مطالب مصيرية في الانتظار.. هل ينتفض الجزائريون بقوة أكبر

يراقب المتابعون للأوضاع الجزائرية باهتمام شديد لمعرفة ما إذا كانت المطالب المصيرية للشعب والتي لا تزال في قائمة الانتظار منذ أن تولى الرئيس عبدالمجيد تبون السلطة قبل أشهر، ستعيد دفع الحراك الشعبي إلى جولة أخرى أكثر قوة ضد النظام الحاكم خاصة وأن الوباء ترك بصماته على مختلف مناحي الحياة وحدّ من زخم التظاهرات والاحتجاجات.
الجزائر - ينظر مراقبون سياسيون للحراك الشعبي الجزائري على أنه المحرك الأول، الذي سيجعل من النظام الحاكم يحسب له ألف حساب حتى تحقيق كل مطالبه، ولذلك فاحتمال عودة موجة الاحتجاجات يبدو كبيرا وربما بوتيرة أسرع.
وبالنسبة للجزائريين فإن النقطة الأهم بالنسبة لهم تتمحور حول مواصلة الاحتجاجات مهما كانت التكاليف، وهو تحرك يرى فيه الكثيرون تحدّيا لا يمكن أن يواجه إلا باعتراض من السلطة، خاصة وأن رئيس الوزراء عبدالعزيز جراد سبق وأن قال إن “الأزمة المتعددة الأبعاد التي تواجه الجزائر ينبغي أن تدفع الناس إلى تقليل المطالب”.
واليوم وبعد أكثر من عام على المسيرات الأسبوعية، التي توقفت بسبب الوباء، يبدو الحراك، وهو انتفاضة شعبية سلمية غير مسبوقة في الجزائر ضد النظام، على مفترق طرق قبل شهرين من استفتاء على إصلاح دستوري يفترض أن يستجيب لتطلعاته.
وإذا كان غالبية الجزائريين لا يطالبون بالثراء، بل بصون كرامتهم، فإنه يتعين على السلطة توفير الظروف والعوامل التي تساعد في تحقيق هذا المطلب وضمان مبادئ تكافؤ الفرص بين الجميع من خلال فرض المزيد من الضغوط، وبالتالي يكون الشعب طرفا وازنا في المعادلة المختلة.
وخلال الأسابيع الأخيرة، تضاعفت محاولات التعبئة في أنحاء البلاد رغم قيود الإغلاق من مدن وهران والجزائر وتلمسان إلى ورقلة وبجاية وبسكرة… فهل ستتمكن الحركة الاحتجاجية المناهضة للنظام من العودة أم أنه محكوم عليها بالزوال؟
أمام زخم الضغوط الشعبية نتيجة ارتفاع المطالب الاجتماعية، لم تجد الحكومات المتعاقبة لضمان ديمومة النظام السياسي سوى شراء السلم الاجتماعي عبر الإبقاء على منظومة الدعم وزيادة في رواتب الموظفين، رغم أن ذلك لم يكن وفق رؤية اقتصادية صحيحة، وشكّل عبئا ثقيلا على خزينة الدولة بدأت تظهر تبعاته السلبية مع ظهور الأزمة الصحية نتيجة انتشار جائحة كورونا، وما رافقها من تراجع رهيب في برميل النفط.
والآن تقفز العديد من التساؤلات بشأن مدى وعي النظام الحاكم الحالي بالمطالب الملحة للشعب، والتي تتركز معظمها حول نقطتين، الأولى تحسين الأوضاع المعيشية بسرعة رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة، والثانية إصلاح التشريعات والسماح بحرية أكبر للتعبير وعدم السطو على مقاليد الحكم كما فعل النظام السابق في عهد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة.
وترى الخبيرة في الشؤون السياسية لويزة إدريس آيت حمادوش أن فرضيتي استئناف التظاهرات من عدمها ممكنتان، لكنها تعتقد أن الأكثر ترجيحا هو استئناف التظاهرات، لأن أسباب الانتفاضة المتعددة لم تختف فحسب، بل إن “الإرادة لتغيير نمط الحكم ما زالت موجودة”.
وقد ذهبت الخبيرة الجزائرية حمادوش إلى أبعد من ذلك، حيث أكدت لوكالة الصحافة الفرنسية أن التظاهرات تعززت بسبب القمع المسلط على الحراك الشعبي وتدهور الأوضاع الصحية والاقتصادية والاجتماعية. ولفتت إلى أنه “بالبقاء سلميين ومتحضرين، أظهر الجزائريون نضجا مذهلا، فروح احتجاج المواطنين هذه تعني أنه مع أو دون تظاهرات شعبية، فإن الحراك وجد ليبقى”.
ولا يشك أستاذ الفلسفة بجامعة عبدالرحمن ميرة ببجاية محرز بويش في عودة الحراك ومتابعة نشاطه حتى تحقيق مطالب الشعب، فالجميع يرى أن توقف هذا الأمر يجب أن يترافق مع قرارات جريئة من قبل الدولة التي ستكون مسؤوليتها على المحك في سبيل توفير العيش الكريم لمواطنيها، وعدم قتل طموح من يبحث عن الأفضل والتغيير الإيجابي.
ويؤكد منصور قدير الباحث في العلوم السياسية أن الحراك ليس حركة اجتماعية منظمة وفق استراتيجية ثابتة، بل ظاهرة شعبية ضخمة بسبب تراكم الإحباطات والاعتداءات على الحريات من قبل الأنظمة السياسية الرافضة للتغيير.
ولكن هذه الحركة المتعددة الأوجه دون قيادة معينة تعاني من انقساماتها الخاصة بين التقدميين والمحافظين وبين العلمانيين والإسلاميين، ومن المرجح أن تضعفها. وقال قدير “عشرون عاما من سلطة بوتفليقة، حرمت المجتمع إلى درجة أنه لا يمكن لأي حزب أن يدعي أنه يشكل قوة بديلة”.
كما أن تعليق المسيرات لما يقرب من ستة أشهر بسبب تفشي وباء كوفيد – 19 يصعّب استئناف الحراك نشاطه. وتعتبر آيت حمادوش أن الحراك “عانى من سياسة قمعية وضعته في موقف دفاعي” حتى لو اخترع أشكالا أخرى للتعبير مثل شبكات التضامن خلال فترة الأزمة الصحية أو حلقات النقاش على المنصات الإلكترونية.
قبل سنوات قليلة فقط، روّج النظام السياسي في عهد بوتفليقة، للعديد من الشعارات الرنانة منها “جزائر العزة والكرامة”، و”ارفع رأسك يا أبي” في إشارة إلى النخوة والعزة اللتين عرف بهما الشعب الجزائري. لكن السلوكيات اليومية لفئة من الحكام والمحكومين أظهرت حجم الهوة بين الشعارات المرفوعة والحقيقة على الأرض المشفوعة بالقرائن والبراهين.
والنتيجة أن العشرات من كبار المسؤولين ورجال الأعمال والمئات من الموظفين من درجات سفلى تم جرهم إلى القضاء ثم الزج بهم في السجن بدعوى التورط في قضايا فساد.
وفي مواجهة احتجاج جامد، فشل في تغيير النظام السياسي القائم منذ 1962، تطبّق الحكومة الحالية “خارطة الطريق”، التي وضعتها بعد الانتخابات الرئاسية في ديسمبر الماضي، والتي تميزت بمعدل قياسي للامتناع عن الاقتراع بلغ 60 في المئة.
وقد وعد تبون بإصلاح للدستور يفترض أن ينهي عهد بوتفليقة، المرادف للاستبداد والفساد والمحسوبية، وبناء “جمهورية جديدة”، لكن هذا التعديل الدستوري الذي يفترض أن يعرض لاستفتاء في الأول من نوفمبر المقبل، تعرض لانتقادات من الأحزاب والجمعيات المرتبطة بـ”الحراك” والمحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان الذين استنكروا “ترقيعا” دون مساءلة حقيقية للنظام الرئاسي.
وفي الواقع يهدف هذا المشروع إلى السماح للنظام المطبّق بـ”إعادة إنتاج”، كما يقول بويش، بينما تعتبر الخبيرة حمادوش أن هذه القوة، التي جسدتها منذ فترة طويلة جبهة التحرير الوطني الجزائرية، فقدت اليوم صدقيتها إلى حد كبير، وبدأت تفقد زخمها حيث إنها فشلت في تجديد قاعدتها الاجتماعية وشرعيتها.
وتلجأ السلطات الجزائرية مهما كانت الأسماء في دوائر صنع القرار لهذا السبب من أجل استعادة خيال حرب الاستقلال (1954-1962) على عكس “الجزائر الجديدة” التي تشيد بها في الخطب الرسمية. وحتى الآن، لا يبدو أن الإصلاح الدستوري يثير اهتمام الجزائريين الذين يواجهون أزمة اجتماعية واقتصادية خطيرة.
وقد فقد العديد من العمال وظائفهم أو بقوا في حال بطالة تقنية لأشهر طويلة بسبب الوباء وتزامن هذا الوضع بشكل ملحوظ مع تصاعد الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
وأشار قدير إلى ظهور “قوى بديلة غير مرئية” مثل مجموعات في الجنوب الذين ينتفضون ضد ظروفهم المعيشية، محذّرا من أن هذه القوى “ستنشأ عندما تشعل الرياح العاصفة الكتلة الهشة مثل الخشب الجاف”.