نزاع ناغورني قره باغ هاجس يوقظ النزعة العرقية في إيران

لا يعتبر المحللون السياسيون أن المعارك الأخيرة حول إقليم ناغورني قره باغ الانفصالي طارئة بالنظر إلى كونها امتدادا لحرب بدأت قبل ثلاثة عقود ولم تتوقف إلا بهدنات هشة، غير أن معالمها الإثنية برزت بوضوح من خلال تسرب القلق القومي إلى داخل إيران، حيث سيطرت عليها هواجس من تفجر نزعة عرقية لا يمكن السيطرة عليها، وهذا ما جعلها تتخلى عن حيادها “مؤقتا” حتى تتمكن من صد المخاطر، التي قد تنجر بسبب مواقفها من النزاع بين أرمينيا وأذربيجان.
لندن - يحرك القتال بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناغورني قره باغ الانفصالي هواجس إيقاظ النزعة العرقية في إيران، لكونه يأتي في وقت سيء للغاية بالنسبة إلى طهران، فداخليا، تواجه وضعا اقتصاديا صعبا للغاية نتيجة العقوبات الأميركية القاسية، وفي الخارج، فتحت على نفسها جبهات في العراق وسوريا حتى تعزز نفوذها الجيوسياسي.
ورغم أن إيران قد ترغب في الانخراط في الصراع بجنوب القوقاز، حيث لعبت دور الوسيط من قبل، إلا أن أليكس فاتانكا، مدير برنامج إيران وزميل بارز ببرنامج فرونتير يوروب بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، أشار في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، إلى أن “قدرتها على القيام بذلك أقل بكثير مما قد يوحي به قربها الجغرافي من الصراع”.
والأسوأ من ذلك، وفق فاتانكا، أن طهران لا تتمتع بالاستقلال الدبلوماسي الذي كانت تتمتع به في أوائل التسعينات، عندما اندلع القتال الأخير بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه وعندما تمكن الإيرانيون من العمل بشكل أكثر فعالية بين الجانبين.
التخلي عن الحياد
يتعين على طهران أن تجلس في المقعد الخلفي لروسيا وتركيا والغرب لأن هذه القوى تشكل مسار الصراع. ومع ذلك، وبفضل الأقلية الأذرية الكبيرة في إيران، والتي يبلغ قوامها حوالي 20 مليون شخص، هناك احتمال حقيقي بأن الصراع الأرمني الأذري قد يفيض ويشكل خطرا جسيما على الأمن الداخلي الإيراني.
ومن المؤكد أن طهران لا تريد أن تخسر في هذا الصراع، لكنها ضعيفة الآن، وقد ازدادت الأمور غموضا مع جنوح بعض المحللين في تقرير نشرته صحيفة “ذا هيل” الأميركية مؤخرا، إلى القول إن هناك وضع غير عادي في العلاقات الدولية، حيث تتطابق مصالح إيران مع مصالح دولة مسيحية، في إشارة إلى أرمينيا، على حساب دولة مسلمة أخرى، وهي أذربيجان، والتي تدعمها تركيا.
ويظهر التردد الإيراني في التعامل مع هذه الأزمة، فبعد اندلاع الأعمال العدائية الأخيرة بين أرمينيا ذات الأغلبية المسيحية وأذربيجان ذات الأغلبية الشيعية قبل ثلاثة أسابيع، استغرقت طهران ثلاثة أيام لتقبل بأن اندلاع العنف الجديد كان مختلفا نوعيا عن المناوشات السابقة.
وكالعادة ألقى الحرس الثوري الإيراني بمسؤولية تصعيد النزاع بين أذربيجان وأرمينيا حول ناغورني قره باغ، على الولايات المتحدة فقد نقلت وكالة لإيرنا المحلية عن نائب قائد فيلق عاشوراء أصغر عباس قلي زادة، قوله إنها “فتنة أميركية صهيونية جديدة في المنطقة”.
وبعد أيام من اندلاع أعمال العنف وإدراكا منها أن النهاية السريعة المعتادة لم تكن وشيكة غيرت طهران فجأة خطابها الدبلوماسي من التركيز على حيادها واستعدادها للوساطة بين يريفان وباكو ودحر الادعاءات بأنها انحازت إلى الأذريين.
وجددت إيران الثلاثاء الماضي، التأكيد على استعدادها للتوسط بين البلدين. وقال المتحدث باسم الحكومة علي ربيعي خلال مؤتمره الصحافي الأسبوعي “كما أعلنا سابقا، نؤيد أي مبادرة من شأنها أن توقف الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، وإيران مستعدة للتوسط بينهما، وقد أعلنا مرارا وتكرارا عن استعدادنا للمساعدة في حل الأزمة”.
ورغم توقيع وقف إطلاق النار في نهاية حرب 1988 – 1994، انخرطت الدول المجاورة في جولات متعددة من القتال في السنوات التي تلت ذلك، بما في ذلك، مؤخرا، في وقت سابق من هذا الصيف.
وفي مطلع أكتوبر، أصدر الممثلون السياسيون للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي في أربع محافظات من شمال غرب البلاد، التي يسكنها عدد كبير من السكان الأذريين بيانا مشتركا لدعم أذربيجان، في محاولة لصد أي محاولات لتسلل الاحتجاجات إلى الداخل.
وأعلن البيان حينها أنه “لا شك” في أن منطقة ناغورني قره باغ الانفصالية تابعة لأذربيجان. ومع ذلك، صدر البيان في الوقت، الذي كشفت فيه التقارير أن طهران فتحت مجالها الجوي أمام الإمدادات العسكرية الروسية المتجهة إلى أرمينيا.
واندلعت الاحتجاجات ليس فقط في محافظة أذربيجان الشرقية الإيرانية، ولكن أيضا في طهران، مع إطلاق هتافات مثل “ناغورني قره باغ لنا. ستبقى ملكنا”.
ومن هنا يرى فاتانكا الذي يستعد لإطلاق كتاب بعنوان “معركة آيات الله في إيران: الولايات المتحدة والسياسة الخارجية والتنافس السياسي منذ 1979” أن مجرد الإشارة إلى إمكانية قيام إيران بدور مورد السلاح لأرمينيا كان لا بد أن يكون خبرا متفجرا، وكان من المقرر أن تنكره طهران بسرعة.
وهذا هو بالضبط ما حدث، حيث كرر الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف وعلي أكبر ولايتي، كبير مستشاري السياسة الخارجية لخامنئي جميعا قولهم بأن أرمينيا يجب أن تغادر الأراضي الأذرية، التي احتلتها منذ عام 1994.
وبشكل أكثر تهورا، صاغ زعيم ديني مؤيد للنظام، وهو حسين نوري همداني، الصراع من منظور ديني “ناغورني قرة باغ جزء من العالم الإسلامي ويجب أن تعود إلى الدولة الإسلامية ويجب تحريرها”.
قلق القومية
كان الزخم الشعبي الإيراني وراء الانحياز الكامل لباكو عظيما إلى درجة أن طهران لم تسمح حتى لشراكة أذربيجان الوثيقة مع إسرائيل بأن تقف في طريقها. فأذربيجان، واحدة من أربع دول ذات أغلبية شيعية في العالم إلى جانب إيران والعراق والبحرين، لديها علاقات اقتصادية وعسكرية واستخباراتية وثيقة مع إسرائيل، العدو الإقليمي لطهران. لكن هذا كان واقعا منذ حوالي عقدين، وتعلم الإيرانيون التكيف معه.
وبمنتهى البساطة، لا تقف إيران في وضع يمكنها من التصرف ضد الأقلية الأذرية الخاصة بها. وعلى عكس مطلع تسعينات القرن الماضي، عندما كان انهيار الاتحاد السوفييتي مجرد فتح المجال للأذريين الإيرانيين لإعادة الاتصال بإخوانهم في الشمال، الذين كانوا تحت الحكم الروسي/ السوفييتي منذ أوائل القرن التاسع عشر، فإن المجتمع الأذري الإيراني هو اليوم أكثر وعيا بالديناميات الكامنة وراء الصراع الأرمني الأذري وأكثر حماسا وراء باكو.
ويعتقد المحلل السياسي فاتانكا أن هذا يشكل مصدر قلق خطير لإيران لكونها دولة متعددة الأعراق، وهي ليست مستعدة للتعامل مع انتفاضة بين الأقليات المتضررة الأخرى التي أشعلها الصراع بين أرمينيا وأذربيجان.
امتداد صراع ناغورني قره باغ إلى الأقلية الأذرية في إيران سيؤدي إلى اندلاع معركة لا يمكن للحكومة احتواؤها
وبالفعل، تعتبر المناوشات الدورية مع الجماعات العرقية المسلحة حقيقة من حقائق الحياة في البلاد، حيث في الجنوب الشرقي، على الحدود مع باكستان، تواصل جماعة جيش العدل العرقية البلوشية الجهادية السنية، التي يزعم أنها على صلة بتنظيم القاعدة، استهداف قوات الأمن الإيرانية. كما أن التشدد المستمر ضد طهران أصبح جزءا من الحياة في المناطق الكردية بغرب إيران على الحدود مع العراق.
وفي حين أنه من المبالغة تصوير إيران على أنها “برميل بارود” جاهز للانفجار، سيكون من المضلل كذلك الادعاء بأن الاضطرابات بين الأقليات العرقية ليست الدافع وراء التحول الخطابي المفاجئ في طهران لدعم باكو.
لكن أي دولة تقدم واجهة عدوانية باستمرار للمجتمع الدولي لا يمكنها أن تتوقع الفوز بميزة على المدى الطويل وهناك مؤشرات على أن الأوراق لم تعد تسقط في طريق طهران رغم الضغوط الغربية عليها.
ويواصل الرئيس دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو اتباع موقف متشدد ضد إيران، ففي العام الماضي، صنفت الإدارة الأميركية الحرس الثوري كيانا إرهابيا، وفي يناير الماضي، أمرت بشن غارة جوية أدت إلى مقتل قائد الحرس الثوري سليماني في العراق.
وقد تم الاحتفال بسليماني، كبطل قومي في إيران، وكان يُنظر إليه أحيانا على أنه ثاني أقوى شخص في الجمهورية الإسلامية، ولكن من الواضح أن وفاته حولت الكثير من الحسابات الإقليمية.