خنق الرئة الاقتصادية للحشد الشعبي خيار يفتقده الكاظمي

استراتيجية رئيس الوزراء أقصى أهدافها هو إضعاف الأحزاب الشيعية سياسيا قبل الانتخابات القادمة.
الجمعة 2020/11/13
الميليشيات العراقية لا تزال تتحدى الخطوط الحمر للحكومة

تؤكد انطباعات المحللين لما يحدث في العراق أن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وجد منذ تسلّمه منصبه صعوبة في تضييق الخناق على ميليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران، فاستراتيجيته التي تعتمد على زيادة الضغوط عليها بصورة تدريجية مستخدما الإكراه، تارة، ومحاولة إقصائها من المشهد السياسي تارة أخرى، تبدو منقوصة من إحدى أبرز الأدوات، التي يفترض أن يستخدمها، والمتمثلة في خنقها اقتصاديا حتى لا تتمكن من الحصول على التمويل لمواصلة تنفيذ أجندتها.

بغداد - جعل رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي استعادة السيادة العراقية أولوية رئيسية في جدول أعماله للبلاد. ويتضمن ذلك محاولة لكبح فصائل الميليشيات القوية المدعومة من إيران والتابعة لوحدات الحشد الشعبي، والتي تهدد بإطالة أمد انعدام الأمن في البلد.

وأطلق الكاظمي استراتيجية احتواء سياسي لتحقيق هذه الغاية والتي تسعى لحشد الجهات الفاعلة السياسية والدينية المتنوعة ضد الميليشيات لعزلها سياسيا، وتعني نتائج هذه الاستراتيجية أن احتواء وحدات الحشد الشعبي أفضل قليلا مما كان عليه قبل وصوله إلى السلطة.

ولكن حدود هذا النهج، وفق توم ويبستر المحلل البريطاني في الأمن الإقليمي هي أنه يتجاهل الأساس الاقتصادي والمالي، الذي تستطيع الميليشيات من خلاله شراء الأسلحة وتجنيد الأعضاء وشن هجمات.

ويرى ويبستر في تحليل نشرته مجلة “ذي ناشيول إنترست” الأميركية أنه لمكافحة الميليشيات المدعومة من إيران يجب على الكاظمي إطلاق استراتيجية احتواء اقتصادية تتماشى مع نهج الاحتواء السياسي الذي يتبعه إذا كان يريد تقليص الميليشيات بشكل هادف وتحسين أمن العراق.

استراتيجية منقوصة

توم ويبستر: التركيز على الجانبين السياسي والأمني لن ينهك الميليشيات
توم ويبستر: التركيز على الجانبين السياسي والأمني لن ينهك الميليشيات

من خلال الهجمات المتكررة للقذائف والعبوات الناسفة على قواعد وقوافل الجيش العراقي وقوات التحالف، كانت وحدات الحشد الشعبي القوية الموالية لإيران مثل كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق ومنظمة بدر تتمتع بحرية تشغيلية تسمح لها بالتصرف بحصانة فعلية.

وأوضح الكاظمي منذ بداية ولايته أن العراق لن يتسامح بعد الآن مع الإفلات من العقاب الذي تتمتع به الميليشيات، وقد سعى إلى كبح جماحها من خلال سياسة تدريجية تقضي على قدراتها وشرعيتها الشعبية.

ولقد حاول ذلك عبر بناء تحالف سياسي، من خلال الجمع بين الجهات الفاعلة من جميع أنحاء المشهد السياسي والديني في البلاد لتشكيل جبهة عابرة للطوائف ضد الميليشيات الموالية لإيران.

وعلى سبيل المثال، تمكن الكاظمي من حشد الكثيرين من التيار الصدري وآية الله السيستاني وأتباعه وزعماء القبائل والأغلبية الساحقة من المجتمع السني والأكراد وأتباع عمار الحكيم، خلف سياسته المتمثلة في احتواء الميليشيات. وهذا “التحالف القاسي”، كما وصفه ويبستر يغذي طاقة المتظاهرين الشيعة الذين يطالبون بإنهاء وجودها.

ومع ذلك، وبسبب الاعتماد الوثيق للتأثير السياسي مع القوة الاقتصادية، استغلت الميليشيات الموالية لإيران نقاط الضعف في المجال الاقتصادي. ففي المناطق التي استعادوا السيطرة عليها من جهاديي داعش، تم تدمير الاقتصاد الرسمي، مما شجع على نمو هائل للنشاط الاقتصادي غير المشروع.

وتمكنت الميليشيات الموالية لإيران، بصفتها متلقية للتمويل الدفاعي، من رشوة المسؤولين المحليين للتواطؤ معها، مما أدى فعليا إلى انتزاع عائدات من سيطرة الاقتصادات غير الرسمية مقابل ضمان الحماية.

وأدى عدم وجود رقابة مركزية على المحافظات، فضلا عن الرواتب المتدنية في القطاع العام، إلى جعل هذه الشبكات غير المشروعة جذابة للمسؤولين المحليين لتعاونهم مع الميليشيات.

وفي المناطق الحدودية، سيطرت الميليشيات الموالية لإيران على طرق تهريب النفط البعثية القديمة إلى إيران وسوريا وتركيا في الكثير من الأحيان دون تدخل من وزارة النفط العراقية.

تُعد الرسوم غير القانونية التي تُفرض على المدنيين عند نقاط التفتيش على طول هذه الطرق مصدر أموال آخر لا يتم تحديده مركزيا ولكن تديره ميليشيات فردية. وعلى سبيل المثال، في محافظة ديالى، قيل ذات مرة إن عصائب أهل الحق تدر حوالي 300 ألف دولار في اليوم من خلال رسوم نقاط التفتيش وحدها.

وفرضت الميليشيات أنظمة جمارك غير قانونية على البضائع المنقولة بين محافظات البلاد، والتي كانت تدر في وقت ما على بدر ما بين 12 و15 مليون دولار شهريا، وفي الوقت نفسه، تتهرب الميليشيات من دفع رسوم البضائع الخاضعة للضريبة على الحدود مع إيران من خلال رشوة حرس الحدود.

وبالمقارنة، في البصرة يشكل قادة الميليشيات طبقة كليبتوقراطية (نظام حكم اللصوص) من النخب التابعة لمسؤولين محليين في الحزب، على غرار المافيا. وهذا يضمن أن جزءا كبيرا من أرباح منطقة النفط الأكثر إنتاجية في البلاد يقع في جيب الميليشيات المحلية الحاكمة بدلا من ذهابها لخزينة الدولة.

ومن الواضح أن تحصن ميليشيات الحشد الشعبي في الاقتصادات الإقليمية بالتواطؤ مع المسؤولين المحليين يتركها مستقلة ماليا على المستوى المحلي مدعومة بشبكة من المتعاونين الفاسدين مع الدولة والمهربين، ويستمر هؤلاء في الاستفادة من أنشطة مثل التهريب والابتزاز في ما هو سمة أساسية للاقتصاد السياسي للعراق الحديث.

دولة داخل الدولة

 بداية اندلاع حريق عنيف بين الحكومة والميليشيات لإضعاف دول الأحزاب
 بداية اندلاع حريق عنيف بين الحكومة والميليشيات لإضعاف "دول" الأحزاب

عندما يتم النظر في مدى هذه الأنشطة، تبدأ الميليشيات الموالية لإيران في الظهور كشبه دولة أكثر من كونها قوة أمنية، وهذا بسبب عمق ترسيخها الاقتصادي، وهذه هي الديناميكية التي يجب أن يفسرها الكاظمي في سياسة احتواء الميليشيات.

ويقول ويبستر، الذي أجرى بحثا مكثفا حول وحدات الحشد الشعبي وموقعها في بناء الدولة العراقية، “إن تركيز حكومة الكاظمي فقط على المعقل السياسي والأمني للميليشيات يتجاهل قدرتها على الحفاظ على شريان الحياة الاقتصادي بشكل مستقل عن الدولة أو الدعم الإيراني”.

ومع ذلك، نظرا لأن استراتيجية الريع الاقتصادية للميليشيا تعتمد على الروابط والشبكات العليا التي طورها تحالف فتح في البرلمان يجب أن يسير الاحتواء الاقتصادي لوحدات الحشد الشعبي جنبا إلى جنب مع استمرار نزع التسييس عن الوزارات والمؤسسات العراقية مثل الشرطة وإدارات المحافظات الإقليمية.

وإذا كان الكاظمي يريد تآكل قاعدة الميليشيات حتى يتم إقناعها بالإصلاح، فسيتعين عليه فصل العلاقة “الحميمة” بين الاستحواذ الاقتصادي والنفوذ السياسي المحلي. فالميليشيات موجودة لتبقى، لكن الكاظمي يمكنه تشكيل حوافزها وقدرتها الاقتصادية لشن هجمات على قوات أمن الدولة وقوات التحالف.

نهج الكاظمي يتجاهل الأساس الاقتصادي، الذي تستطيع الميليشيات عبره شراء الأسلحة والتجنيد وشن الهجمات

ولأن الكثير من الضغط على الميليشيات قد يشعلها، فإن مثل هذه السياسة قد تعمل ببطء نحو خنق الميليشيات لجني الأموال. قد تؤدي مداهمة وإغلاق “المكاتب الاقتصادية” التي تديرها وحدات الحشد الشعبي في جميع أنحاء البلاد من أجل عمليات التربح إلى اندلاع حريق عنيف، وهو آخر ما يحتاجه العراق.

ومع ذلك، يمكن للكاظمي أن يبسط سيطرته على قطاعه العام، وتحديدا على الروابط والاتصالات التي تمكنت الميليشيات الموالية لإيران من خلالها من كسب موطئ قدم اقتصادي.

ومن المؤكد أن تناوب المسؤولين الإداريين المحليين بانتظام وزيادة رواتب هؤلاء المسؤولين سيقللان من ميلهم إلى التعاون مع الميليشيات. وفي الوقت نفسه، فإن التدابير الرامية إلى زيادة المساءلة المالية والإبلاغ المالي، وكذلك الإشراف على الاقتصادات الإقليمية، ستقطع شوطا في إضفاء الطابع الرسمي على الاقتصاد غير الرسمي ومنع تعرض المسؤولين للفساد.

ومن الناحية الواقعية، لا يمكن للكاظمي تحقيق أي شيء جذري في المجال الاقتصادي، فأفضل ما يمكن أن يأمله هو التهام القاعدة الاقتصادية للميليشيات تدريجيا بحلول موعد الانتخابات المقبلة، على أمل أن تعاني الأحزاب التابعة للميليشيات الموالية لإيران في صناديق الاقتراع.

وإذا حدث ذلك، فسيكون رئيس الوزراء العراقي القادم قادرا على تمرير الإصلاحات الاقتصادية واسعة النطاق اللازمة لوضع البلاد على مسار طويل الأجل للنمو الاقتصادي، والذي يمكن أن يكون وسيلة لجذب رجال الميليشيات إلى التوظيف الرسمي في القطاع الخاص.

وقد لا يكون بناء التحالف السياسي وحده كافيا لمنع تجدد الهجمات على القوات الأميركية وغيرها من القوات الأجنبية عندما ينفد صبر الميليشيات بشأن وقف إطلاق النار المستمر.

"الحشد الشعبي" الميليشيات المسيطرة على ساسة العراق

 

6