطرة بعض الأفكار الدخيلة التي أساءت في فترة زمنية إلى التعليم ومنها أفكار جماعة الإخوان”.
ويستدرك الوزير مذكّرا بأن الدولة تعاملت مع الوضع “بما يكفل سلامة أفكار أبنائنا وحمايتهم من الأفكار الضالة والمنحرفة”، موضّحا أنّ “الجامعات السعودية شهدت عمليات إصلاحية كبيرة ابتداء من مناهجها وتم القضاء على جميع المؤلفات التي تحمل جوانب فكرية دخيلة ومسيئة انتشرت في ستينات القرن الماضي”.
وكان التداخل التنظيمي والإداري الذي طبع إدارة شؤون العملية التعليمية في السعودية إحدى البوابات التي تسرّب منها الإخوان إلى قطاع التعليم وهو ما يقرّ به الوزير قائلا “الهيكل الإداري المُطبق كان غير معترف به من الجهات الرسمية، والجهات الرقابية كانت تتساءل عن سبب تعيين بعض الأشخاص في مناصب غير متوفرة ومستمرة لأعوام”، مضيفا “تعيين بعض القيادات في الوزارة أو الإدارات المختلفة يتم دون معايير، ونحن بصدد القضاء على هذا الخلل”.
إجراءات حازمة
لما كانت السعودية تسعى إلى تدمير الأفكار المتطرفة “اليوم وفورا” والعودة إلى “الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم، وعلى جميع الأديان وجميع التقاليد والشعوب”، وفق ما ورد على لسان ولي العهد الأمير محمّد بن سلمان، فقد سرّعت خطواتها لمحاصرة أفكار الإخوان وتأثيراتهم على التعليم، وأعطتها بعدا عمليا، حيث بادرت وزارة التعليم بإبعاد المعلمين الذين دأبوا على ارتكاب مخالفات فكرية في إشارة إلى المدرسين الذين لا يلتزمون بالمسار الحالي للمملكة، والذين يعمدون إلى تمرير أفكار متشددة من مناهج دراسية سابقة تحرّض على التشدد والانغلاق، وتحاول استهداف خيار الانفتاح الثقافي والديني والسلوكي الذي اختارته المملكة.
وجاء هذا الإجراء مكمّلا لما كانت الوزارة قد شرعت فيه بتنقية المقرّرات التعليمية الرسمية من كتب تحمل أفكار الإخوان ومنها ما هو من تأليف أسماء تاريخية معروفة في الجماعة مثل حسن البنا وسيد قطب ويوسف القرضاوي وأبي الأعلى المودودي وعبدالقادر عودة ومصطفى السباعي.
وكان الإخوان قد دخلوا السعودية في ستينات القرن الماضي بعد خلافهم مع الرئيس المصري آنذاك جمال عبدالناصر الذي اتّهمهم بتنظيم محاولة لاغتياله ما دفع بالكثيرين منهم إلى الفرار إلى دول الخليج.
ولم يكن باب السياسة مفتوحا للإخوان في السعودية ولذلك تجنّبوا العمل التنظيمي وصرفوا اهتمامهم نحو التأسيس لتأثير طويل الأمد لهم عن طريق التعليم، مستغلين حاجة المملكة التي ما تزال آنذاك في طور بناء دولتها الحديثة إلى الكوادر التعليمية ما مثّل فرصة ذهبية لتسجيل حضور لهم في المملكة ذات المكانة الدينية الكبرى في العالم الإسلامي، فضلا عن ثروتها الضخمة التي يرى الإخوان أنّ الوصول إليها سيكون أكبر رافعة للتنظيم لمدّ سيطرته نحو مختلف البلدان العربية والإسلامية.
وحقّق الإخوان نجاحات حقيقية في توجيه المنظور الفكري والديني والثقافي السعودي عن طريق التعليم وذلك بنشوء أجيال سعودية تشرّبت أفكار السيد قطب من كتابه “معالم في الطريق”، وأبي الأعلى المودودي من كتابه “الجهاد في سبيل الله”، فكان أن تقدّم الإسلام السياسي الحركي في المملكة على حساب التدين التقليدي الوسطي البعيد عن التوظيف السياسي.
فعلى مدى سنوات طويلة من المنتصف الثاني من القرن الماضي تواصل تدفّق الإخوان على السعودية لغزو منابرها التعليمية، فعرفت مدارس المملكة وجامعاتها شخصيات إخوانية معروفة من أمثال محمد قطب وعبدالله عزام. كما عرفت مناع القطان، وحسين كمال الدين الحسيني، ومحمد هلال، ولاشين علي أبوشنب، ومحمد عبدالحميد أحمد، وعبدالمحسن شربي، وعبدالله عزام وجلّهم كانوا موضع ملاحقة قانونية في مصر كما أنّ من بينهم من عاش تجربة السجن هناك.
تغلغل فاجتثاث
في مظهر على توغّل الإخوان في العملية التعليمية في السعودية وتمكّنهم من أهم مفاصلها، فقد وصل بعض عناصرهم البارزة إلى مواقع قيادية داخل الهيكل التعليمي، على غرار كمال الهلباوي الذي شغل منصب رئيس لجنة مستشاري بناء المناهج المدرسية في وزارة المعارف السعودية وينسب إليه إدخال كتب المؤلفين والمنظرين الإخوان إلى المقرّرات الدراسية، إضافة إلى بروز عناصر آخرين في التعليم الجامعي وقيامهم بأدوار كبيرة فيه مثل رئاسة مناع القطان للدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود ورئاسة محمد الراوي لقسم التفسير في الجامعة نفسها، وكلاهما من رموز الإخوان البارزين.
ورغم أنّ السعودية كما العديد من بلدان الخليج مثّلت ملاذا للإخوان حين ضاق عليهم الخناق في مصر ودخل معهم نظامها في معركة كسر عظم، فقد تعاملوا مع المملكة بنفعية فجّة بلغت حدّ الانتهازية، فلم يكتفوا بالمنافع المادية والمكتسبات الشخصية، وحالة الرفاه التي عاشوها هناك بعد أن كانوا مطاردين بلا مأوى، بل امتدت طموحاتهم إلى السيطرة التدريجية على مجتمعها بنشر أيديولوجيتهم داخله على أوسع نطاق ممكن طمعا في السيطرة على البلاد وثروتها واستخدامها منصّة لتحقيق الانتشار العالمي المنصوص عليه في أدبيات كبار منظريهم وقياداتهم.
ولما لم تكن علاقات الإخوان بالسلطة في المملكة على نفس السوية في مختلف فترات وجودهم هناك، فقد لجأوا إلى أسلوب المراوغة والتقية عندما كانوا يلاحظون وجود انتباهة لمخططاتهم ونواياهم، مثلما كانت عليه الحال في بداية عقد الثمانينات بعد قيام الثورة الخمينية في إيران، حيث جاهر بعض قادتهم بتأييدها، الأمر الذي جعل نخبا سياسية وكذلك دينية وفكرية تضع الإخوان تحت مجهر الملاحظة خصوصا وأنّ تصدير الثورة كان هدفا معلنا من قبل النظام الإيراني الجديد آنذاك.
وعلى هذا النحو بدأت الشكوك السعودية في نوايا الإخوان تتراكم مع تراكم أخطائهم ومواقفهم المضادّة لاستقرار منطقة الخليج وأمنها على غرار موقفهم المؤيد لغزو العراق للكويت ومعارضتهم الاستعانة بالقوات الأميركية لإخراج الجيش العراقي من البلد، وصولا إلى سنة 2002 عندما اتّضح بشكل لا لبس فيه تشكّل موقف سعودي واضح من جماعة الإخوان عبّر عنه بوضوح وزير الداخلية السعودي آنذاك الأمير نايف بن عبدالعزيز عندما وصف في حوار صحافي الجماعة بأنّها “أصل البلاء”، مؤكّدا “كل مشاكلنا وإفرازاتنا جاءت من جماعة الإخوان المسلمين، فهم الذين خلقوا هذه التيارات وأشاعوا هذه الأفكار” (المتشدّدة).
وعلى الرغم من حالة الوعي التي دبّت في السعودية منذ تلك الفترة بشأن خطر الإخوان، فإنّ عملية اجتثاثهم لم تبلغ ما هي عليه اليوم، حيث لم يعد التعايش مع أفكار الجماعة بما يميّزها من انغلاق وتشدّد ممكنا في البلد الذي أطلق حملة إصلاح شاملة وحزم أمره على التوجّه نحو المستقبل استجابة لتطلعات مجتمع غالبيته العظمى من الشباب.
ويرى مثقفون وقادة رأي سعوديون أنّ محو آثار الإخوان وبصماتهم التي وضعوها طيلة عقود على العملية التعليمية في السعودية أصبح في حكم تحصيل الحاصل، وأنّ المطلوب الآن الانتقال من عملية غربلة المناهج وتصفيتها من نوازع الانغلاق والتشدّد إلى تحديثها وتطويرها وتطويعها لملاءمة طموحات المملكة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد خصوصا وأنّ البلاد تمتلك من الإمكانيات المادية ما يتيح لها إنجاز عملية تعليمية نموذجية بكل المقاييس.